}

تعدُّد الأصوات وتواريها.. مقاربات موسيقيّة لشعر أدونيس

وسام جبران 22 يونيو 2020
آراء تعدُّد الأصوات وتواريها.. مقاربات موسيقيّة لشعر أدونيس
"الكتاب" يحتفي بالموت،الذي يراه أدونيس عنوانًا ملازمًا للواقع العربي
نقرأ "الكتاب" لأدونيس، بأجزائه الثلاثة الملحميّة الضخمة، كما لو كنّا نستمع الى قُدّاس هايدن[i] المُناهض للحرب. مائتا عام تقريبًا تفصل بين قُدّاس هايدن العاشر، "القدّاس في زمن الحرب" (Missa in tempore belli) الذي ألّفه عام 1796، وبين "الكتاب" لأدونيس. في هذه القراءة، كما في قُدّاس هايدن، لا مكان لخطٍّ واحدٍ داخل مشهدٍ نسيجيٍّ مُركّبٍ، لا يُقرأ إلاّ طباقيًّا[ii]، يحتفي بالموت، الذي يراه أدونيس عنوانًا ملازمًا للواقع العربي، عبر تاريخه؛ موت يترصّد إنسانه أينما كان، مُحاصرًا أفكاره وأحلامه ووجوده.
في السّرديّات الكُبرى[iii]، تتعدّد المشاهد وتتشابك الخيوط، وتتخذ الخيارات الفنيّة الجماليّة مواقعها على مستوى الشّكل الهندسي وعلى مستوى المُفردات والمعاني؛ على مُستوى المنطوق وعلى مستوى الصّامت المتواري في الشّكل وفي المعنى. ففي حين يخلو قُدّاسُ هايدن من أيّ تعبير صريح عن مناهضة الحرب (التي أعقبت الثورة الفرنسية)، مُختارًا مساراتٍ مُواربة وأدوات تعبيرٍ تنطلق، لا من المنطوق الكلامي أو الموسيقي، بل من طبيعة اللغة الموسيقيّة غير المُستقرّة، فإن أدونيس، وبالإضافة الى لغته المُخلخِلة، اختار، فنيًّا، أن يحشُد، وعلى نحوٍ صريحٍ، تاريخ القتل والوحشيّة بوصفه حاضرًا موغلًا في الماضي والمُستقبل في آنٍ معًا.

تحت عنوان "فاصلة استباق"، يكتب أدونيس مقولته الأولى في "الكتاب" الثالث، والتي يبني عليها مجمل كتابه، بوصفها فكرةً أساسيّة يقف عليها النصّ، تمامًا كما فعل بتهوفن في سمفونيّته الخامسة التي تتكون من "موتيف" صغير، لكنه يُشكّل الفكرة المركزية التي تقوم عليها السمفونيّة بأكملها، والتي وصفها هوفمان بكلماته المؤثّرة: "حُزمٌ من الأشعّة المتألّقة تنبثق من عمق فضاءات الليل، فنتيقّظ إلى الظلال العملاقة التي تتأرجح من حولنا مدمِّرةً كلَّ شيءٍ فينا باستثناء ألم الحنين اللانهائيّ؛ حنين، كلُّ لذّةٍ تعلو مع ابتهاج نغماته، إنما تغور وتستسلم. وعبر الألم وحده، الذي يُتلِفُ دون أن يُدمّر الحبَّ والأملَ والمُتعة، يسعى الى إشعال قلوبنا بالتّناغماتِ الصّائتة للشّغف والشّهوات التي نحيا بها ونفتتن بقدرتها على أسر نفوسِنا".[iv]
لا تنفكّ التطوّرات والاحتدامات المتلاحقة بصخَبٍ، داخل الحركة الأولى من السمفونيّة، تعبّر عن همّها الأكبر الذي يدلّ عليه موتيفه الاستباقيّ باقتضابٍ مكثّفٍ لا يتعدّى ثلاث نغماتٍ، تستوقف رابعتها الزمن بعلامة المكوث والانتظار الموسيقيّة (fermata). كذلك، في "فاصلة استباق" أدونيس، "في كلِّ مكانٍ/ ينتظره/ موتٌ ما"، تتلخّصُ فكرة "الكتاب" ويتكثّف همّ الشّاعر الأكبر، الذي جعل من "الكتاب" بأجزائه الثلاثة، مرثيّةً ملحميّة للموت العربي المستمر.

أدونيس: الكتاب، أمس المكان الآن، الجزء الثالث. دار الساقي، ص 155 

















لا تتعدّد الأصوات، ولا يأخذ الصّائتُ منها، أو المتواري، أيّ معنى خارج البناء الكليّ المُحكم والمتراكم. وعند أدونيس، لا تُشكّل البُنية البصريّة للقصيدة، في تعدد "نصوصها" وخطوطها وهندسيّاتها وفراغاتها، أيّ معنى، ولا تستمدّ كذلك أيّ معنى، خارج تواشجها وتشابكها مع الأفكار والمضامين والإيحاءات الشعريّة الكثيفة.
تعدّد الأصوات في شعر أدونيس يستمدّ قوّته، مفهومه ومشعورَه، من طبائع لغة الموسيقى؛ اللغة التي تتفوّق على أيّ لغةٍ في تكوينها التعدّدي، وفي قدرتها على التعبير النّسيجي، لا الخطّي، وعلى استنطاق الصّمت، الذي يحضر في اللغة كما لو أنه معجمٌ متكاملٌ ومعقّدٌ من المعاني والدّلالات والإيحاءات. وتتعدّد الأصوات، الصّائتة والصّامتة، عند أدونيس، بوصفها أصواتًا مُستقلّةً في وجودها، قادرةً على التعبير في حضورها الانفراديّ، كأيّ خطٍّ لحنيّ في مؤلَّفٍ موسيقيّ بوليفونيّ باروكيّ (نسبةً الى عصر الباروك) صارمٍ ومُحكم التصميم، لكنها تتألّق في نُقصانها؛ هذا النُّقصان أو اللا-اكتمال، الذي يمنحها القدرة على التّناسج والانفتاح على الخطوط الأخرى والتّكامل بها ومعها، الى أن تُشكّل الأصواتُ "الأفقيّة" نسيجًا عاموديًّا/ زمانيًّا باحثًا عن اكتماله عبر تشكيلاتٍ متواترة من المعاني، التي تتشكّل عبر سيرها وسيرورتها، داخل محور الزمن، لا خارجه: لا قَبْليًّا ولا بَعدِيًّا، بل هنا، في كلٍّ لحظةٍ تُستَنْطَقُ فيها الخطوط الصّوتية بكل مكوّناتها الصّغيرة والكبيرة، وفي كلِّ لحظةٍ تتشابك فيها الخطوط فيما تقوله وفيما تصمت عنه.

في هذه التشكّلات اللحظية ولادات متتالية، لا تكتمل معانيها داخل اللحظة ذاتها بقدر ما تمتح من النّسيج العام الأكبر وتتداعى فيه، مما يفتح النصّ (التّناسُجيّ) على قراءاتٍ متعدّدة، تُضيف إلى الكتابة المتعدّدة تعدّدًا في النّبر وفي النّظر وفي التّأويل.

"في كُلّ مكانٍ ينتظره موتٌ ما"[v]. هذا ما نقرأه في أحد الأصوات الجانبية، في هندسةٍ عاموديّة على شكل "ألفٍ"؛ ألف البدايات، كما في الأبجديّة، كذلك في "النّهوض" المنوط بالإرادة. وعلى رأس هذه "الألف" صوتٌ آخر يقول: "إنها أرضهُ التي ينتمي إليها، -"، ثم يستمر الصّوت موازيًا مُعارضًا، مُحاذيًا مُفترِقًا، ومُظلّلًا مُضيئًا، في آنٍ معًا، كما في المكان/ الفراغ، وكأننا نستمع إلى "فوغا" (fugue) ليوهان سيباستيان باخ، فيتراكم المعنى وينبَني رويدًا رويدًا:

"... تنحني كأنها الياء.

ويريد أن تنهضَ كأنّها الهمزة على ألف الطبيعة"

أدونيس: الكتاب، أمس المكان الآن، الجزء الثالث. دار الساقي. ص 7 

















فبينما "الموت [الذي ليس من فعل الطبيعة] ينتظره في كل مكان" في الصّوت الأول، فإن "الانتماء"، في الصوت الثاني، ينحني كالنهايات، في وقتٍ تكون فيه الولاداتُ فعلَ إرادة، وابنة الطبيعة.
في ثباتِ الانتماء موتٌ يضعُ الانتماءَ أمام مساءلات التّحوّل. هذا الموت، الذي يُخيّم على المشهد العربيّ بأكمله، هو موتيف صوت البداية الذي لا يكتمل أو ينغلق عند ظهوره الأول، بل يتنامى ويتدحرج في النصوص ككُرة ثلجٍ، مُتشكّلًا داخل سيروراته "يسيرُ، ويجهلُ/ من أين يأتي الى أين يمضي" (ص 40). "في كلّ مكانٍ ينتظره موتٌ ما" (ص 7)، هكذا يبدو صوتُ الموت المِلحاح (الذي ينتظر في كلّ مكان) في ظهوره الأول، ثم يعود ويتضافر مع النصّ في ظهورٍ آخر، يُلصِقُ قطعةً من الفسيفساء المتناثر الى سابقتها: "حَرْبَةٌ تَقْتَفيه" (ص 40)، فيُضيف الى المعنى بُعدًا جديدًا وتتّسع الصّورة الناقصة، لا لتكتمل بقدر ما تُمعن في نُقصانها. فإن العيش داخل هذا الانتماء/ الوفاء المُميت، هو أشبه بمن يعيش داخل وهم ضَوءٍ لا يُفضي إلاّ الى عتمةٍ: "وأنا أحيا/ في ضوءِ وفاءٍ يُوشكُ أن يرْميني/ في ظُلمةِ جُبٍّ" (ص 43). وفي هذا الانتماء النائم في سرير الطُّمأنينة مقتَلٌ، كما نتعثر، في شذرةٍ أخرى، بأدونيس متسائلًا: "هل أقول: سريري/ قاتلي وأميري؟". وهكذا، يُمكن رسم مسارٍ أو أكثر لخطٍّ بعينه، يظلُّ مسخًا خارج النّسيج متعدّد الخيوط.
تعدُّديّة الأصوات، ليست مسألة شكلٍ في شعر أدونيس وحسب، بل هي، كما في لغة الموسيقى، في صلب الفكرة والمقولة، في أنْوِية المؤّلَّف، في عالمه الصُّغريّ (micro) وتفاصيله الأولى، كما تنعكس على عالمه الكبير (macro)؛ في التّداعياتِ والمسارات العاموديّة المترابطة. ففي داخل الخطّ/ الصّوت الواحد تعدّديّةُ "في كلّ مكان" تُحاصرُ. وتعدّديّة "ينتظره"، حيث الانتظار تأجيلٌ للإجابات والنهايات، يفتح النصَّ على احتمالاتٍ متعدّدة، ويُحيل الزّمنَ من الانغلاق والاكتمال داخل الإجابة، الى الانفتاح على أسئلةٍ لا تُفضي إلاّ الى مزيدٍ من الأسئلة، ومزيدٍ من النُّقصان واللا-اكتمال. والتّعدُّديّة في كلمة "ما" التي تجعل من الموت أنواعًا وأشكالًا، لا واحدًا ضمنيًّا متوقّعًا.
يسير الخطّ الواحد بخُطى المتعدِّد جنبًا الى جنبٍ مع "همزة" الانتماء الى الأرض التي تنحني "كأنّها الياء"، وبين إرادة نهوضٍ "كأنّها الهمزة على ألف الطبيعة". هكذا، في الخطّ/ الصّوت الثاني، تتعدّد "الأرض" في معانيها. فمن جهةٍ، ها هو الانتماءُ بوصفه انحناءً وانتهاءً، يجعل من الأرضِ وطنًا نافيًا، ومن جهةٍ ثانية ها هي الإرادة بوصفها نهوضًا لا مُنتميًا، أشبه بالهمزة المنفصلة عن ألفها المُنتصبة، مُحلّقةً فوقها على أرضٍ هي الطبيعة، ولكن، من جهةٍ ثالثة، فليست الأرض سوى الذّات عينها بوصفها آخرَ مُرَكَّبًا من "آلهة الحواسِ".

في بوليفونيا باخ (أي في أصواته المتعدّدة المتقابلة)، كما في شعر أدونيس، لا مكان للنهايات والخواتم والحلول؛ كلُّ تداخلٍ جديدٍ يولّد من التّنافرات بقدر ما يُولّد من التّناغمات، وفي كلّ التقاءٍ وتقاطعٍ بين الأصوات ثمّة افتراق وتباعد. إنّها سيرورةٌ لاهثة باحثة، لا راحة فيها لشهيقٍ أو زفيرٍ، عصيّة مثل سرٍّ لا فكاكَ له في الفضاء، ولا يُرتَق إلاّ بفَتْق نسيجه خيطًا خيطًا. وإنها سيرورةٌ سَهْمِيَّةٌ لا تسمح بالعَوْدِ إلى الوراء، إلى البدايات، إلا في سبيل "حَرْثِها" وإعادة استذكارها فتغييرها وقلبها وإحيائها بسائل الحياة الذي لا اسم له غير الرّغبة التي تقود وتدفع وتُولّد باستمرار حثيث. الحنينُ هنا، هو حنينٌ الى المُستقبل عبر الرّغبة.
يتعدّد الصّوتُ بتعدّد طاقته التأويليّة، ويتعدّد الصّوتُ، كذلك، بتفكيك معناه وبُنيته المطمئنّة السّاكنة، خلخلتها، وفتحها على آفاقٍ جديدة للمعنى أو اللامعنى.
الجملُ الموسيقيّة البدئيّة في موسيقى باخ متعدّدة الأصوات، تتوخى الإفصاح عن "انتماءٍ" ما، نألفُهُ ونطمئنُّ إليه؛ انتماء توناليّ[vi] بُنيويّ بامتياز، تمامًا مثل عبارة: "إنها أرضُه التي ينتمي إليها". لكن باخ لا يبني إلاّ لكي يهدم، يُفكّك، يصدُم، ويُفجّر المعنى بحيث يُفصح عما لم يُفصِح عنه من قبل. هنا تأتي تتمّة البداية البُنيويّة بوصفها تتمّةً تفكيكيّة مُخلخلة: "تنحني كأنها الياء". هذا التناشُز (dissonance) هو بمثابة سؤال بدون علامة؛ الأرضُ بوصفها انتماءً هي انحناء النهايات، وهي "موت ما"، خارج إرادة النّهوض وسِقاية الرّغبة. هذا التّناشز هو ما يُزيحُ اللّغةَ الى حيّز السّؤال والتّشكيك في طُمأنينة المعنى الرّاكد.

الصفحة الأولى من مخطوطة ""ricercar a 6" bwv 1079" ليوهان سبستيان باخ


















*

في "الأغنية المُعلّقة"[vii] للمؤلِّف الموسيقي لويجي نونو[viii]، وهو العنوان المأخوذ من قصيدة إثيل روزنبرغ (الطبعة الإيطالية) بعنوان "إذ نموت"، يضع نونو نصَّه الموسيقيّ الأوركستراليّ، جنبًا الى جنب، مع مختاراتٍ من نصوصٍ لجوليو إينودي مثل "Lettere di condannati a morte della Resistenza europea"، نشرها عام 1954، وهي مجموعة من رسائل الوداع التي كُتبت الى الأحبّاء من قبل مقاتلي المقاومة الأوروبية الأسرى قبل وقت قصير من إعدامهم من قبل النازيين. هنا، الوثيقةُ تصير الى عملٍ فنيٍّ بصوت المؤلِّف/ الشّخص الفردانيّ، وتصيرُ الموسيقى الى وثيقةٍ تؤرّخ للموت والوحشيّة.
بالمقابل، في "الكتاب" (بأجزائه الثلاثة)، يضعنا أدونيس أمام نصٍّ "مُعلّقٍ"، "عائمٍ" و"متقطّعٍ"، بين ما هو شخصيّ (محض أدونيسيّ) وآخر معرفيّ إحاليّ وثائقيّ. لكننا في مؤلَّفِ نونو كما في نصِّ أدونيس، لا نعود نفصل بين القراءتيْن إلاّ في الشّكل المنظور/ المسموع، دون أن نتمكّن من تحرير النصّ الشخصيّ الإبداعيّ الشّعريّ/ الموسيقيّ، من ظلال الوثيقة، كما نعجز عن فهم الوثيقة خارج تأويلات النصّ الفنيّ وإيحاءاته.

صفحة من مُدوَّنة "Il canto sospeso" للمؤلف الموسيقي الإيطالي لويجي نونو Luigi Nono 


















هامش "الذّاكرة" في نصوص أدونيس[ix] يُحيلنا الى هامشٍ آخر على يسار الصفحاتِ. ثمة مادةٍ توثيقيّة معرفيّة تاريخيّة، لكن استعادتها في الذاكرة يجعلها بنت اللحظة؛ لحظة الاستعادة نفسِها، ظروفها، أسباب وشروط استدعائها. هنا، يصبح الزمن مُستعادًا بالمعنى الأخلاقيّ فقط، وعبر الذاكرة، ليولد من جديدٍ ليحقّق شرطه الإبداعيّ داخل النصّ الحاضر؛ لا الحاضر في وجوده كنصٍّ جديد وحسب، بل مع كلّ قراءةٍ جديدة له.
في المتن المؤطّر نصّان، تحت عنوانٍ يقتصر على صُواتيّة أبجديّة مجرّدة، هما صوت الشاعر المتعدّد في تقابل بوليفونيّ وتعارضٍ، لا بين نصوصٍ متعدّدة في شكلها وهندستها وحسب، بل بين ما هو شعريّ وما هو سياسيّ؛ إنه تواشجٌ يتعدّى مكوّنات النصّ واللّغة في ذاتها، إلى تعالقٍ مع نصوصٍ تحتيّة وحقولٍ معرفيّة خارج الشّعر وخارج الموسيقى.
كما هي الحال في "الأغنية المعلّقة" لنونو، التي تُقيم مرثيّةً (epitaph) لجموعٍ مجاهيلٍ بصيغة عبر استذكار أفرادٍ بعينهم، فإن نصوص أدونيس في "الكتاب" تشكّل كذلك "تُحفةً تسلسليّة" (serial masterpiece) تقيم المراثي لكُثُرٍ عبر أسماء بعينها. لكن التّسلسل هنا لا يعني التتابع، فمعنى التسلسل (serialism) في الموسيقى هو استخدام سلسلة من النغمات (الأصوات) والأزمان (الأوزان) والدّيناميكيّات (قوة النبرة والمزاج أو ضعفه) والألوان (طرق التعبير)، خارج النظام التوناليّ التقليدي المألوف للأذن العاديّة غير المُدرّبة على الاستماع إلى لغة موسيقيّة معقّدة ومعنيّة بطرح ومعالجة موضوعاتٍ غير مسبوقة كالخوض في وحشيّة القتل النازي في القرن العشرين عند نونو، ووحشيّة القتل والإقصاء في التاريخ الإسلامي عند أدونيس. في هذا الخروج عن اللغة المألوفة والشكل التقليدي عند الاثنيْن (نونو وأدونيس) حاجة جماليّة تُتيح للعمل الفنّي أن يرثي التاريخ والحاضر، وأن "يُحاكمهما"عبر النّسق البوليفوني التّعارضي والتّقابلي للنّصوص وما تحتها من سياسي أو جرائميّ أو دينيّ أو أيديولوجيّ.. إلخ، إنه الصّوت الذي يُضيء، فلا يكشف الجزئيّ ويستنطقه إلا كي يُلمّح ويُشير الى أصواتٍ أخرى متوارية حاضرة بصمتها الكُليّ.


إن النظام التسلسُليّ (serialism) في الموسيقى، كما في شعر أدونيس، يُلغي نقطة الارتكاز اللحنيّ التي تُشكّل نقطة بداية ونهاية ثابتتيْن وآمنتيْن، يبدأ اللحن منها بالضّرورة، وينتهي إليها بما يتّسق مع كلّ التوقعات. في هذا الإلغاء تعبيرٌ صارخ عن حالة التّناشز التي تُعالجها النصوص، ومقاومة صريحة للتعبير الإقفاليّ اليقينيّ في سبيل التعبير عن وحشيّة التاريخ والعصر، وبشاعة السلوك الإنساني، ومُساءلة مُلحّة للمعنى بحثًا "عن طينةٍ ثانية"، بعد أن فقدت الأرض تناغمها، وأضاع النّاسُ أشكالَهم، بحسب أدونيس.
كما تتعدّد الأصواتُ، تتعدّد التّفجيات والمسافات الفاصلة بين النّصوص المرئيّة/ المسموعة. في هذه المسافات "الفارغة" مساحةٌ لربط خيوط النسيج المتشعّب والمتراكم والمتشتّت في تيهه الكبير؛ مساحةٌ متروكة للقارئ ليُعيد تشكيل النصّ وخلقه عبر القراءات. فما الذي يقوله الفراغ بين "في كلِّ مكانٍ ينتظره موتٌ ما"، وبين "الإنسانُ كلامٌ/ خيرٌ أن يتناثرَ تيهًا/ في دفتر حبٍّ"؟

بداية السمفونية الخامسة بسلم دو صغير، تصنيف 67 


















في الموسيقى يحكمنا الزمن. التسلسل الزمني هو القُماشة التي تتشكّل فوقَها الصّورة الكاملة، وفي "كتاب" أدونيس، ثمة سرديّة زمنيّة تسلسليّة ترسم خطًّا رابطًا للنصوص. لكن النّسيج الموسيقيّ، أو الشّعريّ، حين يتحرّر من خطّيّته المسخيّة الواحدة، متشكّلًا عبر خيوطٍ متعدّدة، يمنح أحدها معنى للآخر، يصير بالإمكان الدّخول والخروج من "زمانيّة" النصّ النسيجي من أيّ نقطةٍ نختارها، حيث يُصبح "تشتّت" النصّ المتعدّد شرطَ ترابطه المتغيّر مع القراءات، ويصير تيه اللغة هو عينه خارطتها، ولا يكون اكتمال المعنى داخل النسيج المعقّد، إلا بقدر نُقصانه في الخطوط منفردةً، ولا يرتفع النصُّ، جماليًّا، إلا بمقدار "سقوطه".
أفلا يقول أدونيس: "علّمينا هَواكِ، خذينا لأحضانك الحانيهْ/ أنتِ، يا هذه الهاوية"؟

 

 الهوامش:

[i] Franz Joseph Haydn (1732 – 1809) 

[ii] Contrapuntial

[iii] Grand narratives

[iv] E. T. A. Hoffmann, Allegemeine musikalische Zeitung 12, nos. 40 & 41 (4 & 11 July 1810): cols. 630-42 & 652-59. Citation in col. 633.

[v] أدونيس، "الكتاب، أمس المكان الآن"، الجزء الثالث. دار الساقي. ص 7.

[vi] التوناليّة في الموسيقى هي نظام نغمي مُغلق له درجة ارتكاز يقينيّة محدّدة سلفًا، يبدأ اللحن منها (عادةً)، وينتهي إليها (غالبًا). 

[vii] Il canto sospeso (1955-56)، وتعني الأغنية المعلقة أو العائمة floating، أو المتقطّعة interrupted.

[viii] هو المؤلّف الموسيقي الإيطاليّ Luigi Nono (1924 - 1990)

[ix] نص أدونيس في الصورة، من "الكتاب، أمس المكان الآن" الجزء الثالث. دار الساقي، ص 155.

*مؤلف موسيقي وشاعر- الناصرة. درس التأليف الموسيقي في موسكو وبرلين وعواصم أخرى وحاز على الدرجة الأكاديمية الثالثة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.