}

أصوات روائية مغاربية جديدة في الألفية الثالثة

عبد الرحيم العلام 25 ديسمبر 2021
مما لا شك فيه أن رياحًا روائية جديدة قد هبّت على عديد المشاهد الروائية العربية مع بداية الألفية الثالثة. وبالنسبة للأقطار المغاربية، يكاد المشهد الروائي فيها يتشابه، وخصوصًا في الأقطار المغاربية الثلاثة: الجزائر وتونس والمغرب، التي شهدت ظهور أصوات روائية جديدة من مختلف الأعمار، لفتت إليها الأنظار، وحققت نصوصها متابعات نقدية مهمة، خلافًا للوضع الروائي في موريتانيا وليبيا، حيث لم تكن قد تشكلت فيهما، مع بداية الألفية الجديدة، ملامح مشهد روائي جديد قائم الذات، على مستوى تحقق تراكم لافت في الأسماء والنصوص الروائية، من شأنه أن يشكل موضوع مقاربات لوضع روائي جديد.

فكما ظهرت أسماء روائية جديدة من الجنسين في المغرب، مع بداية الألفية الثالثة، شهدت بقية الأقطار المغاربية الأخرى، ظهور أسماء ونصوص روائية جديدة، استحق بعضها جوائز مهمة، فضلًا عن كون مجموعة منها قد صدرت في أكثر من طبعة، محلية وخارجية، مع ضرورة الإشارة، أيضًا، إلى أن الملامح الأولى لتبلور هذه الحركة الروائية الجديدة في الأقطار المغاربية، كانت قد بدأت، في الواقع، منذ تسعينيات القرن الماضي.
من بين أولى الملاحظات التي يمكن استخلاصها من طبيعة هذا الحضور الجديد لمجموعة من الأصوات الروائية في البلدان المغاربية، ما يرتبط بتباين أجيالها، من حيث عدم انتمائها جميعها إلى فئة الروائيين الشباب، عدا صعوبة إيجاد تقاطعات في ما بين نصوصها؛ إذ يمكن أن نزعم، وللوهلة الأولى، بحدوث عنصر الغرابة في موضوعاتها، من غير أن ننفي أيضًا حدوث بعض أوجه الالتقاء بين مجموعة من نصوص هذه الموجة الجديدة، وخصوصًا على مستوى استيحائها لبعض القضايا والثيمات الروائية المهيمنة فيها، من قبيل احتفائها بالذات، واحتمائها بالماضي وبالطفولة، هربًا من واقع مأزوم ومحبط، وعجنها المحكي السير ذاتي للكاتب بالمحكي الروائي، واهتمامها بالتفاصيل الصغرى، فضلًا عن حدوث إحساس شبه عام لدى هؤلاء الروائيين بالمرارة والعبث، وبلا جدوى سؤال الانتماء والهوية (الهاجس الوطني)، عدا إبرازهم لسؤال العلاقة بالذات، والإحساس بفوضى العالم وشقائه، وخراب الحياة وكينونة الإنسان، إلى جانب احتفائهم بالهامش، وهو ما تؤكده أيضًا حوارات بعض الروائيين وتصريحاتهم الصحافية الموازية.



فبالنسبة للمشهد الروائي في المغرب، يمكن القول إن ثمة أمورًا كثيرة قد تغيرت في هذا المشهد الروائي مع بداية الألفية الجديدة، بحدوث طفرة روائية وتراكمية جديدة، وخصوصًا على مستوى ظهور جيل جديد من كتاب الرواية في المغرب، في تنوع أعمارهم، وإن تبين أن بوادر تكون هذا الجيل الجديد كانت قد بدأت، كما هي الحال في بعض الأقطار المغاربية الأخرى، منذ تسعينيات القرن الماضي.
هكذا يمكن أن نزعم أنه منذ العقد التسعيني من القرن الماضي، بدأت تتشكل في الأفق ملامح بداية مغايرة لكتابة روائية جديدة في المغرب، ما فتئت تزداد ترسخًا وامتدادًا مع بداية الألفية الجديدة، شأنها في ذلك شأن بدايات روائية جديدة في أقطار عربية أخرى (رواية التسعينيات في مصر مثلًا)، موازاة مع حدوث تحول في وعي روائيي وروائيات هذه المرحلة الجديدة، في إدراكهم للتحولات الفنية والجمالية التي طالت كتابة الرواية في العالم.




وإذا كانت مجموعة من الأصوات الروائية الجديدة في المغرب، قد تخطت اليوم عتبة النص الروائي الأول، وقد غدت متسلحة بوعي نظري متطور، يوجه كتاباتها وامتداد نصوصها وثيماتها في دائرة التخييل، والتخييل الذاتي، والواقع، والتاريخ القديم والحديث، والذاكرة والمجتمع، فإن بداية الألفية الجديدة، قد شهدت بدورها ظهور نصوص روائية جديدة، تمكن بعضها من أن يلفت إليه نظر القراء وتعليقات النقاد، وهي الروايات الأولى، على سبيل المثال، لكل من: كمال الخمليشي في روايته "حارث النسيان"، وبهاء الدين الطود في روايته "البعيدون"، وفاتحة مرشيد في روايتها "لحظات لا غير"، ومحمد أنقار في روايته "المصري"، وزهرة المنصوري في روايتها "البوار"، وعبد الإله بن عرفة في روايته "جبل قاف"، ومحمد غرناط في روايته "متاع الأبكم"، وأحمد الكبيري في روايته "مصابيح مطفأة"، وجلول قاسمي في روايته "سيرة للعته والجنون"، وغيرهم من روائيي الألفية الثالثة، ومن ظهر بعدهم من الروائيين الجدد، في العقد الثاني من الألفية الجديدة.
يمكن القول إن أهم خاصية طبعت الكتابة لدى هذه الأصوات الروائية الجديدة في المغرب، خلافًا للتجربة نفسها في مصر مثلًا، هي خاصية "التشظي"، فقد بدت أصواتًا روائية لم تأت استجابة لتيار أيديولوجي سائد، أو لحساسية إبداعية جديدة، أفرزتهما المرحلة، خصوصًا وأنها أصوات تنتمي إلى أعمار متباينة، وتنحدر من اهتمامات ثقافية ومهنية مختلفة، وتتحكم في إقبالها على كتابة الرواية عوامل واشتراطات متباينة، ما جعل "تشظيها"، على مستوى اهتماماتها الموازية، ينعكس حتمًا على "تشظي" مفهومها وتصورها للكتابة الروائية وعدم تجانسه، من حيث عدم ركون هذه التجربة، أو احتكامها إلى معطى نظري خاص يؤطرها، ويوجه تصورها للكتابة الروائية.



غير أن تشظي هذه الأصوات الروائية الجديدة في المغرب لا ينفي أنها تتوفر على خصائص مشتركة في ما بين نصوصها، وخصوصًا من حيث اهتمامها المتزايد والمهيمن بصوغ أسئلة "الذات" أساسًا، في بحثها المتلاحق عن هويتها المتشظية هي أيضًا، وسط عالم متشظ ومهزوز القيم، ما يجعلنا نقر بوجود روابط بين مجموعة من نصوص هذه الأصوات، من زاوية جرأتها وقيام الرغبة لدى بعضها على تعرية الواقع واختراقه لأجل تجاوزه، سواء عبر السخرية والتهكم منه، أو عبر مزجه بالغرائبي، والاحتفاء بالذات وجروحها وانكساراتها، والتصالح مع الجسد، والاهتمام بالهامشي والجمالي والحسي، وإن بدا أن ثمة تفاوتًا كبيرًا، على مستوى القيمة الفنية واللحظات الجمالية الفارقة بين نص وآخر، وأيضا على مستوى درجة المعرفة والتمثل والبحث والاستيحاء لهذه التيمة أو تلك، وكذا في زاويا الرؤية إلى هذه القضية، أو تلك، وهو ما يكشف لنا بالفعل عن نصوص روائية جديدة، تتجاوز هشاشة التجربة، كما انتصرت لها نصوص أخرى.






وتبقى مدونة الرواية الجديدة في الجزائر، في مجموعة من نصوصها، الأكثر تجسيدًا لعنصر التقاطع الثيماتي فيها، وخصوصًا تلك الروايات التي تشكلت مع فترة العنف الدموي الذي شهدته الجزائر، أثناء العشرية السوداء وبعدها، وتمكنت، حسب البعض، من إحداث قطيعة مع ما سبقها من كتابات محسوبة على "الواقعية الاشتراكية"، بحيث استطاعت مجموعة من روايات بداية الألفية الثالثة في الجزائر، المساهمة في الكشف عن تحوّلات المجتمع الجزائري، وملاحقة أزمة الجزائر الأمنية والسياسية، بالنظر لما عرفته سنوات الفتنة من مجازر وحرب إبادة،، وإبرازها لجوانب من التأثير والتداعيات النفسية لذلك كله على الفرد والمجتمع، على حد سواء. ويمكن أن ندرج، في هذا الإطار، عددًا من الروايات الجديدة في الجزائر، وهي لكل من سفيان زدادقة في نصوصه الروائية "يوبا"، و"كواليس القداسة"، و"سادة المصير"، والخير شوار، في روايته "حروف الضباب"، وأزرقي ديداني في روايته "زمن الأباطرة"، وحمزة باديس في روايته "القبو"، وسارة حيدر في رواياتها "زنادقة"، و"لعاب المحبرة"، و"شهقة الفرس"، وكمال قرور في روايته "التراس.. ملحمة الفارس الذي اختفى"، وعيسى شريط في روايته "لاروكاد"، وحسين علام في روايته "خطوة في الجسد"، وحميد عبد القادر في روايته "الانزلاق ـ مرايا الخوف"، وجيلالي عمراني في روايته "المشاهد العارية ـ عيون الليل"، وغيرها من أصوات الحساسية الروائية الجديدة التي ظهرت في الجزائر، وتمكنت بالتالي من أن تلفت إليها الأنظار والاهتمام، بشكل دفع بأحد هؤلاء الروائيين (الخير شوار) إلى التساؤل حول إمكانية "اعتبار سنة 2008، سنة الرواية الجديدة في الجزائر".



أما في تونس، فيمكن أن نتوقف عند أكثر من رواية لأكثر من كاتب جديد، ممن ظهروا مع بداية الألفية الجديدة، وساهموا في الإضافة إلى التراكم الروائي في تونس، باللغتين العربية والفرنسية، من قبيل: حسن بن عثمان في رواياته الثلاث "ليلة الليالي"، و"شيخان"، و"بروموسبور"، وكمال الرياحي في روايته "المشرط"، وظافر ناجي في روايته "حفيف الروح"، وكريم كندي الجمني في روايته "نشر الغسيل"، وفاتن كشو في روايتها "صوت الحب"، وعبد الجبار العش في رواياته "وقائع المدينة الغريبة"، و"أفريقستان"، و"محاكمة كلب"، وغيرهم.




وتبقى رواية "محاكمة كلب" ذات أهمية لافتة، إن على المستوى الثيمي، أو على المستوى الفني والتقني، في استيحائها لتقنية "المسخ"، من خلال تحول إنسان (الراوي عروب الفالت، المكنى بالسلوقي) إلى كلب، في إطار "محاكمة كلبية"، يتم سردها وحكيها بطريقة يزاوج فيها الكاتب بين المحكيين السيرذاتي والروائي، وفي قالب سردي فضائحي وسوداوي وعبثي فارق، حيث تتم مواجهة العالم في هذه الرواية، والبحث عن معنى له، ضد كل مظاهر الاستبداد والتسلط، وضد الإهمال والتمزق النفسي الذي طال جيلًا مهزومًا ومنسيًا بكامله، أو بتعبير الرواية "إنه التكثيف المأساوي للمواطن العربي في هذه اللحظة الجليلة من الألفية الثالثة..." (صدرت الرواية عن دار الجنوب للنشر، سلسلة عيون المعاصرة، تونس 2007، ص 165).



كما تعدُّ رواية "المشرط: من سيرة خديجة وأحزانها" (صدرت عن دار الجنوب للنشر، سلسلة عيون المعاصرة، تونس 2007)، للروائي التونسي كمال الرياحي، في اعتقادي، من بين أهم النماذج الروائية المجسدة للحساسية الروائية الجديدة في تونس، والتي بشرت بحدوث طفرة نوعية في مسار الكتابة الروائية بالبلدان المغاربية ككل، بحيث تمكنت هذه الرواية من أن تلفت إليها أنظار المهتمين والمتتبعين، في تونس والعالم العربي والخليج وأوروبا، كما تمكنت من أن تخلخل السرد الروائي النائم في تونس منذ مدة، على حد تعبير أحد النقاد التونسيين الشباب (نبيل درغوت)، اعتبارًا لنزعتها التجريبية الجديدة، ولمادتها التكوينية المتنوعة، واعتبارًا أيضًا لنفسها الروائي الجريء، في اقتناصها لتناقضات الواقع، من خلال احتفائها بالهامش والقاع، ما جعلها تستحق فعلًا "جائزة الكومار الذهبي" التونسية لأفضل عمل روائي تونسي لعام 2007.




أما نصوص الأصوات الروائية الجديدة، التي ظهرت مع بداية الألفية الجديدة في موريتانيا، فيمكن الإشارة إلى نصوص كل من سيد محمد ولد حيماد في روايته "الأفكار"، وحمود ولد سليمان في روايته "تجمعنا سفينة واحدة"، والمختار السالم أحمد سالم في روايته "موسم الذاكرة"، وسميرة حمادي فاضل في روايتها "حشائش الأفيون"، وامبارك ولد بيروك في روايته "ونسيت السماء أن تمطر"، ومحمد بابا ولد أشفع في روايته "وادي النعام" في استفادتها من السينما، من أجل استشراف افتراضي لمستقبل موريتانيا عام 2030، انطلاقًا من رصد واقع قرية منسية، يعمها الجهل والعصبية واليأس، والرواية بذلك إنما تعكس صورة مصغرة لما هي عليه موريتانيا اليوم، حيث يسود تغليب المطامح الذاتية والنفوذ، ويتفشى الإثراء والمتاجرة بقضايا الوطن.
ورغم محدودية التراكم الروائي الذي حققته الأصوات الروائية الجديدة في ليبيا، مع بداية سنوات الألفية الجديدة، يمكن الإشارة، مع ذلك، إلى رواية "للجوع وجوه أخرى" للقاصة الليبية الشابة، وفاء البوعيسى، بما أثارته هذه الرواية من جدل كبير، وردود فعل معاكسة، منددة بسحب الرواية من السوق، نتيجة لما تتضمنه من "مشاهد جنسية خليعة، وترانيم دينية مسيحية"، وهو ما عده وعاظ المساجد وخطباؤها في ليبيا: "إخلالًا بالدين، وتهديدًا للقيم الاجتماعية الليبية، ومحاولة تبشيرية"، في حين نفت كاتبتها أي تبشير بالمسيحية، عادة أن روايتها ترصد حالة وقعت، وتقع كل يوم في مجتمعاتنا، وتنهض بحرية المعتقد، وفق ما يقتضيه الإبداع من ضرورات فنية.
إلى جانب رواية منصور بوشناق: "العلكة.. سراب الليل" (2007)، نشير أيضًا إلى روايات الروائي الليبي، محمد عقيلة العمامي، الذي جاء إلى الرواية متأخرًا نسبيًا (من مواليد عام 1943)، حيث صدرت أولى رواياته "ليلة عرس الجمل" عام 2005، تلتها رواية "كوامي أيايا"، فرواية "تمر سيوة ولبن قرقاش".







وعمومًا، يمكن القول إن ثمة حركة روائية جديدة قد ظهرت مع بداية الألفية الثالثة، يقودها روائيون مغاربيون جدد، ممن يحاولون التأسيس لرؤية إبداعية جديدة خاصة بهم، انطلاقًا من رغبة قائمة لديهم في "الاختلاف"، و"المغايرة"، و"المغامرة"، و"التجديد"، وفي امتلاك نظرة حارقة تجاه سؤال الوجود والإبداع، في توسلهم بلغة روائية جديدة وجريئة، تكتب عن المرحلة بواقعية متجردة من التابوهات، موسعة من أشكال مرجعياتها الروائية الكونية، كما تبلورت بعض قسماتها في نصوص روائية مؤسسة ومؤثرة، كما هي الحال عند كونديرا، وياسوناري كاوباتا، وكافكا، وحنا مينة، ونجيب محفوظ، وثيربانتس، وغيرهم، وأيضًا في استفادتها من التشكيل والسينما والنحت والموسيقى والمحكي الذاتي والتاريخ والتراث الشفوي والمكتوب، وفي توظيفها لعدد من تقنيات السرد، وتوسلها بالسخرية والتهكم والمسخ والفانتازيا، ومراوحة أزمنتها بين الحاضر والماضي والمستقبل، وتنويع فضاءاتها بين المحلي والأجنبي، وتعدد أمكنتها بين الداخل والخارج، والمقاهي والحدائق، والمدينة والقرية، والصحراء والبحر.
غير أن تحقق ذلك كله قد لا يمنع من القول بأن مجموعة من الروايات الأولى لأصحابها، التي ظهرت في البلدان المغاربية مع بداية الألفية الجديدة، يطغى عليها التسرع في الكتابة، وغياب النضج الفني عن بعضها، من قبيل تلك النصوص التي تعاملت مع المحنة وفترة العنف الدموي في الجزائر، مستسهلة عمق تلك التجربة المريرة، وطرائق استيحائها وكتابتها، فجاءت النصوص عبارة عن "مسوخ سردية" لا أقل ولا أكثر. وهي حالة تهم اليوم، كذلك، أوضاعًا روائية طارئة في بعض المشاهد الروائية العربية، كما هي الحال مثلًا بالنسبة للفورة الروائية الجديدة في السعودية، مع بداية الألفية الجديدة؛ إذ بدا أن جلها لا يرقى إلى المستوى الفني المطلوب في كتابة الرواية.


*ناقد أدبي مغربي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.