}

قلبها يشبه علبة الألوان.. في محبة إيتيل عدنان

رشا عمران رشا عمران 18 نوفمبر 2021



رغم أنها لم تكتب حرفًا واحدًا (أدبيًا) باللغة العربية، لغتها الأم، إلا إن إيتيل عدنان التي رحلت قبل أيام عن ستة وتسعين عامًا (1925- 2021) كانت وما زالت تعد، عربيًا ودوليًا، إحدى أهم وأشهر الشاعرات العربيات في القرن العشرين وما تلاه، ولعل هذه واحدة من المفارقات المدهشة التي لطالما ميزت شخصية إيتيل عدنان، فهي ابنة والد سوري مسلم، ووالدتها مسيحية يونانية، لكنها ولدت ونشأت في لبنان، الفرانكوفوني بقدر ما هو عربي، وحملت جنسيته، ثم أثناء الحرب اللبنانية انتقلت إلى الولايات المتحدة الأميركية وحملت جنسيتها، ثم عاشت فترة في اليونان، وهي أيضًا تحمل الجنسية اليونانية، لتستقر أخيرًا في فرنسا حيث سيكون مستقرها الأخير، ومنذ سنوات طويلة من حياتها لم تتفارق عن شريكتها التي رافقتها في كل تنقلاتها، التشكيلية والنحاتة والخزافة سيمون فتال، وهي مثل شريكتها من أصل سوري نشأت في لبنان ثم انتقلت إلى أميركا لتتعرف فيها إلى إيتيل عدنان ثم تبدآن معًا رحلة شراكة استثنائية في الحياة والفن، ذلك أن إيتيل عدنان التشكيلية لم تكن أقل أهمية من إيتيل عدنان الشاعرة والكاتبة، بل ربما أضافت تجربتها التشكيلية إلى شعرها تلك البراءة النادرة التي تميزت بها كتاباتها، أو ربما اختلطت تجربتاها معًا، بحيث لم يعد ثمة حدود للفصل لديها بين الشعر والتشكيل، فهي في الحالتين تعصر قلبها، وتضع تلك العصارة النادرة في مواجهة العالم، لنقرأها شعرًا، ليست البراءة سوى واحدة من صفاته، فشعر إيتيل مشحون بعاطفة بالغة القوة، بقدر ما هو مشحون برؤية خاصة للعالم وللكون وللطبيعة وللحب، رؤية ملونة، إن صح التعبير، ففي كل قصيدة لها سوف تدهشنا بقدرتها على الكشف عن ألوان الكون بكل ما فيه، حتى في كتابتها عن الحرب وعن الشرور ثمة لون لكل تفصيل، فإذا كان يقال عن قصيدة النثر إنها تملك موسيقاها الداخلية، فإن قصيدة إيتيل عدنان تملك ألوانها الداخلية، الألوان الخام، بخفتها وعفويتها الأولى، تمامًا كما ألوانها في لوحاتها وأعمالها الفنية، إذ يخيل إليك أن إيتيل لم تكن ترسم (رغم أن الاحتفاء العالمي بها كتشكيلية فاق الاحتفاء بها كشاعرة بدرجات)، بل تلعب بعلب الألوان المختلفة، تجرّب أثر اللون على القماش  أو على الكرتون الأبيض، كما لو أنها تفتح أصابع الألوان وتبدأ بعصرها على القماش دون أي تخطيط مسبق، هكذا يظهر اللون لديها شديد الوضوح، كما لو أنه السماء أو البحر أو الشجرة أو الجبل، كما لو أن الحياة لديها تنتقل بين لون وآخر بتلقائية فاتنة، دون أن نرى الخطوط الفاصلة بين لون وآخر، نرى خفة الانتقال وخفة اللعب، لكنه اللعب بالغ الجدية، تماما كما الأطفال، يمارس الأطفال ألعابهم وهم في كامل جديتهم، هم لا يدركون أنهم يلعبون، هكذا، بنفس الطريقة، أظن أن إيتيل عدنان كانت تكتب وترسم، هكذا كانت فرادتها، وهل ثمة ما هو أكثر فرداة في الفن من الانشغال به بوصفه لعبة بالغة الجدية؟!

لكن، خلف ذلك اللعب الإبداعي كانت هناك شخصية مهمومة بالشأن الإنساني ومنشغلة بالشأن السياسي العالمي وبقضايا البشرية وحق الإنسان كفرد وحق الجماعات في تقرير مصيرها، وكانت منغمسة تمامًا في تفكيك ظاهرة الكولونيالية ونقدها، وتأثيرها على حاضر العالم ومستقبله، وكانت تساؤلاتها عن العالم المتقدم الحضاري الذي يقدم نفسه كعالم معني بحقوق الإنسان، قادمة من وعي بتاريخه الإستعماري، وتسلطه على الشعوب الفقيرة، وربما تعدّد انتماءاتها وهوياتها الشخصية، حولها إلى كائن أممي، أو إلى كائن عابر للانتماءات كلها بما فيها الجنسية، مثلما جعلها إتقانها للغات عدة ( فرنسية ويونانية وتركية وعربية وإنكليزية)، قادرة على التماهي مع جميع البشر، كما لو أن كل ذلك كان بمثابة نافذة تطل على الكرة الأرضية، تخرج منها وتنتقل بخفة عصفور من مكان لآخر، فجذورها المتنوعة تلك ربما هي ما كونت شخصيتها المتفردة، الناقدة والرائية لخراب العالم الذي صنعته الحروب، والمتفائلة في ذات الوقت بمستقبل معافى قد يأتي يومًا ما، فـ"الحرب أداة تنظيف للبشرية"، كما قالت ذات مرة، غير أن هذا الانشغال لم يكن يومًا انشغالًا أيديولوجيًا، بقدر ما كان عاطفيًا ومثاليًا وآتيًا من حلمها بعالم خال من الحروب والقهر والظلم والعبودية والتمييز، عالم ملون بألوان حارة وطازجة كما هي ألوانها وكما هو شعرها وكما هو قلبها الذي لم يفقد براءته وطزاجته حتى وهي تعاني من المرض في سنواتها الأخيرة، حتى وهي تطلب من طبيبها أن يخفف ألمها بالموت الرحيم قبل عدة أسابيع حين أصبحت عاجزة عن الرسم وعن الكتابة، كما لو أن هذا العجز عن فعل الإبداع كان هو الموت لها، كما لو أن الحياة هي أن ترسم وتكتب فقط، هي التي عاشت كل هذه السنوات الطويلة دون أن يشكل التقدم في السن أي أزمة لها، استنفدت طاقتها الإبداعية حتى النهاية، عصرتها تمامًا كما تعصر علب ألوانها.

من أعمال إيتيل عدنان  



ما الذي جعل من إيتيل عدنان تصنف كأهم وأشهر شاعرة عربية معاصرة وهي التي لم تكتب حرفًا واحدًا بلغتها الأم؟ وهل تكفي الجذور الأولى لشيء كهذا؟ لماذا لم تنصنف إذًا كأهم شاعرة يونانية كون نصف جذورها من هناك؟ وإذا ما كانت اللغة لدى المبدع هي الهوية فهوية إيتيل فرنسية أو أميركية، وهما اللغتان اللتان كتبت بهما كل أعمالها الأدبية، من أين أتى هذا التصنيف إذًا؟ في ظني أن حياتها المبكرة في بيروت واشتغالها بالصحافة فيها، حتى لو كانت صحافة فرنسية، شكلت لديها أرضية ثقافية أخذتها نحو أمميتها من جهة، ومن جهة أخرى جعلتها دائمة الصلة بالحدث العربي السياسي والإجتماعي، فهي كتبت عن الحرب الأهلية في لبنان، وكتبت عن قدر هذه المنطقة المبتلية باستعمارات متعددة، كتبت بالفرنسية وتخلت عن الكتابة بالإنكليزية احتجاجًا على التدخل الأميركي في العراق، كتبت عن الاستعمار وظله الثقيل وأثره المديد على بلاد العرب، ومن كان على تواصل معها في باريس خلال العقد المنصرم، لا سيما من السوريين، يحكي عن اهتمامها بالحدث السوري، وانشغالها بمآلاته ونتائجه، وحديثها المستمر معهم عن مناصرتها لحرية السوريين، وألمها من رؤية الخراب الحاصل. يحكي أصدقاؤها اللبنانيون أيضًا عن حزنها لما وصلت إليه بيروت من خراب، وكأنها لم تمت بسبب التقدم في السن بل بسبب التقدم في الحزن على حال البلاد التي أحبتها.. أفلا يكفي هذا الحب كي تصنف أهم وأشهر شاعرة وفنانة عربية معاصرة مهما كانت اللغة التي تكتب بها؟!

لم يتح لي يوما اللقاء بإيتيل عدنان، لكنني لا أتذكر أنها غابت يومًا من ذاكرتي، كما لو أنني التقيتها عشرات المرات، كما لو أن حديثًا طويلًا جرى بيننا ذات يوم غيّر من رؤيتي للشعر وللفن وللنضال، هل يمكن للإبداع أن يكون بالغ التأثير أكثر من ذلك؟! وأعترف أنني كنت مرارًا سوف أكتب عنها، وفي كل مرة أقول ربما ألتقيها ذات يوم في باريس وأكتب عنها، لكن ذلك لم يحدث يومًا، ولا أعرف إن كانت ستهتم لو أنني كتبت عنها أم لا، لكنني أثق أنها، حيث هي الآن، وهي تكتشف نبع الألوان الأول، سترى ذلك الخط الطويل الذي يربطنا، نحن من نراها أجملنا وأهمنا، بكل ما أبدعته خلال حياتها الطويلة، وبتلك الطفولة التي نحسدها عليها حتى عند رحيلها.

 

 

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.