}

عن مَسْرَحَة الأسْطورة.. جدلُ المسافةِ بينَ التوظيفِ والتَّجْديف

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 16 أكتوبر 2021
آراء عن مَسْرَحَة الأسْطورة.. جدلُ المسافةِ بينَ التوظيفِ والتَّجْديف
بجماليون ينحت العشق



أعاد الجدل الذي أثير في الأردن، خلال الشهرين الماضيين، حول أصالة نصّ مسرحي فاز بجائزة محلية مرتبطة بمئوية الدولة، إلى الواجِهة، المسائل المتعلقة بكيفيات توظيف النص الأسطوري، والحجم المسموح به من الاقتباس منه، والتَّناص معه، والاتّكاء عليه، وآليات هذا التوظيف، ومشروعياته، ومبرراته، ومتى يتحوّل النَّهلُ (حتى لا أقول النّهب) من نصّ أسطوريّ ملحميّ إلى تجديف وسرقة موصوفة.
وفي حين أننا لا نفشي سرًّا حين نقول إن مئات النصوص المسرحية والشعرية والقصصية وحتى الروائية، بنى كاتبوها منظومة تلك النصوص وثيمها وقيمها، بالاستناد إلى نصوص تاريخية قديمة، وإلى الملاحم التي وصلتنا من أدبيات شعوب وحضارات سابقة، ومن إرثها، مثل "جلجامش"، و"الأوذيسة"، و"الإلياذة"، و"الشاهنامة"، وغيرها، فإن الإشكال العميق، هُنا، هو عدم توافق النقاد والأكاديميين على محددات واضحة، متى نقول إن هذا النص يحتوي على اقتباسات مقبولة ولم يتجاوز الحد، أو إن هذا النص مسروق، الحافر فيه مشى على الحافر الذي سبقه؟
التهم الموجهة للنص المسرحي الذي فاز بمسابقة مئوية الدولة الأردنية لم تتوقف عند حدود عدم أصالته، وأنّ المفروض كان أنْ يكتب عليه صاحبه كلمة (إعداد)، وليس كلمة (تأليف)، كونه مأخوذًا، بحسب ما يقول صاحبه بنفسه، من نصوص أوغاريتية مسمارية اُكتشِفت في مطالع القرن العشرين مكتوبة بلغات عديدة، منها الأوغاريتية، والأكادية، والسومرية، والحورية، على رُقُمٍ (جمع رقيم) عَثرت عليها بعثة فرنسية في منطقة رأس شمرا داخل حدود محافظة اللاذقية السورية البحرية، بل امتدت لتصل إلى تهمة السرقة بعدما كشف تحقيق استقصائي أُجري حول النص الفائز أن زهاء ثلاثة أرباعه مأخوذ من ثلاث مسرحيات نشرها على التوالي الكاتب السوري اللاذقاني سجيع قرقماز: "أقهت الأوغاريتي"، "كارت الأوغاريتي" و"بعل صافون"، وجميعها نشرت قبل سنوات من دفعِ كاتب النص الأردني نصّه للمشاركة في مسابقة مسرحية.
هذه الحقيقة، على وجه التحديد، أعادت الموْج إلى الدوامة نفسها مرّة ثانية، فاللجنة التي كلفتها وزارة الثقافة بالتحقيق في الأمر تقول إن قرقماز نفسه اقتبس كثيرًا من مقاطع نصوص مسرحياته من النصوص الأوغاريتية الأصلية. وبمراجعة سجيع بشكل مباشر، بلا لفٍّ ولا دوران، أكّد أن النصوص المكتشفة غير مكتملة، فقد محا الزمان كثيرًا من مفرداتها ووقائعها، وأن معظم ما يجري تداوله بين الباحثين، ومعظم ما ضمّنه الكاتب الأردني في النص "بكثير من التشويه والخلط وعدم إدراك مرامي النص، ولا غايات الأسطورة المرتبطة به، ما هو إلا بعضٌ من نصوصي التي كتبتها وضمّنتها مسرحياتي الثلاث، وبعض قصائدي الشعرية".

نصوص أوغاريتية




دوامة حقيقية يبدو أن الحقيقة هي الضحية الأولى من جراء عدم وضوح البوصلات فيها، وفي ظل غياب تقعيد علمي منهجي يخلُصُ أصحاب الشأن بعده أن هذا أصيل وهذا مسروق دخيل.
عندما كتب توفيق الحكيم "بجماليون" الخاص به، أخذ من الأسطورة ما يعينه على إيصال رسالة مسرحيته فقط، ساكبًا على شخصيات الأسطورة اليونانية والرومانية (مثل زيوس وأبولون وبجماليون وجلاتيا) بعضًا من رؤاه الشخصية ومقترحاته الجمالية. نحن هنا نتحدث عن مسرحية فلسفية أرادها الحكيم حول الصراع بين الحياة والفن، فلا يستطيع بجماليون أن يعيش بلا حبيبته، ولا أن يرى آثار العمر وغبار الحياة عليها. فإذا به يوفَّق في الاقتباس ويحسِن توظيفه. في النص الأصلي ينحت بجماليون منحوتة تمثّل امرأة جميلة، فإذا به سرعان ما يقع في حبّها متضرعًا لإلهة الحب فينوس أن تنفخ في منحوتته الروح، وتمنحها حياة البشر. لبّت فينوس رغبته، وتحوّل عمل بجماليون الفنّي إلى كائن بشريّ، فإذا بالمنحوتة المشتهاة تتحوّل إلى مجرّد امرأة قد يتزوجها وقد تلد وتكبر وتغضب وتموت. في هذه المساحة تحرّك الحكيم، فإذا بالتوظيف يأخذ بعدًا رمزيًّا عميقًا.



الأسئلة الكبرى
يتجلّى المسرح بوصفه منصّة الأسئلة الكبرى والعناوين الكبرى: الحياة/ الموت، الخير/ الشر، الذات/ الآخر، العلويّ/ السفليّ، الخصب/ القحط، الحب/ الكراهية... إلخ. وهو يفتح فوق حلبة أحداثه مساحة صراع لا تنتهي بين هذه المتناقضات، مؤسّسًا لمزيد من الأسئلة، ولكثير من الحيرة الساعية إلى طرق أبواب اليقين. نحن هنا نتحدث عن المسرح وفق جذوره التجريدية الأولى، عندما كان الإنسان ما يزال يصارع مفردات الكون حوله، ويحاول تهجئة الألغاز والطلاسم التي لا تنفكّ تطارد نهاره وتفزع مجسّات ليله. ولا نتحدث عن ليّ عنق المسرح نحو (دراميات) خفيفة الوزن مكشوفة الثيم بسيطة الجدل. على النسق نفسه الذي قام عليه المسرح الأول، قامت الملاحم الأولى والأساطير التي لا نزال نمْتح من حكاياتها، وَنحاكي شُخوصها، ونعيد تدوير ذُراها.




وبالتالي، فإن ما تفترضه قيم الجمال أن المبرر المنطقي للنبش في أسطورة قديمة، أو إعادة تفريغ لُقى ورُقم وألْواح وجدها علماء الآثار مُلقاة، أو مطمورة، هنا أو هناك، هو الإتيان بجديد على صعيد أسباب الصراع الذي تناولته الأسطورة موضوع النبش و(اللطش) والاقتباس والتناص. فإن خلا النص الجديد المأخوذ من نص قديم من أي إضافة دلالية رمزية تستحق الالتفات، فهو نص لا مبرر له، ولا قيمة له، ولا إضافة نوعية تسجّل له.

الأوغاريتية أقدم أبجديات العالم


بالعودة إلى القضية التي انطلقنا منها، فإن الهاجس الجذري في ملحمة بعل صافون، وصراعه مع الإله (موت)، وقبل ذلك مع (يَم)، وموقف الأب الكبير (أيل) والأخت/ الزوجة/ المعشوقة (عناة) من كل هذا وذاك، هو الهاجس المتعلق بخوف الإنسان من القحط/ الجدب وانعدام المطر، أو هيَجان البحر، أو تغوّل النهر على المساحات التي كان ابن بلاد الرافدين وبلاد الشام يحتاجها جميعها لِنثر بذوره وَتشتيل أشتاله ومدّ بِساط الخضرة والوفرة حوله.
عشتار (الأم الكبرى) عند الرافديِين، في هذا السياق، هي نفسها عناة (الأخت الكبرى) عند الكنعانيين، وهي عشتاروت عند الفينيقيين، وإنانا عند السومريين، وأفروديت عند اليونان. تختلف بعض تفاصيلها باختلاف الثقافة التي تروي قصتها. ولكن حسيّة خصبها من امتلاءٍ ووضوحِ أعضاءِ رضاعةٍ، وجرأةٍ وبحثٍ عن أيِّ فرصةِ خصبٍ ومدِّ الحياةِ، أيامها، بالذّراري، هو ما تتفق عليه، حولها، أساطير العالم القديم جميعها، بغض النظر عن شكل العلاقة ومرجعياتها الدينية والاجتماعية التي تبنّتها، أو اختارتها، أو اضطرت لها، كي يتحقق هذا الخصب، ويكتمل هذا الإنجاب.
وحين ينتصر (موت) على (بعل) فلن تجد الأرض أقدر من عناة، أو من عشتار امرأة/ إلهة، تنزل إلى العالم السفليّ، وتستعيد خصب الحياة وممكنات إيقاعها.
وفق هذا السياق، فإن غياب هذه المعاني عن نص مسرحي يقول إنه نهل مادته من ملحمة أسطورية قديمة، ومن نصوص أوغاريتية على سبيل المثال، ويتبيّن بعد قراءة النص أن هذا الصراع الأزليّ بين الخصب والقحط، بين الخضرة واليباب، غائب عنه، وغير مضمّن فيه، فإن السؤال البركان لحظتها هو: ما الذي أراده اللائذ بالنصوص الأسطورية الملحمية القديمة حين اعتمدها مادة أساسية في نصه، لولاها لأصبح النص من عشر كلمات على سبيل المثال (طبعًا عشر كلمات للمبالغة حول ضحالة النص من دون الاقتباس والتناص و(السرقة)). هل نتحدث هنا عن نص بلا نص؟ بالضبط، فإن كثيرًا من النصوص لو جرّدتها من مجمل ما أضيف لها من نصوص جاهزة، وثيم جرت معالجتها آلاف المرّات، وموضوعات خيض فيها، وشخصيات متشابهة حتى لا أقول متماهية، فإنك سوف تفجع أنها تحولت إلى سراب، وركضتْ سريعًا نحو خانة الصفر التي لا قبلها ولا بعدها أرقام أخرى.



الأسطورة في مِخيالها الشعبي

بساط الريح أسطورة منسوجة في المخيال الشعبي


حين يرسم عاشق ولهان قلب حب فوق شجرة كينا معمّرة، ثم يثقب هذا القلب بسهمٍ عند أحد أطرافه أول حروف اسمها، وعند طرفه الثاني أول حروف اسمه، فكلّ ما يفعله أنه يمد أسطورة (كيوبيد) بأسباب الحياة، ويصنع لها يدين ورجلين لتستمر وتحيا.
وحين تتحوّل واجهات الفاترينات في كل العالم إلى اللون الأحمر، فهي تستعيد بعبق شعبي خالص أسطورة فالانتاين.




وحين نسمّي الأرض التي تكتفي كي ترتوي بماء السماء: أرض بعلية، فنحن نستعيد بوعيٍ جمعيٍّ جماعيٍّ أسطورةَ (بعل). وحين تخوّف الأمهات في الخليج العربي، وخصوصًا في قطر، أولادهنّ من (أبو درياه)، فهنّ يستعدن في اللحظة نفسها أسطورة خليجية قديمة عن وحش يسكن البحر ويفترس صيادي اللؤلؤ. مخلوقٌ غامضٌ شريرٌ يعيش في أعماق المياه، يتسلّل إلى مراكب الصيادين بين العشاء والفجر، ليخطف أحد البحارة ويلتهمه ويهاجم السفن لتغرق. الحكايات الشعبية الخليجية تتناول، في سياق متصل، مغامرات البحارة وشجاعة غواصي اللؤلؤ في مواجهة جنيّ البحر الضخم.
تقع الشخوص الأسطورية في المخيال الشعبي، عادة، بين ضفتيّ إبداعية التخييل وواقعية المحاكاة.
في بحث له حول "الشخوص الأسطورية في المخيال الشعبي"، يقول الباحث الجزائري د. شوقي زَقادة، أستاذ الأدب العربي في جامعة "8 ماي 1945 قالمة": "تعد الأساطير كنزًا من كنوز المعرفة الإنسانية، لأن الإنسان البدئي اختزن فيها تجارب حياته، ونتاج عقله وتفكيره، وكل ما صوّرته عواطفه من خيالات، وبإمكاننا عدّها أحد أركان الحضارة الإنسانية المهمة ضمنت للإنسان عامة، ولشعوب بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام على وجه الخصوص، انسجامها مع ذاتها، وكفلت لها الشعور بجدوى الحياة، بل ومدّتها بطاقة من المعاني والرموز التي جعلتها في مستوى مواجهة الطبيعة والكون، ومن خلالها نستطيع معرفة طريقة تفكيرها، وكيفية رؤيتها للكون، وموقفها من القضايا الجوهرية، وهي بصرف النظر عن كونها إدراكًا خاطئًا للوجود، أو مصيبًا، فإنها تعد مرحلة من مراحل تطوّر الفكر البشري بعامة، ولولاها لما وصلنا إلى هذه المرحلة المتطورة من العلوم".



مسرحة الأسطورة

ملحمة أقهت




عشرات المرّات، بل مئات المرّات، بل لعلها آلاف المرّات، وقف الممثلون فوق منصات المسارح، وفضاءات الركحة، تحت مقترحات الإضاءة التي أرادها المخرج، في المساحة التي سُمِح لهم داخلها أن يتحركوا ويركضوا ويصدحوا ويبوحوا ويصرخوا ويتألموا ويبتهجوا ويغنّوا ويبكوا ويصعّدوا عاليًا أسئلة الوجود وعناوين المعنى. استعادوا هناك أساطير الشعوب، وملاحم الحضارات، وطلاسم المعتقدات، وتعاويذ الخوف من الخطر. لا يتوقف الممثل، عادة، كثيرًا، عند التفاصيل المتعلقة بمصدر النص الذي كتبه الكاتب، وأخرجه المخرج، لأنه هو الممثل الذي لا يستقيم توصيفه بصفة: ممثل، إلا إن كان قادرًا على تقمّص أي شخصية، وحفظ أي حوار، وتحويل أي نص إلى فرجة وأداء، بوصف كل ذلك جزءًا من العناصر المسرحية. يكاد الممثل يقول لنا: تعاملوا معي كما لو أنني مفردة ديكور، أو بقعة ضوء فوق المسرح، أنا الجهة التنفيذية، ولست الجهة التشريعية. وإن كان لا بد أن تحاسبوا فحاسبوا الجهة التشريعية. ولكن، مهلًا، هل أنتم سلطة قضائية لتحاسبوا كاتب النص وتسائلوه من أين أتى بهذا النص؟ أليست النصوص الأسطورية ملكية عامة مثل الأموال العامة التي لا يستفيد منها، عادة، إلا خاصة الخاصة؟
وهكذا دواليك، تواصل مسرحة النصوص الأسطورية تدويخنا داخل دوامة حدود الصواب وآفاق الخطأ. تواصل فرض الصمت علينا فلا نسأل ولا نحاسب ولا نعرف كيف جرت الخلطة السحرية، إن كانت سحرية، وحتى لو كانت خلطة سامّة، فكل ما علينا فعله، هو تجرّع السم بخضوعٍ رتيب، متّخذين من سقراط نبراسًا، ومن المثل اللعين أغنية: (حط راسك بين الروس وقول يا قطّاعين الروس)!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.