}

إيتيل عدنان.. انفتاح على زخم الثقافات، وجرح الكائن وهشاشته

أشرف الحساني 17 نوفمبر 2021

 

 

بين الشعر والرواية والرسم والصحافة والتدريس الجامعي عاشت الشاعرة والفنّانة اللبنانية إيتيل عدنان (1925-2021) حياتها في صخب، مُوزّعة بين لبنان وأميركا قبل أنْ يخطفها الموت داخل العاصمة الفرنسيّة باريس مساء يوم الأحد. بدا العالم العربي برحيلها منكوبًا. حزنٌ لا تحدّه السماء. صور يُعاد نشرها. قصص وحكايات يرويها عرب رافقوا مسار رحلتها بين الشعر واللوحة منذ أنْ تعرّف العالم العربي على قصائدها مُترجمة من جانب يوسف الخال وسعدي يوسف وسركون بولص، الذي ترجم على صفحات مجلّة "شعر" ديوانها "إنجيل العدو". هذا الديوان يُشكّل مرحلة أولى وهامّة في حياة إيتيل عدنان كشاعرة، قبل عزمها على دراسة الفلسفة في جامعة السوربون ثم هارفارد. كانت في ذلك الوقت تملك من الجرأة وفتنة المخيّلة، ما يجعلها ربما من المُفكّرين داخل العالم العربي، لكنّها اختارت الفنّ تفكيرًا وممارسة وعيشًا، حيث الجسد أكثر تحرّرًا من ربقة النظريات والمفاهيم والوقائع، ومُلتصقًا بجمال العالم من شمسٍ وقمر وجبال في مشاهد طبيعية صغيرة مُبهجة تُعيد إيتيل صياغة أنفاسها والقبض عليها داخل لوحة. فهل كانت إيتيل عدنان ستُحقّق كل هذه الشهرة الكبيرة لو أنّها اتجهت إلى مجال الفكر المجرّد، في وقتٍ كانت فيه الجامعة الفرنسيّة تشهد مُنعطفًا قويًا مع ميشيل فوكو وجيل دولوز وبيير بورديو، والذي سيُؤثّر تدريجيًا على صناعة مفهوم الحداثة داخل الثقافة العربيّة المعاصرة؟ قد يكون من الصعب الحدس بنجاح إيتيل كمُفكّرة تخترق حدود فكر الآخر، لكن ما ينبغي التأكيد عليه أنّ ما وصلت إليه من منزلة داخل مؤسّسات ومتاحف العالم، قد لا تقوى اليوم على مُجابهته أيّ فنانة عربية خلال الحقبة الحديثة أو المعاصرة.

يندهش المرء من قدرة إيتيل عدنان بلوحاتها على اختراق العالم، إذْ تُباغتنا معارضها الفنّية من كل مدن العالم، ما يُعطي الانطباع الأوّل بأهميّة المرأة في تكسير الحدود الوهميّة التي يُقيمها مؤرّخو الفنّ داخل البلاد العربيّة. لا توجد محلية أو قومية أو عروبة داخل أعمال إيتيل، لأنّها ظلّت مشرعة في وجه التجريب الفنّي المُنطلق أساسًا من سيرتها الذاتية والمُلتحم بشكلٍ غير مرئيّ مع سير الناس وحيواتهم داخل الطبيعة والمكان الأوّل. وهذا الأمر بقدر ما فتح شهية الجمهور العربي على نافذة جديدة داخل الفنّ العربي الحديث، بعيدًا عن قهر التاريخ ونزعة التراثية، بقدر ما جعله يُدرك ذلك التعدّد الغني من الرموز والهويات التي يُمكن أنْ تختزنها لوحة فنّية، بعيدًا عن موقعها وانتمائها وجغرافيتها وأيديولوجيتها.

 

إيتيل عدنان في مكتبها



انفتاح على زخم الثقافات

لا شيء في لوحات اللبنانيّة إيتيل عدنان يشي بأنّها فنّانة عربيّة، إنّها أعمال مفتوحة على زخم الثقافات، وعلى جرح الكائن وهشاشته الوجودية. من ثمّ، فإنّ هذا التعدّد الخفيّ في سيرة إيتيل عدنان الشعريّة والفنّية وانفتاحها على أفق الحداثة ومشاربها، رغم أنّه نابعٌ من ذاتٍ مُفكّرة عارفة بمسارات انبثاق الفكرة وتبلورها داخل السيرة، يبقَى من العوامل الفطرية. إذْ لا يُمكن أنْ يتصنّع المرء التعدّد أو يدّعيه، فهو وليد بيئتها وتنشئتها الاجتماعية العائلية من لدن أبٍ سوري عمل لسنواتٍ طويلة داخل الجيش العثماني، وأم يونانية ولدت وعاشت في إزمير. إلاّ أنّ إيتيل عدنان ولدت وعاشت في بيروت سنوات الطفولة والدراسة، قبل أنْ تُكمل دراستها في فرنسا وأميركا، حيث ستكون سان فرانسيسكو أكثر مدينة احتضنت حياتها وفيها كتبت مجمل أعمالها الشعرية وأنجزت أعمالها الفنّية، على خلفية عملها هناك كأكاديمية متخصّصة في فلسفة الفنّ.

تنتمي إيتيل إلى الجيل الذي ارتاد مدرسة الراهبات الفرنسيات داخل لبنان. وكان من الطبيعي داخل هذه المؤسّسات التقليدية منع الطالبات من الحديث باللغة العربيّة أو ذكرها داخل حجرات الفصل أو حتى داخل ساحة المدرسة. وهي تحكي أنّه حتّى داخل بيتها، لم تكُن تتكلّم العربيّة أمام أم يونانية الأصل وأب يتكلم اللغة التركية. لكنّ هذه التنشئة الاجتماعية المختلفة بالنسبة لطفلة، بقدر ما شكّلت حاجزًا لغويًا منيعًا أمام إيتيل لتعلّم العربيّة، بقيت في مرحلة لاحقة وكأنّها من الأقدار الجميلة في حياة هذه الطفلة. فقد قادها هذا الانشطار اللغوي إلى تشرّب ثقافات العديد من البلدان وانصهارها داخل اللوحة. وتُصبح هذه الأخيرة هي الوطن الأصل لها، بعيدًا عن اليونان وتركيا وبيروت وباريس وأميركا. لا وطن رمزيّا لها سوى اللوحة. إنّها فضاء للذكرى والتذكّر. مختبرٌ للتجريب والحلم.



أمّا القصيدة فهي عيشٌ يوميّ في سراديب اللغة واستكناه شغاف الوجود وعزلته. إنّ مفهوم اللغة عند إيتيل مرادفٌ للتّرحال، فهي ليست مجرّد لغة أو مجموعة من الرموز المُتّفق عليها بتعبير القدامى والمُحدثين. وإنّما ترحال أزليّ وشكل من أشكال المُثاقفة التلقائية، التي تتمّ بين الجسد وثقافة الآخر. إنّ اللغة جسد أو حلول هذا الأخير في ضيافة الآخر. كما أنّها ليست وليدة تمركز غربي أو انتماء مُعلن من طرف إيتيل لثقافة الآخر المُستعمر. لكنّها مجرّد طريقة أخرى في التفكير والتجربة والعيش ساهم في التأثير عليها مفهوم التنشئة الاجتماعية أكثر من لغة الفنّ والحداثة. والحقيقة أنّ إيتيل بفرنسيتها وإنكليزيتها تبدو الأكثر عروبة على مستوى التحامها في سنواتها الأولى بقضايا عربية ذات علاقة بفلسطين والفيتنام والجزائر ولبنان وسورية والعراق، حيث رصدت في بعض أعمالها الشعريّة موقفها من الحرب والعنف، لكن بطريقة بدت للبعض محتشمة "أيديولوجيًا" بالنّظر إلى طبيعة المرحلة التاريخيّة آنذاك، ثمّ بحكم البُعد اللامرئي الذي تُسبغه على كتاباتها ورسوماتها، حيث لم يكُن يهمّها كفنانّة وشاعرة إلاّ تصوير الحالة النفسية للإنسان خلال الحرب وقدرتها على تغيير أنماط تفكيره ونظرته إلى ذاته والمجتمع والعالم ككلّ. تخلّت إيتيل عدنان عن الكتابة بالفرنسيّة لصالح الإنكليزية بعد حرب فرنسا على الجزائر، إنّه موقفٌ يُسجّله التاريخ كانحياز لقضايا الشعوب المُستعمرة والمنكوبة من الآخر الاستعماري. وحتى وهي تكتب أعمالها الأدبيّة ويُترجم بعضها عربيًا، لم تكُن أشعار إيتيل عدنان قد اخترقت الآفاق، لا لكونها ليست مُهمّة، بل لصعوبة وجودها وتناثر أعمالها الشعرية بين لغاتٍ عدّة، ما يجعل متنها الشعري غريبًا عن القارئ العربي. وهذا الأمر بالضبط، هو ما يحدث عربيًا الآن، إذْ يكاد شعرها يكون غائبًا في العالم العربي ولا يحظى بالأهمية الكبيرة التي عرفتها أعمالها الفنّية. ورغم البُعد الجماليّ الذي طبع نصوصها الشعرية، في وقتٍ كان الشعر العربي مُتأرجحًا بين التنصّل من مفاهيم العروبة والقومية واليسار وكل ما له علاقة بالسياسيّ والأيديولوجي وبروز مجلّة "شعر" كقاطرة لصناعة حداثة شعريّة عربيّة، كانت إيتيل مشغولة في شعرها وكأنّها تعيش حداثة غربية بكامل وهجها ونضارتها، وهي ترصد في قصائدها جماليّات الطبيعة والأثر.

 

من رسومات إيتيل عدنان 



لقاء الصدفة

هل كان العالم العربي سيعرف إيتيل عدنان لولا صدفة اللقاء مع الشاعر اللبناني يوسف الخال في "غاليري وان" وعزمه على تعريب بعض قصائدها ونشرها في مجلة "شعر"؟

الحقيقة أنّ ذلك اللقاء ظلّ مجرّد محطّة في حياة إيتيل الشعرية والفنّية، بحكم التغيّرات التي طالت سيرتها الإبداعية في فرنسا وأميركا، والتي قادتها إلى أنْ تكون أكثر فنّانة عربيّة ثباتًا وتجذرًا في حداثة الفنّ العربي. لا سيما وأنّ أعمالها الأولى لم تعرف أيّ تماهٍ مع ما كانت تشهده الحركة الفنّية العربيّة خلال الخمسينيات والستينيات، إذْ أبصر النقاد في أعمالها طريقة غير مألوفة في تطويع الكتل والألوان، غير مُهتمّة بما كانت يشهده الفنّ العربي من تغيّرات وموجات تجديد تتأرجح بين الأصالة والمعاصرة وما يدور في فلكهما من خطاب جماليّ بين العودة إلى التراث العربي الإسلامي أو الدخول في معترك الحداثة الغربية بأشكالها ونماذجها وقوالبها وحواملها وتقنياتها وموضوعاتها.



لذلك بدت الطفلة إيتيل عدنان وكأنّها تعيش في جزيرة فنّية تنأى بنفسها عن زعيق تلك الثنائيات التي شغلت ولوقتٍ طويل الحركة الفنّية العربيّة، حيث اكتفت إيتيل بجسدها وما تراه عيناها وما تشعر به لحظة الافتتان بالطبيعة والأمكنة المسحورة بنور المُتوسّط. لذلك فإنّ جلّ رسوماتها وأعمالها الفنّية يكاد النور لا يُفارقهما، بل إنّ الافتتان بتوهّجات اللون وألقه يبدو بارزًا حتى في معارضها الأخيرة بباريس وغيرها. يتشكّل العمل الفنّي عندها من وحدات تركيبية وعناصر جماليّة رافقت مسارها الإبداعي منذ مرحلة الشباب. تلك الشمس المُتوهّجة وذلك القمر المائل إلى اللون الرمادي وتلك الجبال الشامخة أبد الدهر تُثير في المُشاهد فتنة المجهول وتجعل العين تدخل وتسرح في صمت الطبيعة وابتهاج الألوان. إنّها ترسم وتُلوّن لا كما تُحدّد ذلك قواعد الفنّ. بل إنّ للون دلالة نفسية. إنّه سفرٌ في شغاف الجسد وتوقُ الروح إلى مسكنها. هكذا تغدو العين طرفًا مُشاركًا في صناعة العمل الفنّي وتصدّر مركز اللوحة. إنّ شموس إيتيل عدنان تُعطي الانطباع الأجمل لكل من يُحدق فيها باسمًا، إنّها إشارة إلى الحياة وإلى فصول جديدة من سيرة الكائن على درب الحياة. ففي أعلى اللوحة يتغيّر لون السماء من الأزرق مُتّخذًا ألوانًا عدّة ومُتنوّعة، وهي دلالة رمزيّة على قلب عنصر اللون في العُرف الأكاديميّ. ثم إنّ اللون في أعمالها يبرز كفعل مُقاومة وحياةٍ لمُختلف أشكال الموت. ولا يرتبط بدلالاته العادية. فهو يلعب دور المُوجّه للعين ويُعطي الانطباع الأوّل لتلك الروح المرحة والمُتوهّجة والساحرة والطفولية في شخصية إيتيل عدنان. وليس ببعيدٍ أنْ تكون أغلب أعمالها مُستلّة من طفولتها وعلاقتها مع المُحيط والجبال والشمس والقمر والكتل والخطوط، لأنّها عناصر ثابتة في اللوحة. إنّها تتجذر في رحم اللوحة مثل نبتة ظلٍّ تكاد لا تُفارق الأصل. وحتى إنْ غابت في بعض المعارض، تظلّ بشكلٍ أو بآخر حاضرة كعلامة على الوجود أو أثر على الافتتان بالحياة. وفي هذا الأمر، ما يُفسّر تعلّق إيتيل عدنان بالعالم العربي، فرغم كتابتها بالفرنسيّة والإنكليزية واتقانها للتركية واليونانية وعيشها بشكلٍ دائمٍ وأبديّ بين باريس وأميركا، إلاّ أنّ قلبها ظل مطلًّا كل مساء على طفولتها العربيّة الأولى.

 

*ناقد مغربي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.