}

والشِّعر إذا أَبكى.. شهادة ابتسام عازم

ضفة ثالثة ـ خاص 30 يوليه 2020
آراء والشِّعر إذا أَبكى.. شهادة ابتسام عازم
عازم: نربي الأمل في بلاد ليست لنا

نافذة سؤالها بسيط لكن إجابته معقّدة: ما هي القصيدة التي تُبكيك، ولماذا؟ فكرة هذه الزّاوية جاءت من التّساؤل: هل ما يزال الشِّعرُ - في زماننا هذا - يُبكي أحدًا؟ تكاثرتْ كتبه وتراكمتْ قصائده جيلًا بعد جيل، لكن ما الأثر الباقي منها في النّاس؟
في كلّ حلقة سنلتقي ضيفًا ليشاركنا إجابته على السّؤالين أعلاه، والمؤكّد أنّنا سنقف في هذه الرّدود على ما آن له أن يُكتب، كما أنّها فرصة أخرى لاكتشاف الشِّعر وما عتم منه، أو قل: مداخل مغايرة لقراءة ما يُبكي ضيوفنا من الشِّعر، هذا.. إذا أَبكى.
هنا شهادة الروائية الفلسطينية ابتسام عازم:

                                                                                                                                                                      (عماد فؤاد)

 

 

ابتسام عازم: لا أنظر خلفي حين أودّع أحدًا
ليست قصيدة واحدة تُبكيني، فهناك قصائد عديدة، بالعربية وغيرها، لشعراء وشاعرات. لكن، إذا قبلت بقواعد الاختيار فسأختار لهذه اللحظة قصيدة "لاعب النّرد" لمحمود درويش. فهي تُبكيني في أكثر من موضع كلّما قرأتها أو استرجعت بعض أبياتها. صور القصيدة مرايا تتحرّك في ذهني، سأتناول بعضها فقط هنا.

 

1

"لاعب النرد"

إذا كان لا بدّ من بدايات وعناوين فإنّه النّرد. يأخذني إلى البدايات، إلى درجات خمس من العمر قطعتها وقفزت وسط سادستها في عصر ذلك النّهار بلونه الأصفر الهادئ. قبل أن أكبر بسرعة وأركض نحو الغروب واحمراره وأغرق في نشوة زهره. هو ذلك العصر بصفاره الهادئ والمطمئن. حين كنت أجلس بحضن أبي وهو يلفّ ذراعه حولي. أتابع بعينين واسعتين على الدنيا حجري نرد يتدحرجان فوق سطح خشبي بعد أن خرجا من كفّه الدافئة، أو من يد غريمه. وعندما يتوقّف الحجران عن التّدحرج كان يشدّني إليه، إن خالفه حظّه، وكأنّه يواسي نفسه. وتارة أخرى يقف صارخًا فرحًا من نشوة الرقم ويرفعني بذراعيه وأنا أبتسم. هي البدايات التي نفيت نفسي عنها طوعًا.
هي ضربة النّرد التي رميتها وجمعت الأحجار ووضعتها في جيبي دون أن أنظر إلى الرقم عندما خرجت بعد ذلك بسنوات تاركة خلفي بلدًا "صغيرة مثل حبّة سمسم" وذهبت إلى صقيع أوروبا.

 


2

"كانت مصادفة أَن أكون

أنا الحيّ في حادث الباصِ

حيث تأخَّرْتُ عن رحلتي المدرسيّة

لأني نسيتُ الوجود وأَحواله

عندما كنت أَقرأ في الليل قصَّةَ حُبٍّ

تَقمَّصْتُ دور المؤلف فيها

ودورَ الحبيب – الضحيَّة

فكنتُ شهيدَ الهوى في الروايةِ

والحيَّ في حادث السير"

 

سأكذب إن قلت إنّ القدس كانت أوّل مدينة شممت بها رائحة الموت، أو رأيت فيها شبحه. لكنّها أوّل مدينة تلقّيت فيها خبره عبر الهاتف. عندما اتّصلت والدتي لتعرف إن كنت قد خرجت من البيت بعد أن سمعتْ بعملية استشهادية في أحد الباصات في القدس المحتلّة التي سكنتها للدراسة الجامعية. لم آخذ الباص إلى الجامعة للمحاضرة، ذلك الصّباح، كما في صباحات كثيرة. إذ لم أكن أتقن لعبة الصّباح آنذاك. هو الليل الذي سكنته ومعه المشي ليلًا في أحيائها القديمة. فاتني صباحها وفاتني الباص ربما.
هو الموت الذي كان واحدة من أولى الذّكريات التي تفتّحت عليها عيناي في بلدتي، طيبة المثلث. حيث هرولت أنا وطفولتي، قبل ذلك الصّباح المقدسي بكثير. الموت الذي شممت رائحته وأنا طفلة. موت عابر لجار قرّر الموت أن يخطفه من زوجته وابنته وهي في السّابعة. كانت تكبرني بسنة. فصحوت على صوتها وهي تنادي عليه عبثا. وموت آخر سبقه بأشهر لابنة عمّي وهي في الثّلاثين، بسبب داء ما خطف ابتسامتها التي كانت دائمًا هناك على شفتيها في دكّانهم وكانت تستقبلني بها. وعندما أخبرتني أمي أنّ هذا مصيرنا جميعًا وحدّثتني عن الجنّة، بكيت بمرارة. وموت آخر قرب بيتنا لتاجر مخدّرات سمعت صوت الرّصاصات المدوّية التي أطلقت نحوه في المقهى الذي كان يجلس عليه. فهرعت إلى الشّباك لألحق بها وكانت قد تركته جثّة باردة. وموت رابع اتّكأ على نصب شهيد في حارتنا. كان غريبًا من الجليل خرج للتّظاهر ضد مصادرة الأراضي فيما عرف لاحقًا بيوم الأرض فكان الرّصاص التّحية التي تلقّفته. وموت خامس وسادس... هو الموت الذي زار أبي وأوصله إلى غرفة الإنعاش ليمكث فيها قرابة الأسبوعين. ثمّ تركه يعود إلينا وكأنّ شيئًا لم يكن. هي المصادفة إذًا.. هي المصادفة...

 

3

"لا دور لي في حياتي

سوى أَنني،

عندما عَلّمتني تراتيلها،

قلتُ: هل من مزيد؟

وأَوقدتُ قنديلها

ثم حاولتُ تعديلها..

كان يمكن أن لا أكون سُنُونُوَّةً

لو أرادت لِيَ الريحُ ذلك،

والريح حظُّ المسافر...

شمّلتُ، شرَّقتُ، غَرَّبتُ

أما الجنوب فكان قصيًا عصيًّا عليّ

لأنّ الجنوب بلادي

فصرتُ مجاز سُنُونُوَّةٍ لأحلِّق فوق حطامي

ربيعًا خريفًا.."

 

كنت طفلة كبرت بين الذكور، من أبناء عم وخال، ركبت الدرّاجة كما ركبوها، شددتهم من شعرهم كما شدّوني، لعبت معهم البنانير فهزمتهم وهزموني، عشت بطولات القصص التي قرأتها ومغامرات الأفلام التي شاهدتها بهوس. أحببت التّاء المربوطة في الطفلة. وكلّما كبرت الطفلة، ومعها التّاء المربوطة، ضاق العالم من حولي وضاق نَفَسي. بحثت عن المدينة في مدينة كالقدس، فلم أجد إلا قناصًا يتربّص بها وبي في كلّ مكان. فزادت تاء الطفلة المربوطة تاءً أخرى في طفلة فلسطينية. شمّلت وتركت الجنوب وذهبت إلى أوروبا وغرقت في دراسة الأدب الألماني والإنكليزي لأنسى الجنوب، منبع الفرح والوجع الأوّل. وكلّما غصت أكثر وجدتني أتذكّر في الليل أنّ عليّ الاتصال بأمّي في الصّباح لأقول لها: "كلّ شيء على ما يرام هنا في الشّمال، ألمانيا باردة لكن الطقس معتدل والنّاس لطاف". ثم أبكي بصمت مختنق.










4

"من حسن حظِّ المسافر أن الأمل

توأمُ اليأس، أو شعرُه المرتجَل

حين تبدو السماءُ رماديّةً

وأَرى وردة نَتَأَتْ فجأةً

من شقوق جدارْ

لا أقول: السماء رماديّةٌ

بل أطيل التفرُّس في وردةٍ

وأَقول لها: يا له من نهارْ!"

 

أمدّ يدي وأتحسّس أعضائي المتناثرة في كلّ مكان. قلب تعب لكنّه عاد لينبض من حيث لم يدر أنّه ما زال فيه دم يضخّ وحياة تنبع من جديد. هي نيويورك التي أعادت القلب إلى النبض ودرّبتني على المشي بجنب حب بغدادي. نربّي الأمل في بلاد ليست لنا. لكنّها أصبحت موطنًا نخفّف الوطء ونحن نمشي عليها، مدركين تاريخها الدّموي وما اقترفته بسكان البلد الأصليين.
يد تلوّح من بعيد للأهل في مطار اللد عند المغادرة كلّ عام بعد الزيارة. دون أن ألتفت إلى الوراء كي لا أخفق كما أخفق أورفيوس وأراهم الصيف القادم. علِقتْ تلك الأسطورة في رأسي وتعود إليّ كلّما ودّعت أحدًا فلا أنظر خلفي. في الطائرة أجلس بهدوء جنب النّافذة. أحلّق معها وعندما تمرّ من فوق بحر يافا، أبتسم، وأقول في سرّي: لم نصبح فكرة... لم نصبح مجرد فكرة عابرة، أكثر من سبعين عامًا على نكبة مستمرّة وما زلنا نربّي الأمل، يا له من أمل عنيد...
لكلّ هذا وأكثر أبكي عندما أقرأ هذه القصيدة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.