}

كيف ستكون ثقافة ما بعد كورونا؟

وارد بدر السالم وارد بدر السالم 9 يونيو 2020
آراء كيف ستكون ثقافة ما بعد كورونا؟
(Getty)
أسئلة حقيقية كثيرة تواجه المجتمعات في العالم حول نمط الحياة العامة ما بعد كورونا، بعيدة عن خيال الكتابة والآراء المتعددة في شأن توجه المجتمعات في ما بعد الوباء. ولعل إعادة تقييم نمطية الحياة ما قبل الوباء هي الحقيقة الأكثر تماسًّا مع معطيات الوباء وتأثيراته المخيفة على السلوك البشري والصحة العامة، وما أفرزه من تباعد اجتماعي بالحجر المنزلي، وتعطيل الوظائف، والسفر والاحتكاك اليومي. ومن ثم فرض واقع جديد بملامح، وإن لم تكن غير واضحة حتى الآن، لكن ما يقوله الأطباء والمختصون النفسيون والسياسيون والاجتماعيون بأن ما بعد كورونا سيكون مختلفًا، وأن الحياة اليومية بمشتقاتها ونوافذها المتعددة، ستنحو منحًى آخر هي غير ما كانت عليه. وهذا يعني أن مختلف الأجيال البشرية ستدخل في حاضنة جديدة من حواضن الحياة بآفاقها الكثيرة الاجتماعية والاقتصادية والمعرفية المتنوعة. ومنها الحياة الثقافية المقرونة بالمعرفة من علمٍ وقراءة وكتابة وخيالات رومانسية وجماليات نافذة في الجسد الاجتماعي، وقريبة من المشكلة الوبائية. بمعنى أنها قريبة من معطيات الوباء وتأثيراته الرئيسية في تشكّل وعي إنساني جديد قادر على هضم الأفكار الجديدة واستيعاب نتائجها كيفما كانت.
حتى الآن؛ ومع الملل الذي تضيق فيه الأنفاس بالوتيرة اليومية المحكومة بالممنوعات الكثيرة، وفقدان شروط التواصل الاجتماعي؛ بقيت شبابيك التواصل الاجتماعي مفتوحة بمختلف مسمياتها وتوصيفاتها الإلكترونية. تساعد البشرية على التواصل الافتراضي، ومعاينة وقائع الوباء، في مشهدية عامة يراها الجميع. وبالتالي، يمكن فحص النوع الثقافي والجمالي الذي يتداوله الناس في هذه المحنة العصيبة. ومن ثم يمكن قياس معطيات الواقع الثقافي حتى الآن، وتوصيف نوعه المحتمل ما بعد كورونا، في الأقل، ما يتعلق بالتلقي العام، وكيفية التعاطي مع مستقبل القراءة في الواقع العربي، مثلًا، ومدى تحولاته الفكرية والمعنوية والمعرفية مع هذه الجائحة العالمية، التي ربما ستغير كثيرًا من القناعات على المستوى الثقافي والجمالي بشكل عام. فالحقيقة الثقافية المغايرة والمتحولة؛ بفعلٍ خارجي ضاغط؛ تعطي الفرصة الثمينة للأدباء والمفكرين في أن يعالجوا المستوى الخيالي والفني لكتاباتهم. ويغيّروا مفاهيم الكتابة القارّة إلى
مستويات جديدة من الوعي الفني الخلاق، وهذا في طبيعته يغيّر نوع التلقي العام، ويبحث عن قارئ آخر. فالأزمات الكونية تفرض أنموذجها الكتابي والفني في تقنيات أسلوبية ستعبر مصطلحات ما بعد الحداثة، وما بعدَ بعدِها، إلى الأنموذج الحي المعاصر الذي سيتولى إدارة أزمة الكتابة من جديد بظهور جيل جديد يستوعب العالم الجديد، الذي سيظهر بعد كورونا في معاملاته السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والإلكترونية، ومن ثم الثقافية والفنية التي ستصهر الآداب والفنون في جحيم الحداثة الجديدة؛ مثلما حدث بعد الحروب العالمية، وظهور تيارات أدبية وفنية، كالدادائية والسريالية والتعبيرية والتجريدية. هذه كلها هاجمت تقليدية الفن السائد قبل الحروب العالمية، لا سيما الدادائية التي اهتمت بالشعر الصوتي، ونحت منحًى شكلانيًا فيه كثير من الثرثرة اللفظية، بغرض التأثير على اللغة و(تخريبها)، كنوع من أنواع التمرد على الحرب؛ ومثلها سريالية الأدب التي نادى بها أندريه بريتون، وتُعنى بالكتابة التلقائية عبر التداعيات الفرويدية الحرة للوصول إلى ماهية العقل البشري.
الحقيقة الثقافية ليست غائبة علينا في هذا المدى المريض. وكشفت في الأشهر الماضية نوعًا من التماهي معها في منافذ الاتصالات الإلكترونية، لا سيما القراءة التي امتصت كثيرًا من الفراغ البشري المفاجئ. والعودة إلى السينما ومشاهدة العروض المختلفة والبرامج التلفازية ذات النوع الاجتماعي. والسماع الموسيقي للسمفونيات العالمية. والبحث عن المعطيات العلمية القديمة والجديدة لمتابعة تاريخ الأمراض الوبائية التي تجتاح العالم كل قرن. وتصفح الكتب العلمية ذات النمط التعليمي. والعودة الدينية (الموقتة) لتأصيل الفطرة الإنسانية بالتشبث بالسماء في مثل هذه الظروف الحاسمة.
هذا السلوك القرائي و(التطفل) المعرفي الذي أفرزته كورونا بالعزل الإجباري قد يكون موقتًا، كنوع من الفضول الإنساني للعودة إلى التاريخ وكوارثه. وإملاء الوقت الذي يتثاقل يومًا بعد
آخر، وتصفية الذات من شوائب الحياة المتعددة. لكن ما يمكن تأسيسه على المدى المقبل هو جملة من الاستباقات التي نراها ممكنة جدًا، وعلى هذا الإيجاز:
أولًا: بغياب الصحافة اليومية والأسبوعية والشهرية والدورية، أثبتت المواقع الثقافية الإلكترونية بأنها خارج سياق الوباء. وأنها البديل الأكثر واقعية للفراغ الثقافي بجملته. وأنها الأكثر انتشارًا من الصحافة اليومية، والأكثر تماسًّا مع الحياة. بسبب استجاباتها السريعة للأحداث الثقافية اليومية، بقلة كوادرها، وتعاملها الإلكتروني السريع.
ثانيًا: سيأخذ الأدب الرقمي مجالاته الواسعة في الانتشار بديلًا من الطبع الورقي المعتاد، مما سيسبب تقاطعات غير سهلة مع دور النشر التي تتعامل مع الورق الثقافي بديلًا من الورق الإلكتروني. وبالتالي، فالفجوة التي ستحصل بين الكاتب ودار النشر فجوة طبيعية أملتها ظروف الوباء، والانتباه إلى معطيات التكنولوجيا الإلكترونية الجبارة الرافدة للنوع الثقافي بإيجاد قارئها الجديد المتضامن مع هذا الأسلوب المتقدم ومباشرة العلاقة معه.
ثالثًا: عزلت منجزات الثورة الإلكترونية الشعر بصورة واضحة على حساب السرديات الروائية والقصصية والسيرية. وستكون العزلة أكبر ما بعد كورونا. وهذا ليس من خيال التوقع. بل هو ما متاح من متابعة حميمة لمنجزات الآداب في العقدين الأخيرين في الأقل التي بشّرت بثورة سردية عاصفة تحققت فعلًا، على حساب الشعر والمسرح أيضًا الذي ضاع في زحمة الروايات وجوائزها ومنجزاتها الفردية.
رابعًا: تنشيط سرديات الخيال العلمي بمختلف خيالاته الممكنة وغير الممكنة. لكن هذه المرة
ستكون القواعد العلمية والطبية أحد أهم مرتكزاته الفنية. مثلما هي تاريخية الأمراض والكوارث الطبيعية التي تحدث دائمًا في العالم. وستكون مثل هذه السرديات أكثر قبولًا في التلقي العام الآن ومستقبلًا، بسبب ثقافة الحياة الجديدة. والنزوع إلى فهم الكون ومنقلباته المئوية الوبائية التي تجتاح الكرة الأرضية.
خامسًا: العزلة القسرية ستحدد آفاق العلاقة الإنسانية مع الطبيعة الأم التي أُهملت بسبب الحياة الصناعية والتكنولوجية العارمة، وتأخر الاهتمام بها واقعًا وخيالًا في أبجدية الاهتمامات اليومية التي يعيشها البشر، وبالتالي فإن هناك نوعًا سرديًا جديدًا سيظهر لمعالجة هذه المشكلة، والنظر إلى علاقة الإنسان بالطبيعة بجمالية نافذة فيها الكثير من التجديد والابتكار الفني. وليس مهمًا تحديد النوع السردي الجديد وتوصيفاته بقدر ما نشير إلى ممكناتٍ أدبية رافدة إلى مشهدية الثقافة البشرية بوصفها إنتاجًا عقليًا مشتركًا.
سادسًا: العزوف عن أدب المدينة الفاسدة - الديستوبيا –، باعتباره عالمًا غير فاضل؛ محكومًا بالشرور والقتل والتخلف والجهل والمرض والخراب والفساد واللاإنسانية. وهو العالم الذي نعيشه اليوم بكامل تفصيلاته الواقعية. وبالتالي فستتحكم ثقافة ما بعد كورونا بالنوع الثقافي والأدبي في إدانة الواقع ومعطياته المخيفة إلى واقع ليس بالضرورة أن يتشابه مع مدنٍ فاضلة في يوتوبيا الخيال والكتابة. لكنه عالم أدبي سيؤسس لنوافذ جديدة ومعطيات نقدية أكثر تماثلًا مع واقع ما بعد الوباء المَرضي.

(بغداد)

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.