}

إلياس فركوح.. عالجَ الموتَ على هواه

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 18 يوليه 2020

في مقالٍ منشورٍ له في "ضفة ثالثة" بتاريخ 22 أيار (مايو) 2019، تحت عنوان "أعالجُ الموتَ على هواي"، يكتب الأديب والمترجم والناشر الأردني إلياس فركوح (1948-2020) الذي ودّعنا ظهر الأربعاء الماضي (15 تموز/ يوليو 2020)، قائلًا لنا إن فكرةُ الموتِ لم تشغله كما انشغلَت بها "أعدادٌ لا تُحصى من الناس، ولا تزال، بمن فيهم كُتّاب وفنانون بالطبع. كما لم تحتلّ أسئلةُ الفَناء البشريّ، الفرديّ، حيّزًا في حواراتي مع نفسي ومع سِواي".
أول مرّة واجه فيها صاحب المسيرة الممتدة والمتدافعة في آن، الموت، كانت في طفولته المبكرة، عندما أرغمته مريم (صبية علاقته الأولى مع المرأة)، كما يسرد في "أرض اليمبوس" (2006) روايته التي لامست حدود البوكر العربي، على حضور جنّاز وقدّاس داوود الذي شرق في فطيرة سبانخ مسروقة، فخرج من التجربة بقلب ضعيف لم يمهله بعد حادثة الفطيرة سوى أيام معدودات، وإذا به مُمدّدًا في ساحة الهيكل داخل كنيسة الروم الأرثوذكس "متقشّرة القبّة" وسط العاصمة الأردنية عمّان، "مطروح على ظهره داخل خشب صندوقه الرخيص" (الرواية 77)، "لم يحلقوا له ذقنه النابتة" (78). "كان رجلًا كئيب الوجه، كأنه شمعٌ خالص، بذقن غير حليقة، بشعر أسود مفروق من الوسط، وبعينين مغمضتين تمامًا. رجلًا نائمًا حتى الموت" (ص 81).
يروي إلياس فركوح أنه لم ينم ليالي طويلة بعد أن أجفله مرأى الرجل المسجّى، متخيّلًا عينيّ داوود تحملقان ببياضهما نحوه وتدعوانه إليه، وتكادان تبتلعان وجه الراوي في الرواية (والراوي هو فركوح وإن حاول في كثير من فصولها أن يكسر يقيننا حول ذلك)، حتى أنه شعر به يسحبه نحوه حيث في التابوت (الصندوق) متسع لكليهما. (ص 82).
هذا الفزع من الموت استبدله إلياس بعد تقلّبات حياة وسفر وذكريات، بين عمّان ما بين حربيْن وهزيمتيْن: النكبة (عام ولادته) والنكسة (عام انكساره وانكشاف حقائق تترى أمامه)، والقاهرة حين مدّها القومي ستينيات القرن الماضي يعانق السماء، وبيروت حين دراسة ونضال وكثير من مرارة (التجربة)، استبدله بـ"سلامٍ ما" و"طمأنينةٍ ما" حيال "الموت الذي لا رادَّ له". (مقاله المشار إليه أعلاه: "أعالجُ الموتَ على هواي" "ضفة ثالثة"، مايو/ أيار 2019).
هو، إذًا، يكتب الموت في مشاهدَ تؤكده وتنفيه في الوقت نفسه: "أُفْصِحُ عن إقراري بحقيقته من جهة، لكنني، من جهة مقابلة مضادة، أخلعُ رهبته عنه بتحويله من "حَدَثٍ قاتل" إلى "حالةٍ تَشِفُّ وتَسْمو"، إلى قصيدةٍ، أو أغنيةٍ، أو مَغْناة، أو نَشيد يرتفعُ بـ"الموتى" إلى ما فوقَ الموت نفسه، حين يكونون "ضحايا" بأثمانٍ نفيسة ذات معنى! كأني أستعيرُ، بوعيٍ أو بالقليلِ منه، التوصيفَ العائدَ للسيّد المسيح في قيامته: "وداسَ الموتَ بالموتِ".
يقول إلياس فركوح (لن أجد أنسب منه كتابة عن الموت وهو الذي يرى في الكتابة تحايلًا على الموت والجهل والغمر والظلمة، كذبًا منمقًا من زاوية أخرى، عملية حذف وإضافة من زاوية ثالثة، وأن تترك شيئًا يدلّ عليك من زاوية رابعة):
"أكرهُ الموتَ حين يأتي وحشيًّا، غادرًا، وخاطفًا للحمايةِ والغَضَاضَةِ والطفولةِ والبراءةِ في كلّ شيء. وهذا ما رسمته الفنانة الألمانية الأشهر "كاثي كولفيتز" (Kathe Kollwitz 1867-1945) في أبلغ شهادات صادمة وصارخة بالأسى والفجيعة، بالأبيض والأسود المحفور والمطبوع، وتركتها لنا لغاية توثيق الموت كحاصدٍ بَشِع عدوانيٍّ لحياة ملايين من ضحايا الحربين العالميتين: هيكلًا عظميًّا يعتصر الأجساد الحيّة من الخلف، أطفالًا، وأُمهات، وصبايا. عندها؛ لن أراه نبيلًا أو رحيمًا في أداء مَهمته. أما عنه هو، كآخر يَدٍ.. أو آخر حِضن.. أو آخر طيف.. أو حتّى كآخر صديق ورفيق؛ فلسوف أواجهه بما يليق به.. وبي". (فركوح "ضفة ثالثة").
كِتابةً (قصصًا وروايات)، واجه إلياس الموت في غير مناسبة، يعدد هو نفسه بعضًا من مواجهاته معه ومعالجاته له:
"لم أكن على دراية مسبقة، أو بالأحرى أكتبُ بتصميمٍ مرسوم، في جميع النصوص التي "واجهتُ" فيها الموت. ولستُ أغالطُ في تصريحي أنَّ تلك النصوص فاجأتني بذلك، لمّا أجريتُ مراجعة لها، بعد سنوات وسنوات. كأنها كانت "مرحلة" عشتها تزامنَ فيها الموتُ وتراصفَ مع الكتابة "المتشَعْرِنة"، متمثلةً في أربع قصص من مجموعة "إحدى وعشرون طلقة للنبيّ" (1980-1981). "مروان" القتيلُ الصغيرُ قَنْصًا، و"الرجل الذي رأى" المحكومُ بالإعدام فجرًا، و"إحدى وعشرون طلقة للنبي" المِثاليُّ في زمن إدارة الظُّهور، و"آفـو" الأرمني النَّكِرَةُ المنسيّ.
ثم، بعد ست سنوات، يتجددُ الموتُ في حالةٍ أقربَ إلى "الارتفاع والارتقاء الصوفي" أدهشتني، حين أعددتُ رواية "قامات الزَّبَد" - المنشورة عام 1987- لطبعتها الرابعة قبل شهرين! فالخطّ الموازي للتفاصيل الدموية الوحشية لطعن، وذبح، وسَحْل نذير الحلبي، السوري المسيحي، على أيدي الميليشيا المسيحية في الحرب الأهلية اللبنانية، جاءَ وكأنه الإجابة "الهازئة/ المتحدية" للفعل، وللفاعلين، وللموت في صورته البشعة والقاسية أيضًا! فعند كلّ حركة قَتْل على أرض المقبرة المظلمة المُدماة غايتها السقوط، تتلوها خطوةُ "عُروجٍ وصعود" نحو الفضاءات المُنارة بالعشق المُستعاد وسَكينة الخِتام! عِشقٌ، وإنْ بالمتخيِّل تلك اللحظات، يشكّلُ جوابًا مضادًا لسؤال الاحتضار المتدرج! وهكذا".
ثمّ، وبما يشبه خلاصته حول الموت، وخلاصة الموت حوله، يستأنف قائلًا: "وأسألُني الآن: أهذا جوابي عن سؤال الموت، الداعي لحيرة الحائرين فيه، والدافع لرعب المفزوعين منه؟".
في "أرض اليمبوس"، أكثر روايات فركوح (الصعب عادة والتجريبيّ في علاقته مع اللغة)، تشويقًا، وشغفًا بالسرد والاسترجاع وتوثيق مدونات الحروب وتداعيات الهزائم، وفي كتابته عن حرب لم تقع، لا بل وقعت، لا لم تقع، وهكذا هي الرواية من أولها إلى آخرها: لا يقين، شكّ حتى في كونه يكتب رواية أو يحاكم ذاته في المرآة، لا زمان واضح، ولا زمان مُعمّم أو معوّم، لا مكان، ولا انسلاخ عن المكان، حتى (اليمبوس) نفسه، فإنه مكان ملتبس بين الجنة وبين النار (الأعراف عند المسلمين) "لسنا في الجنة ولسنا في الجحيم، لعلنا في مطهر اليمبوس" (الرواية ص 64).
لا يقين، شكٌّ يغمر كل شيء، وبما لا يقلّ عن الغمر الذي يخبئه الليل، حيث الشرور جميعها (ص 75)، يتوه الراوي داخل سراديبه ولا يعفينا من دوامة التيه هذه: هل أحداث الرواية حقيقية؟ هل شخصياتها حقيقية؟ هل مرَّ بتجربة مريم من الأساس؟ كم ماسة يعرف؟ (كل أنثى يلتقيها لا بد إن ترسخت العلاقة بينهما أن يصبح اسمها (ماسة) بحسب قاموسه الوجدانيّ)، وكم ماسة منهن حقيقية وكم منهن من بنات خياله؟ ربما هذا ما جعله يُصدم بوجود اسم آخر لنجيب الغالبي (شخصية رئيسية في الرواية) موثق على باب بيته (عزيز رزق الله)، فلا نعود نعرف (لا نعود على يقين) هل نجيب الغالبي هو نجيب الغالبي أم الاسم المكتوب على يافطة باب بيته؟ مختلف فقرات التذكر واستحضار الذاكرة في الرواية يغلفها فركوح بغلاف سميك من الشك وعدم التيقن وغياب التعيين الأكيد: هل حدث ذلك الموقف في مدرسة (روز السحّار)؟ لعله حدث في مدرسة الراهبات في جبل اللويبدة؟ يبدو أنه حدث في القدس؟ يحتاج أحيانًا لآخرين ليؤكدوا له مفردة من مفردات الذاكرة؛ شقيقتاه، والدته، حتى مريم نفسها. هو يحتاج أن يكمل الآخرون الفراغات في رواياته، أو قل يريد، أو لعله يتخيلهم يفعلون ذلك:
"كأني أحلّهم محلّي، في أداء ما يشبه امتحان (املأ الفراغ في الجمل التالية)، كأني أجعلهم أنا، كما أجعل ماسة (الجوهرة المبرأة من أي شائبة) جميع النساء" (ص 74).
الشك يصل، حتى، لطبيعة علاقته مع النساء: "أهو الذي أعطى أم الذي أخذ؟". (ص 137).
إلياس يكره الانتظار، فهو، كما يراه، "موتٌ مُتأنِّقٌ بحكمةٍ جَبَانة" (ص 64). وخلال بحثه عن المبتدأ والخبر في رواياته وقصصه وعموم كتابته، ينتهي فركوح إلى أن "المخلوقات كافة آيلة للذوبان، وقد تكون حكمة الخلق في نقطة الذوبان هذه. إذ لا يبقى منّا، نحن المخلوقات، سوى أرواحنا المنهكة تسافر في الريح على غير هدى". (ص 67).
بقدر ما ظل إلياس فركوح متوجّسًا على صعيد يوميات الحياة، من التجربة، بوصفها، كما علّموه في دروس الدين، إحدى أخطر مكامن الشيطان، بقدر ما خاضها حتى الثمالة في نصوصه الإبداعية، ورؤاه الترجمية. حتى على صعيد النشر خاض تجربة "تباشير" بكلِّ رياديتها واختلافها ونبل مقاصدها.
بعد حشد من الأسئلة حول الحياة والموت والذين يرشّون على الموت سكّرًا، يختم فركوح فصلًا من (اليمبوس) بالقول: "لا زلت لا أعرف. لا زلت أكتب". (ص 83).
في موقفٍ طريفٍ من مواقف (اليمبوس)، يرفض (الرفاق) طلب انتسابه لتنظيم فلسطيني، فلا أرض خسرها، ومن عائلة غنية إلى ذلك: "كيف يا صاحبي ستكون علاقتك مع مسؤولك وأنت تدخن فيلادلفيا وهو يدخن كمال؟" (ص 114).
حكايات عمّان ويافا والقدس المتصاحبة مع الشاي بالنعناع والقرفة، خضر الشاويش يروي والأنا العليمة أو المتشككة تروي، يتقاطعان، يحيلنا فركوح لصدمة جديدة من صدمات بلادنا: حرب الخليج الثانية، الهزيمة المبثوثة على الهواء مباشرة. حدّ السيل، مطر الخراب ومطر غسيل الذنوب والندوب، الحياة بكلِّ ثِقَلِها وخِفَّتها، عندما تؤول إلى لا شيء سوى "نُدَبِ الشباب ورثاء الفحولة" (ص 63)، وحيث، كما ظل والده يؤكد، "لا شيء يكتمل". (الصفحة نفسها).
كان في طريقه إلى دار "أزمنة"، دار النشر التي أسّسها عام 1992، في عمّان، لم يكن يشتكي من شيء، أو، بالأحرى، لم يبلغ أحدًا أنه يشتكي من شيء أو مكروه، فإلياس يتقن الصمت الذي تعلمه من والده (الصامت حتى الموت). بأناقةٍ ترجّل، بمعالجته الخاصة حول موته الخاص. ربما كان يدندن نصًّا، وقع عليه مصادفة، كتبه صديقه (وصديقنا) الراحل الآخر جمال أبو حمدان (1944-2015)، يخاطب فيه الموت أواخر تسعينيات القرن الماضي، ولم ينشره، ولكنه لم ينس أن يمنح النص الذي راود إلياس عن نفسه، اسمًا: "الزائـر الأخيــر":

"ربما تأتي مساءً

وأنا أرنو لنجمٍ ضَلَّ في الأفقِ مساره،

ربما تأتي صباحًا

وأنا أرقبُ زهرةً

خبأت في صدرها

سِرَّ التنامي والذبول،

ربما كنتُ أناغي

طفلتي الصغرى

وأرنو للكبار،

ربما حاولتُ أن أغفو

على صدر حبيبٍ

في انتظارك.

لكَ أن تختارَ صحوي

أو منامي، للزيارة.

لكَ أن تختارَ

لكن، خَفف الوطءَ

ولا تخدش سلامي

قد كفاني

وطءُ أيامي الثقيلة

في انتظارك.

كُنْ لطيفاً حين تأتي

خاشعًا قفْ عند رأسي

دون أن تقرأَ شيئًا

من كتابك".

ستظلُّ أجراس عمّان تقرع يا صاحبي، فوق الكنيسة القديمة في السوق القديم، في راهبات الوردية، في مدرسة روز السحّار، في تراسانطة، ستظلّ تساعدك من أجل ذاكرة لا ضباب فيها، لا غَمْر ولا ليل، فأنت لم تكن تعشق الليل، وكنت تنام منذ أوّل عتمته.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.