}

نازك ضمرة ورواية مخطوطة.. عاشق سردية فلسطين

محمد المشايخ 30 يونيو 2020
آراء نازك ضمرة ورواية مخطوطة.. عاشق سردية فلسطين
الأديب الفلسطيني الراحل نازك ضمرة (1937 - 2020)

أرسلت فجر أمس وردة للقاص والروائي، نازك ضمرة، المقيم في أميركا، أطرح من خلالها الصباح عليه، فجاءني الرد من زوجته أم خالد: نازك مات قبل ساعتين! وبذلك فقدت الساحة الثقافية العربية أديب الشتات الفلسطيني، القاص الملتزم بالهموم الوطنية لأمته، عاشق عمّان ورام الله التي أنجبته، والقاهرة، والإسكندرية التي احتفلت بقصصه ورواياته قبل أشهر، وتونس التي استضافته وكانت رحلته الأدبية إليها مؤخرًا. قبل أيام أرسل لي هذا المبدع، عاشق فلسطين، والمتتبع لنزوح ولجوء أبنائها إلى مخيمات الشتات رواية مخطوطة (أوطانٌ ورجالٌ في حياتها). تنتمي هذه الرواية إلى سلسلة الروايات العربية المتخصصة في الصراع العربي الصهيوني، والحروب التي اندلعت إثره، وما تلاها من نزوح ولجوء وتهجير قسري، بدأ إثر نكبة 1948، ونكسة 1967، وامتدت آثاره إلى 1990، حين غادر اللاجئون الفلسطينيون الكويت. وفي الوقت نفسه تنتمي هذه الرواية إلى سلسلة الروايات العربية المتخصصة بالمرأة وحقوقها، حيث أطلعتنا على أدق التفاصيل المتعلقة بأسرار البيوت، والمجتمعات، وما فيها من علاقات جنسية تصل أحيانًا إلى حد الاغتصاب، بالإضافة إلى ما كشفته من خلافات عائلية كانت تؤدي أحيانًا إلى تمزيق النسيج الاجتماعي.
ثمة ذاكرة قوية تمتع بها الروائي المبدع، نازك ضمرة، مكنته من الإمساك بجميع خيوط الرواية برغم كثرتها، ليوصل لنا خلاصة حمولته الفكرية، المتمثلة في الدعوة إلى التمسك بالأرض الفلسطينية، وبحق العودة إليها، وفي الوقت نفسه، إجراء إصلاح اجتماعي يؤدي إلى تغيير إيجابي في السلوك، لضمان حقوق وسلامة المرأة وعفافها وشرفها وشرف عائلتها من

الشواذ وضعاف النفوس.
وقد اتسمت هذه الرواية بنهاية مفتوحة، أعطت قراءها فرصة استشراف مستقبل شخصياتها وأحداثها، ومنحتهم الحق في تصوّر الخيارات، أو الاحتمالات المتوقعة لكل منهم، وكان ذلك بسبب الكورونا التي حرمت مبدعها من فرصة مجاراة خيوطها، الأمر الذي قد يحتاج لعشرات الصفحات الإضافية.
في الرواية المخطوطة (أوطان ورجالٌ في حياتها)، روائي سارد يتحمّل عبء السرد نيابة عن سارد خارجي، ليقدّم لقرائه سيرة فردية ارتبطت بشخصية بطلتها (سمحة)، وزوجها الأول (رعاش)، وزوجها الثاني (درويش، وشقيقه مستنير)، ووالدها (حمشان)، ووالدتها (فتوحة)، وابنها (مسامح)، وزوجة ابنها (ديما)، وشقيقها الكبير(سمحان)، إلى جانب عدد من الشخصيات الفرعية.
ويقدم ضمرة في روايته أيضًا، إلى جانب السيرة الفردية لتلك الشخصيات، سيرة غيرية شعبية جماعية فلسطينية وعربية قومية، من خلال تقنية التناوب، وهي توليفة بين المساقات السردية التي تتناوب في أثناء السرد، لتـُبرز التزام الكاتب بالهموم الوطنية والاجتماعية للأمة، وإدراكه للفروق الواسعة بين إبداع الرواية، وبين كتابة التاريخ، أو تدوين المواثيق الخاصة بحقوق الإنسان عامة، وحقوق المرأة خاصة، ومن هنا كانت روايته بعيدة عن المباشرة من جهة، وعن التسجيلية من جهة أخرى.
كان نازك ضمرة هو الراوي العليم، الذي يمتزج وعيه بوعي الشخوص وعالم الرواية، بعد أن كلـّفته بطلتها، في حيلة سردية قد لا تتكرر، أن ينوب عنها، في إعادة صياغة قصة حياتها والتعبير عما جرى لها بصدق وجمال، وقد نجح في ذلك أيّما نجاح، بدليل هذا التشويق، وهذه الجاذبية التي أضفاها على السرد، حتى حرم قراءه من فرصة إغماض أعينهم، ولا سيما عند المشاهد الساخنة التي بثها، إلا بعد عودة كل منهم من بحره مرتويًا.
أبدع نازك ضمرة روايته بجرأة وانطلاق، وفي مواقف كثيرة، كان يـُشعر القارئ أنه يطالع لقطات ومشاهد سينمائية، أكثر من مطالعته لمادة مكتوبة، هذا عدا عما في روايته من لوحات تشكيلية بصرية، امتزجت فيها روعة الوصف المادي، مع المشاعر والأحاسيس والعواطف المعنوية.
تتنوّع شخصيات الرواية بين النوع الواعي والناضج وطنيًا واجتماعيًا، وبين الشواذ والمُدمرين أخلاقيًا وإنسانيًا، وكان كل هم الروائي خلق شخصيات علاقاتها الإنسانية متينة، ووحدتها الوطنية ذات جذور ضاربة في أعماق التاريخ.
أضفى ضمرة على روايته بعدًا أسطوريًا حين أسمى والد بطلتها (حمشان)، وأحدث فيها تداخلًا

بين عدد من الأجناس الأدبية، ولا سيما المتواليات القصصية، ولطالما أورد فيها قصة داخل قصة، وأدب الاعترافات، خاصة أن بطلتها قالت في الرواية ما لم يقله جان جاك روسو في اعترافاته، وأدب المذكرات، وأدب المخيمات، وأحدث أيضًا تماسًا مع الأقانيم الثلاثة (الدين، والسياسة، والجنس)، وكان قريبًا جدًا من الرواية السيكولوجية، ومن أسلوب وجهات نظر الشخصيات، عدا عما بثه في الرواية من مونولوجات داخلية، ومن مؤثرات خارجية بدت من خلال تقنية الحوار الصحافي مع البطلة، ومن خلال استضافة تلك البطلة لقارئة الفنجان.
في الختام، هذه رواية أبدت سعة ثقافة الأديب نازك ضمرة، وحجم خبراته وتجاربه في الحياة، عدا عن موهبته الفذة، التي أبدعت هذه الرواية، وجعلتنا نقضي أوقاتًا سعيدة ونحن نطالع كيفية انتصار الخير على الشر.


*كاتب وناقد أردني.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.