}

مسلسلات لتلميع صورة مهربين

عارف حمزة عارف حمزة 13 ديسمبر 2021


لا يخلو موسم رمضاني من تقديم مسلسلات تلفزيونية تُحاول تقديم الشرّ بأرقامه القياسية. واللافت للنظر أن هذا الشر يتمّ تجميله بحيث يقف المشاهد إلى جانب الشرير/ المجرم، وليس إلى جانب الضحية، لدرجة أن يتم تبرير ذلك الشر وذلك الإجرام، أو يجعل التفكير يذهب إلى تفكيك النفس البشرية على أنها نفس تميل إلى الشر أكثر منه إلى الخير. وربما يعني ذلك بأنها تميل أكثر إلى القبح، وليس إلى الجمال.
في الأيام الأخيرة، انتهى عرض مسلسل "الهيبة" بجزئه الخامس. هذا المسلسل حقق أرقامًا عالية في المشاهدة، ومتابعة الحديث عنه حتى خلال أوقات عدم عرضه. وبالنظر إلى تسلسل هذه السلسلة نجد أنها، اعتبارًا من الجزء الثاني، افترقت كثيرًا عن الجزء الأول من حيث بناء الشخصيات وكذلك الأحداث.
حاز "جبل"، الذي قام بدوره الممثل السوري تيّم حسن، على حب كبير من قبل المتابعين. بمظهره القتاليّ، وقدراته العالية ذهنيًا وبدنيًا. بل إن النسوة والفتيات أحببنه ليس فقط من مظهره الرجوليّ، ولحيته العصريّة، بل كذلك أحببن مغامراته وألفاظه وشتائمه. وصرن يرددن بعض جمله التي تخصّه، مثل "لا تهكلي الهم"، أو "يا حرام الشوم".
لندع جانبًا مسلسلات جرت في أجواء التهريب والمهربين، ولو بنسب متفاوتة، مثل مسلسلي "صالون زهرة" مع السوري معتصم النهار، و"عشرين عشرين" مع السوري قصي خولي، وهي في معظمها على درجة كبيرة من الأداء الجيد، ولننظر إلى ما يروّج له مسلسل مثل "الهيبة"، وهو ما ينطبق بشكل أو بآخر على الدفعات الأخيرة من مسلسلات التهريب والمهربين. لن ننظر إلى أشياء غير واقعية جرت في المسلسل، مثل بناء السد، وحفر وتجهيز النفق الواصل إليه لمسافة 15 كيلومترًا خلال عام واحد، بل سننظر إلى الأفكار التي صارت تُعطى للمشاهد بملعقة كبيرة، وهي تعويم الصورة الأخلاقية الخيّرة للمهرّب. والمهرّب هو شخص خارج عن القانون بكل الأحوال. وهذا يعني أنه مجرم لا بد من تقديمه للعدالة، وإيقاف شروره التي قد تضرّ، بالإضافة إلى الأشخاص، بمصالح دول.


دولة الهيبة!
في الدول المتحضّرة القوية اقتصاديًا، يُعد المهرّب مجرمًا في أعلى مستويات الإجرام، وهم يختلفون في تصنيفهم؛ من مهربي البضائع العادية، إلى مهربي المخدرات والأسلحة، إلى مهربي البشر. وهؤلاء المهربون يعدونهم متهربين من دفع الضرائب، إضافة للإضرار بالاقتصاد الوطني وأبناء الوطن، والمتهرب من دفع الضريبة يعد في تلك الدول أسوأ من القاتل العادي، فعمله يضرّ باقتصاد دولة كاملة، وربما باقتصادات دول عدة.




في الجزء الجديد، هنالك صراع جديد بين جهتين. الجهة الأولى تعمل في التهريب أبًا عن جد، وهي عائلة جبل وأهالي قريته والقرى المتناثرة على الحدود. والجهة الأخرى جاء عملها في التهريب طارئًا؛ من خلال استغلال "الفلتان الأمني في سورية"، فتقوم فرقة صغيرة من "داعش" بتهريب أثر ضخم، بعد تقطيعه إلى قطع عدة، من مدينة تدمر السورية إلى لبنان، وإيصال تلك القطع، لقاء حصة من الثمن، إلى المهندس وديع (قام بدوره الممثل السوري عبد المنعم عمايري) من خلال النفق الطويل ذاك إلى داخل محطة المياه في السد المسؤول عنه المهندس وديع، الذي يقوم بإعادة نقل تلك القطع منفردة، من خلال شاحنات المياه، إلى التجار المختصين بتهريب الآثار.
لا يعرف المرء لماذا تمّ رسم هذا الطريق لنقل وتهريب الآثار، طالما تم عبورها لحدود بلدين، سورية ولبنان، ويُمكن إيصالها إلى تجارها في المكان الذي ستذهب إليه شاحنات المياه من السد؟ ولكن على المشاهد أن يعرف بأن عبور حدود دولتين قد يكون هيّنًا أكثر من عبور حدود دولة الهيبة، ورئيسها المهرب جبل.



ليس الصراع بين جهتين تعملان في التهريب، فالأمر يتعلق بالوطنية إذًا. وبعهود تم إبرامها بين جبل وبين أمن الدولة اللبنانية، وكذلك السورية، بعدم السماح بتهريب السلاح والمخدرات! بمعنى أنه مهرّب لأجهزة كهربائية ربما، أو مهرّب للأغنام، أو المحاصيل الزراعية، وهو الذي ساهم في تهريب الأموال سابقًا.
من المعروف أن المهرب لا يهمه سوى المال والطرق الأسرع للحصول على ذلك المال، ولو بالقتل أو الابتزاز أو الخطف أو التهديد. ويُمكن القول بأن بذرة الإجرام وُلدت في داخل هذا الشخص منذ ولادته، وهو ما أطلق عليه العالم والطبيب الإيطالي سيزار لومبروزو (1835 ـ 1909) تسمية المجرم بالولادة.
وكما هو معروف، فإن المهرب أول مَن يُضار بعمله وجرائمه هو الدولة، من خلال تخريب اقتصاد تلك الدولة، ومن خلق توالد أجيال فاسدين ومرتشين من رجال الأمن والجمارك وحرس الحدود. دولة المهرب هي ماله ومصلحته الشخصية فحسب. وآخر ما يفكر به المهرب هو البلد، أو مصلحة البلد، لأنه يعمل أصلًا ضد البلد ومصلحة البلد. وإذا قال أحد ما بأن مهربًا لن يعمل ضد مصلحة واقتصاد بلده فإن هذا الأمر لن يكون مضحكًا فحسب، بل يعد تشويهًا وإهانة لسمعة وصورة المهربين.




ولكن الأمر مختلف في الجزء الأخير، كما تداولت الناس والمواقع، من دولة "الهيبة". فالمهرب، أبًا عن جد، لن يقبل أن يتم تهريب آثار بلد والدته الشامية، وعلى يد مَن؟ على يد "داعش"، الذي يعتاش على تهريب المخدرات والأموال والآثار والأعضاء البشرية. "داعش" بالنسبة لهذا المهرب خط أحمر. لماذا؟ لتعلّق ذلك بمصلحة الوطن، رغم أنه سيزيد أرباحه وأمواله أكثر بكثير من عمله العادي في التهريب.
من جهة أخرى، هل الأمر عبارة عن تلميع صورة الكثير من المهربين/ الشبيحة، الذين عملوا لعقود طويلة، باتفاق وتقاسم للنسب، مع رأس النظام السوري الراحل حافظ الأسد، وبعض رجالات العائلات الموالية له، الذين تم إعطاؤهم، في عهد ابنه، أحياء ومناطق وإقطاعيات ومدنًا، ودولة كاملة، لترهيب المواطنين وخطفهم وقتلهم وسرقة بيوتهم ومحالهم وأعضائهم وتسليمهم للنظام أو بيعهم لفرق أخرى؟ خاصة أن العديد من الأقاويل ظهرت مع بث الجزء الأول من المسلسل، بأن المقصود بجبل هو محمد الأسد الملقب بشيخ الجبل، وبرئيس جمهورية اللاذقية.
عند دخول "داعش"، وتهديده لمصلحة وآثار ووجود سورية، لن يقف جبل، الذي يعيش ويسكن، أبًا عن جد، في لبنان، مكتوف اليدين. لن يفكر بالنقود، التي يتركها في مشهد عابر لرجال "داعش"، بل فخخ أحد رجالات "داعش" مع النقود كدليل على أنه يستغني عنها، بل سيفكر بالوطن والدفاع عنه. لذلك سيطلب من رفاقه أن يجهزوا أكفانهم وتوديع عائلاتهم دفاعًا عن الوطن ومصلحته.
من حق المرء/ المشاهد أن يتساءل عن الذي يروّجه عمل ما، وكل عمل فنيّ يروج لأفكار ولشخصيات معيّنة، خاصة مع الأداء اللافت للممثلين، في الأعمال الثلاثة التي ذكرناها، والذي يجعل العمل مؤثرًا في المشاهد لفترة ليست بالقصيرة.
هذا التعلّق بشخص يعمل في التهريب، وبشكله وألفاظه وعالمه السوقيّ، يذكرنا بكثير من الحالات، حتى الأفظع عالميًا، ومنها، على سبيل المثال، حالة ثيودور روبرت بندي (1946 ـ 1989). وهو كان سفاحًا وخاطفًا ومغتصبًا لعشرات النساء والفتيات في الولايات المتحدة. وهو الذي كان ينفي جرائمه طوال الوقت، ولكنه اعترف أخيرًا، قبل إعدامه بفترة وجيزة، بثلاثين جريمة من جرائم القتل ارتكبها في 7 ولايات أميركية خلال 4 سنوات (1974 ـ 1978). خلال محاكمته، كان المجرم الوسيم يتأنق في لباسه ويتعطر، ربما لكي لا يخذل معجباته من النساء اللاتي كنا يداومن على حضور جلسات المحاكمة، أو يقفن حول المكان، ويتنهدن ويصرخن عند رؤيته، كأنه نجم موسيقيّ، شبقًا وشهوة إليه، وليس تعنيفًا له!! كن يتعاطفن مع المجرم، وليس مع النسوة، أو عشرات الفتيات الصغيرات اللاتي اغتصبهن وقتلهنّ السيد بندي!
كثير من الناس العاديين وقفوا إلى جانب هذا المهرب والقاتل، وكأنه روبن هود جديد، وكثير منهم صاروا يُقلدون تسريحته، وكلامه وشتائمه. وصار "جبل" معبود الفتيات والشابات، وصرن ينتظرن عريسًا يقود سيارة دفع رباعي سوداء، لا تحمل أرقامًا، ويشبهه في كل تفصيل، ويشبهه حتى في سوقيّته!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.