}

ذكرى إيف بونفوا.. الشعر يجب أن يصبح فلسفة

دارين حوماني دارين حوماني 6 يوليه 2020
آراء ذكرى إيف بونفوا.. الشعر يجب أن يصبح فلسفة
إيف بونفوا (1923-2016)
ألا يزال بإمكاننا الكتابة عن إيف بونفوا (1923-2016)؟ ماذا يمكن أن نضيف إلى كل ما كُتب عن هذا الشاعر الذي رثاه العالم بلغاته المتعدّدة عند وفاته؟

في الأول من تموز/ يوليو منذ أربع سنوات تحديدًا توفي المرشّح الدائم لجائزة نوبل دون أن ينالها، عن ثلاثة وتسعين عامًا، وهو الذي حين سُئل عمّن يقرأ من المؤلّفين الأحياء أجاب: "كل المؤلّفين أحياء". وهو بلا شكّ واحدٌ منهم، من أولئك الذين لا يموتون بسهولة، الذين بنوا مكانهم فوق الأرض حيث إقامتهم الإنسانية الدائمة.
أمضى بونفوا حياته يرتّب العالم على شكل أحجار، يرتّب الموت كأنه يريد أن يزيل ذلك الفائض من العتمة، كفيلسوف كامل وحاضر في كل جزء فينا: "الكتاب الرخامي عن الشمس/ أنظر إليه كأنه كومة أحجار سوداء/ مطولًا قرأت الكتاب الرخاميّ/ إلى المكان الذي لا شمس فيه وصلت".

إيف بونفوا وأدونيس، أول من ترجم قصائده إلى العربية 



















على الكلمات أن تحافظ على دلالتها الأرضية
ولد "شاعر الحضور" في تور وسط فرنسا الغربي "في مكان فيه القليل من الكتب"، كما قال ذات يوم. في الثالثة عشرة من عمره سيفقد أباه وفي نفس الفترة سيفقد جدّه لأمه، و"هذا الأخير كان بالتأكيد له تأثير مهم في حياتي، هذا الرجل العجوز الذي كان لديه كُتُب، فكّر، قرأ، كتب، وخلق نموذجًا ومرجعًا بالنسبة لي، ربما لن يكون لطفل من هذا الوسط نفس الوصول إلى الثقافة والمجتمع المثقف كما كان لي. لقد بنى جدي مكتبًا صغيرًا من خشب الصنوبر كتب فيه جميع أنواع الكتب التي ربطها بنفسه، مقالة عن التاريخ وأخرى عن الأخلاق لمجرد متعة الكتابة. ربما كان لديه وهم بأنه كاتب وسيتم نشر كتاباته ذات يوم".
درس بونفوا الرياضيات لكنه تركها ليتدرّب على الفلسفة وعلى تاريخ العلوم، "أدركت أن الأجداد يوجّهونك لنوع من المهنة، الهندسة، والتعدين، وتعليم الرياضيات والتي لم أكن أرغب في دراستها، كان لديّ بالفعل فكرة عمّا أريد القيام به في حياتي: أن أكتب. جئت إلى باريس وكنت في الواقع أريد أن ألتقي بالوسط السوريالي". لم يدم إعجاب بونفوا بأبي السوريالية أندريه بريتون وحقوله الممغنطة طويلًا، فـ"على الكلمات أن تحافظ على دلالتها الأرضية التي بدونها لا وجود لعلاقة حقيقية بالعالم".
لم ينل بونفوا جائزة نوبل لكنه أمضى حياته يتلقى الأوسمة والجوائز، ومنها جائزة النقّاد عن كتابه "روما 1630: أفق الباروكية الأولى" (1971)، وجائزة غونكور (1987)، والجائزة الأوروبية للشعر (2006)، وجائزة فرانز كافكا (2007)، وجائزة الأركانة للشعر (2013).
يخاف صاحب جائزة غونكور على الشعر، "الشعر في حالات عديدة مخنوق بتعمّد ومطرود.. الشعر في خطر، يجب أن يصبح الشعر فلسفة وفي تأمّل تاريخي إذ أن قضايا الراهن توضّحها قضايا الأمس". ولكن يبقى على الشعر بنظره أن يدرك رهانات الشعر الخالد، "إن للشعر دورًا لا شيء يعوّضه، فإذا انقرض فعلًا فإن المجموعة الإنسانية ستنهار معه". يتأمّل بونفوا معاناة القصيدة قبل كتابتها "معاناة المسؤولية تجاه الأحداث وتجاه التأويل الذي يمكن القيام به لتلك الأحداث". يكتب بونفوا في مقدّمة كتابه الأول "مقالة في عازف البيانو" Traite du pianiste الذي وضع فيه أولى كتاباته: "كان قلقي الرئيسي منذ طفولتي هو الشعر. إنه الشعر الذي سيسمح أن نعيش الرغبة في طائرة لا تكون مجرّد تركيز على الذات، وبالتالي تتعارض مع مطالب الآخرين في المجتمع وبالتالي غير سعيدة. أنا أؤمن بقيمة الشعر في فعاليته".

في عام 1953 سينشر ديوانه "دوف، حركة وثباتًا" Du mouvement et de l'immobilité de Douve وسيفوز به على الفور كصوت جديد مهم حاول من خلاله تجديد العلاقة بين الشعر والعالم وخلق واقعية جديدة، ومن هنا بدأ رفضه لمعلّم البدايات بول فاليري كشاعر المفاهيم الذي يُبعد الشعر عن الواقع وخاصة الموت الذي كان هاجس ديوان بونفوا الأول، كان كأنه ذلك الكائن الذي يقيم الموت فيه ويبحث عن المكان الحقيقي على الأرض. ويشير الناقد جان ستاروبنسكي إلى ذلك فيكتب في مقدمة الأعمال الشعرية الكاملة أن تصدير ديوان "دوف، حركة وثباتًا" المقتبس عن هيجل يدلّ على المواجهة بين الحياة والموت "لكن حياة الفكر لا ترتعب أبدًا أمام الموت وليست تلك التي تعرى منه، إنها الحياة التي تتحمّله وتستمرّ فيه"، وكذلك تصديره لديوان "سائدة أمس الصحراء" المقتبس عن هولدرلين: "تريد عالمًا- لهذا تملك كل شيء ولا تملك شيئًا"، فالعالم هنا يرتبط بمفهوم "الكل" و"اللاشيء". وإن كل الأعمال الشعرية والبحثية اللاحقة، مهما كانت راسخة في الحياة وفي حضورها، سوف تدمج الموت باستمرار في مشروعها للحقيقة، وسوف تطرح العلاقة مع العالم، "العالم هو ما ينبغي أن يخلّص لا "الأنا"". ستكون أولى قصائد بونفوا لوحات سوريالية تحمل تأثيرات أندريه بريتون وجورجيو دي كيريكيو فيما ستكون آخر أشعاره تسجيلات انطباعية لكن الشعر سيكون دائمًا بالنسبة لصاحب "الوشاح الأحمر" حفر في الطبقات السفلية للإنسان. يقول ستاروبنسكي: "إن مأخذ بونفوا على السوريالية هو أنها تخلّت عن المكان، العالم الذي ننتمي إليه، بإسم نظام آخر للواقع لا يتجلّى إلا بطريقة عابرة في أشخاص متميّزين فالهالة التي يكتسبها كائن ما بحسب التجربة السوريالية ذات تأثير من شأنه أن يقنعنا بأن جزءًا من واقعنا يحمل في ذاته آثار واقع أعلى ممّا يقلّل شأن الأشياء الأخرى في العالم ويولّد الشعور بأن الأرض سجن"، ومن هنا خرج بونفوا من مكان "الما وراء" واعتبر أنه سيوجد من جديد عالم "مكان صالح للإقامة" على الأرض. في قصائده "معاينات في الرسم" يستدعي بونفوا الشجرة "بالقلم القمحي وبالحبر"، يستحضر الإيقاع في الشجرة وأولئك الرسامين الذين يلتقون في اللحظة ذات العمق خارج حواسنا، "أن نرسم- أن نقرّر، وأن نتحيّر، تسمح أحيانًا بفهم أفضل للمخاطر والأوهام والحقيقة لكل مذهب/ توجد أوراق شجر من الكلمات المرسومة حيث نلمح ثمارًا هائلة في سكون، وسط صخب النحل/ قد لا يبقى إلا الخط، من الحبر أحيانًا غليظًا وأحيانًا مخترقًا بالضياء، خط هؤلاء الرسامين، شرقيين أو غربيين، الذين غمسوا ريشاتهم في المطر الذي ينساب فوق الصخرة، في الريح التي تضرب العراء". إنها فلسفة بونفوا ورؤيته في الكون ابتداءً من الشجرة وعلامتها، مطاردة حضورها، وصاعقة البرق التي تتقن إدراك آلاف الشقوق وتفضي الى الجوهر الحقيقي للوجود.



هيمنة الفلسفة
قراءة بونفوا المكثّفة في الفكر الأفلاطوني والهايدغري جعلت الفلسفة تهيمن على شعره دون القدرة على رؤية حدوده، مع أنه كان يحاول أن يتجنّب الغموض الذي قد يعزل قرّاءه عن العالم الحقيقي، ويرى أن "وظيفة الشاعر هي أن ترينا شجرة، قبل أن يخبرنا عقلنا ما هي الشجرة". سوف تصيبنا قصائد عديدة بالعدمية، هي "عبء السماء الذي لا يُحتمل"، وهي مقرّات الريح التي يسقطها بونفوا علينا. عنون بونفوا عددًا من قصائده "حجارة" وحيث ستلتقط الموت بين كل حجر وآخر: "كان يرغب دون أن يعلم/ وقد انتهى دون أن يملك/ الأشجار والأدخنة/ وكل مقرات الريح والاستياء/ كانت منازله/ أبدًا غير موته ما اعتنق"، وفي قصيدة أخرى معنونة أيضًا حجارة يقول: "عواصف تتلوها أخرى ما كنت إلا دربًا غير مرصوف/ لكن الطريق كانت تهدّئ الأرض التي لا تهدأ/ قد رتّب الموت سرير الليل في قلبي".


مجّد بونفوا ستيفان مالارميه وشارل بودلير وآرثر رامبو واعتبرهم أعظم شعراء القرن التاسع عشر والقرن العشرين، ويرى النقّاد أن رامبو هو المعلّم الأول لبونفوا، وأن بودلير هو مدخله للموت. يقول بونفوا "إن تأثير الشعراء العظماء في القرن التاسع عشر، بودلير، مالارميه ورامبو، وفي الآونة الأخيرة من السوريالية، أعاد تكوين مفهوم الشعر بالكامل من خلال التأكيد على أن قيمته غير عقلانية وذاتية، الهدف هو استخدام لغة من شأنها القضاء على المعنى وتحريك الشعر نحو المستوى الأصح من العزلة والصمت"، وهذا ما كان يشكّل الفارق بين التقاليد الشعرية الفرنسية والإنكليزية بالنسبة لبونفوا والتي حاول تحليلها في مقال له في عام 1958 حيث اعتبر أن الاختلاف بينهما واسع مثل الظلام والضوء. ففي أدب اللغة الإنكليزية كان هناك انشغال بـمعان متصلة، كانت الكتابة مكرّسة لقول شيء واضح يتجسّد في الشعر المنظّم كنصوص إليوت.

تمثال بودلير في حديقة لوكسيمبورغ في باريس(Getty)























الشعر فكر
لم يكن بونفوا شاعر الشخص الواحد، كان شاعر الشخوص المتعدّدة، وكانت له أصواته وأحجاره، فقد انشغل بالفن منذ بداياته وكتب في النقد التشكيلي والنقد الأدبي، في المسرح والنحت والفلسفة وفي تاريخ العلوم، إضافة إلى ترجمة العديد من الكتاب إلى الفرنسية وقدّمهم إلى المكتبة في أكثر من مئة كتاب وقد تمّت ترجمتهم إلى ثلاثين لغة. "اللامحتمل"، "الغيمة الحمراء"، "حقيقة الكلام ومقالات أخرى"، "الشعر والصورة الفوتوغرافية"، "الشعر بصوت عال"، و"الميثولوجيا اليونانية والمصرية"، "الميثولوجيا الأوروبية والرومانية" وغيرها أيضًا من الكتب التي شكّلت له الأمكنة الورقية حيث سيضع حجارته الأنثربولوجية والأدبية والفكرية بغزارة كاتب لم يتوقف عن رمي حجارته لنا حتى آخر أيام حياته. أهم كتبه في النقد الفني "التصوير الجداري في فرنسا القوطية" و"روما 1630: أفق الباروكية الأولى"، و"ألبرتو جياكوميتي، بيوغرافيا عن أعماله". وفي قراءته "الرسام يساعد الشاعر على رؤية الواقع المباشر الذي يخفيه عنا الفكر المفهومي.. على القول الشعري أن ينفتح على تجارب الفن والرسم والموسيقى كما أيضًا على القول النقدي، علينا أن نفهم أن هذه الحاجة إلى التبادل غالبًا ما تكون حاجة متبادلة، إنها ضرورية لمستقبلنا جميعًا". أعمال النقد الأدبي والفني لم تكتب عن أهم الفنانين والشعراء فقط بل أحيت العديد منهم الذين كانوا سيغرقون في النسيان على دفعات. لم يكن بونفوا شاعرًا فقط، كان كل تلك الأشياء وكان فيلسوفًا معها وفيها، وكان يعتبرها مكمّلة لشعره ولا تنفصل عنه: "إنّ فصلًا بين أبحاثي وأعمالي الأدبية وبين شعري يعني أن ثمة خيانة للشعر، الشعر هو فكر، ليس عبر الصيغ التي يقدّمها داخل النص بل بقدرته على التأمّل في اللحظة التي يتشكّل فيها وعلينا أن نستمع إلى هذا الفكر حيثما كان في الأعمال الأدبية. ولا تمثّل كتابتي للأعمال الأخرى هروبًا من الحقل الشعري. بالأحرى ثمّة إيعاز بأن تأخذ كل أفكار المجتمع مكانًا لها في الشعر، حتى نصائح العلم، وحتى الجدل السياسي، ما يبحث عنه الشعر هو تدمير الإيديولوجيات الناشطة ما دامت ضارّة في جميع العلاقات البشرية". في إحدى مقابلاته سُئل عن أعماله فأجاب: "الشاعر كلمة يمكن للمرء أن يستخدمها عند الحديث عن الآخرين، إذا كان المرء معجبًا بها بشكل كاف. إذا سألني أحد ما أفعل، أقول إنني ناقد أو مؤرخ".


يرى بونفوا أن شكسبير لم يعش بطريقة صحيحة في فرنسا لأن مترجميه لم يرسخوا في العمق، وهذا الإيقاع أساسي ويدفعنا إلى إدراك المنطق الخاص للنص. ترجمة شكسبير إلى الفرنسية والتي اعتبرها النقّاد الأفضل بين سائر الترجمات، شكّلت أحد دوافع بونفوا للترجمة الممتدة لأكثر من خمسين عامًا. ترجم بونفوا لعدد من الشعراء إلى الفرنسية منهم الشاعر الإيرلندي ويليام بتلر ييتس والشاعر جون كيتس، وقد مثّلت كل هذه الترجمات له مرحلة البحث عن الذات: "هل يجب التذكير بأن الطريقة الأفضل للقاء مؤلّف هي ترجمته، المترجم ملزم بالوقوف عند معنى ووظيفة كل كلمة وكل فكرة وكل صورة"، ويخاف بونفوا على الترجمة كما يخاف على الشعر "ثمة خفايا ستُفقد في الترجمة حتمًا". و"شطبت ما أمكنني/ هذه الكلمات في كل مكان، شعرًا ونثرًا/ غير أني أبدًا لا أملك ما به أمنعها/ من الظهور مجدّدًا في كلامي../ حتى تكون الشيخوخة ولادة من جديد/ حتى يُفتح الباب من الداخل/ حتى لا يكون الموت وحده هو الذي يطرد من كان يسأل عن مكان ولادة"..

بونفوا الغائب لا يزال حاضرًا بين أصابعنا ونحن نكتب. رغم أن الزمن يشطب ما أمكنه من الأجساد ومن الكلمات فإن بونفوا يظهر مجدّدًا ودائمًا في الأمكنة التي نولد فيها.. "أيها العابر، عندما تُقبل، هل ستميّزها/ هل ستدرك أيّة أحلام، أيّة آمال، هذه الكلمات/ من لغات أخرى، ذات أراض أخرى/ ستقرأ منا، في البقايا التي خلّفها/ فيها الجليد والأمطار والصاعقة؟/ بقدمك ستدفع هذا المطلق إلى الأسفل أكثر"..



 

مصادر:

Michael Schmidt- Chris Miller in (e-mail) conversation with Yves Bonnefoy:https://pnreviewblog.wordpress.com/2020/05/11/quarantine-conversations-1-yves-bonnefoy/

Shusha Guppy - Yves Bonnefoy, The Art of Poetry No. 69:

https://www.theparisreview.org/interviews/1790/the-art-of-poetry-no-69-yves-bonnefoy

Christophe DAUPHIN- PORTRAIT DU POÈTE, À L’ÉCHARPE ROUGE : POUR YVES BONNEFOY,(extraits):

http://www.leshommessansepaules.com/auteur-Yves_BONNEFOY-222-1-1-0-1.html

إيف بونفوا، الأعمال الشعرية الكاملة، ترجمة أدونيس، منشورات وزارة الثقافة السورية 1986؛ "أنطولوجيا الصوت والحجر"، ترجمة محمد بن صالح، منشورات الجمل 2007

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.