}

والشِّعر إذا أبكى.. شهادة الحبيب السائح

عماد فؤاد 17 يونيو 2020
آراء والشِّعر إذا أبكى.. شهادة الحبيب السائح
الحبيب السائح: أزعم أن الشَّاعر وحده يُبكيه ما يكتبه
نافذة أسبوعية سؤالها بسيط لكن إجابته معقّدة: ما هي القصيدة التي تُبكيك، ولماذا؟ فكرة هذه الزّاوية جاءت من التّساؤل: هل ما يزال الشِّعرُ – في زماننا هذا - يُبكي أحدًا؟ تكاثرتْ كتبه وتراكمتْ قصائده جيلًا بعد جيل، لكن ما الأثر الباقي منها في النّاس؟
في كلّ حلقة سنلتقي ضيفًا ليشاركنا إجابته على السّؤالين أعلاه، والمؤكّد أنّنا سنقف في هذه الرّدود على ما آن له أن يُكتب، كما أنّها فرصة أخرى لاكتشاف الشِّعر وما عتم منه، أو قل: مداخل مغايرة لقراءة ما يُبكي ضيوفنا من الشِّعر، هذا.. إذا أَبكى.
هنا شهادة الروائي الجزائري الحبيب السائح:

 

*****

 

الحبيب السائح: الشِّعر العربي ما أبكى أحدا، أبدا!

للحظات كنت في حيرة من أمري؛ لم أتلق في حياتي سؤالًا شبيهًا بسؤالكم: "ما هي القصيدة التي تبكيك؟ ولماذا"؟
هذا إذا أخذت السؤال في معناه الأوّل.
إنّه سؤال مثير، أيضًا، للشجن؛ بما آل إليه وضعنا العربي الذي، لكارثيته، نزع عن شعره العربي كل رداء وتركه لعراء صحراء التوْه في "حيرة لا يهتدي".
سؤال يبدو، لوهلة قراءته الأولى، بسيطًا؛ ولكن ما إن تأتي لتطرق إجابة عنه حتى تثور في ذهنك، أنت، مجموعة من الأسئلة المتداخلة عمّا قدّمه الشِّعر العربيّ لإنسانه، غير الغنائيّات والبكائيّات والرّومانسيّات والإدانات، وما أسهم به في متن الشِّعر العالمي، ناقلًا صورتنا التراجيدية منذ حادثة السقيفة إلى يومنا هذا في العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين.
للحقيقة، كما للنزاهة، فأنا لم تُبكني يومًا قصيدة، أيّ قصيدة؛ برغم ما يبرق في ذهني الآن من مطالع لقصائد قرأتها أو كانت من البرنامج الدراسي خلال الجامعة: "هل غادر الشّعراء من متردّم ... يا دار عبلة بالجواء تكلّمي". و"قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل" والتي تبعث في نفسي، إلى اليوم، هاجس الفناء والعدم الذي يعقب؛ لأنّ الطّلل لم يكن سوى كناية عن حيرة الشّاعر أمام الموت، موته هو الذي أسقطه على المكان. كما كانت "عيناك غابتا نخيل ساعة السحر..." حفرت في سمعي هسيس النّخل قبل أن أراه عيانًا، وأنا أتخيّل السّياب في تلك اللحظة، وفي ذهنه صورة ما لامرأة ما، أكثر مما أتخيّل الحكاية. وكانت "البشرية الكبرى تسافر في القطار. تركب الدرجة الثالثة. تتزوّج في العشرين وتموت في الأربعين" لناظم حكمت (مترجمة إلى الفرنسية عن التركية)، رسخت في ذهني، أيام النضال في الجامعة، أهمّية الانتصار للكادحين. إلى غير هذا.

  "غير أن الذي كان أبكاني في نهاية مراهقتي، وبالدّمع حقيقة، هو قصّة الفضيلة (پول وفرجيني) من اقتباس المنفلوطي"


















غير أن الذي كان أبكاني في نهاية مراهقتي، وبالدّمع حقيقة، هو قصّة الفضيلة (پول وفرجيني) من اقتباس المنفلوطي.
أذكر هذه القصة، لأنها ارتبطت بأولى تجربة حب رومانسية في حياتي في تلك المرحلة من العمر! وأقدّر، اليوم، أنه لم تكن هناك أي قصيدة، آنذاك، تستطيع أن تبكيني كما فعلت قصة الحب تلك، المنتهية بفجيعة موت الحبيبين.
أحب أن أعبّر، هنا، عن ارتباكي جراء الكتابة في مثل هذا الموضوع الذي تطرحونه. فأنا لا أملك، فعلًا، ما أقدّمه لهذه الزاوية ولقرائكم الكرام.
وبرغم ذلك، أود أن أذكر أن جيلي (السّبعيني) والجيل السّابق إيّاه كان يعيش على الشِّعر. الشِّعر الذي يحمل قضية قومية وينبئ بثورة في بنيته وفي أسلوبه، أكثر مما يعيش على موضوعات السينما والمسرح، وعلى الرواية والقصة.
فمن التلطف أن أعترف أنه لم يكن مقدَّرًا لي أن تبكيني قصيدة. ولو حدث لكنت أنا الذي كتبها. وعليه، أزعم أن الشَّاعر وحده هو الذي يُبكيه ما يكتبه.
لماذا؟ لأني لا أتصوّر قارئ شعر تلتم له في قصيدةٍ ما عناصر كتلك التي تحملها رواية أو قصة قصيرة مشحونة بما يثير العواطف حدّ البكاء. لأنّ تلك القصيدة لا تسرد حيوات أشخاص تتشابه مع حياتنا فنتماهى معها حدّ أن تصير، في الخيال، حياتنا فنبكي حينها على مصائرنا.
إنك قد لا تجد، في ما تقرأه من الشِّعر العربي، هذا السّرد الذي ينشئ لك عالمًا من الأمكنة والأزمنة ومن الشّخوص؛ باثًا فيها الحياة، كما يفعله الشِّعر عند هوميروس أو دانتي أو شكسبير.
فشخصيًا لا أحصّل، مما أقرأه في الشِّعر العربي، قصة الإنسان في حالات حبّه وكرهه وقسوته وانكساره وتضحياته القصوى من أجل قضية نبيلة. فما يبقى في ذهني، غالبًا، هو صورة الشَّاعر العربي الحقيقيّة أو المتخيّلة وليس دائمًا قصة قصيدته. ولو أن ذاكرتي احتفظت له من شعره بهذه الحكمة أو تلك المقولة، أو هذا البيت الجميل في الحب، أو السطر الشعري في رسم مفارقة ما.

السائح: الشِّعر العربي ظلّ هو الشَّاعر؛ نظرًا إلى انطلاقه الدائم والمتواتر من الذاتي الجوّاني نحو الموضوعي الخارجي 


















قد أقسو على نفسي حين أعتبر أن الشِّعر العربي لا تبكي قصائدُه، لأنّه شعر يُتغنى به فحسب. وقد ظلّ، لذلك، على هامش السّرد؛ لا يحكي. لا يقصّ. لا يتدنّس بما هو يومي وبما هو من الحياة العادية والبسيطة كالفشل والتمزق والانتحار.
بل أعتبر أن الشِّعر العربي ظلّ هو الشَّاعر؛ نظرًا إلى انطلاقه الدائم والمتواتر من الذاتي الجوّاني نحو الموضوعي الخارجي، وليس تكييف الموضوعي الخارجي من أجل التوليفة الشّعرية المفارقة.
لعل عمر بن أبي ربيعة كان الاستثناء القصير والمحدود مثله مثل أبي نواس ونزار في تسريد التّجربة على بساطتها.
نحن إذ نقرأ للشَّاعر نقرأ الشَّاعر نفسه ولا نقرأ شعره. ذلك لأنَّ الشَّاعر العربي لم يفقس بيضة أناه لينظر من حوله إلى غيره، غيره الذي تأتيه منه التجربة الأخرى، غير تجربته هو، ليحوّلها قاسمًا مشتركًا بينه وبين الإنسان.
إنه لا يبكيك في قصيدة ما سوى سرد الحكاية التي تحبل بها والتي تثير في داخلك هذا الإحساس بأنّك أنت الذي يكتب أو يقول.
وللتمثّل، فأنت حين تستمع لأغنية غربية نادرًا ما لا تجدها تحكي قصة. وتستمع لأغنية عربية، حتى للمشاهير، فلا يتعدّى الأمر هدهدة فحسب على مقاطع مكرّرة لا تحكي لك قصة.
ألأنّي حاولت أن أكتب الشِّعر ففشلت يكون لي مثل هذا الإحساس تجاه الشِّعر؟
ألأني أعتبر الشّعراء بشرًا استثنائيّين والشِّعرَ جنسًا أدبيًّا فوق العادي؟
إنّي أحبّ الشِّعر الذي يسرد الحياة، مثلما تفعله الرواية، ولكن بلغته المتعالية وبإيقاعه المتناغم.
إني أتذكّر.
إن كان الشَّاعر العربي القديم تغنّى لك عبر عصور فإن نظيره المعاصر سبقك إلى البكاء في "الوتريات" و"هل أتتك الأخبار يا متنبي" و"ماذا أحدث عن صنعاء" و"مديح الظل العالي" وغيره.
بكاء بعد النكسة. بكاء بعد الهزيمة. وبكاء على الخيبة!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.