}

في يومها العالمي: رواية محفوظ والدفاع المتواتر عن المرأة

فيصل درّاج 11 مارس 2021
آراء في يومها العالمي: رواية محفوظ والدفاع المتواتر عن المرأة
نجيب محفوظ و"الثلاثية"

اعتبر نجيب محفوظ الرواية جنسًا أدبيًا نقدي الوظيفة، يتطلع إلى حداثة اجتماعية شاملة. لم يكتبها في "أوقات الفراغ"، كما فعل طه حسين وغيره، ونقد عباس محمود العقاد الذي احتفى بالشعر ووضع الرواية في هامش كتابي أقل مرتبة. أدرج محفوظ الرواية في منظور حداثي شامل، تتكامل فيه العدالة والحرية والاستقلال الوطني. لم يكن غريبًا أن يدافع الروائي الكبير عن حقوق المرأة، وأن يبصر في التعامل معها مرآة للسلطة السياسية الحاكمة.
كشفت روايته "القاهرة الجديدة" (1946) عن تهافت السلطة التابعة التي تعترف بالتعليم الجامعي، وتسفّه المتعلّمين الجامعيين، حيث المسؤول السلطوي يرشو/ الطالب الجامعي المحتاج بوظيفة مريحة، ويحتفظ بزوجته عشيقة دائمة. عيّنت السلطة التابعة الجامعي الريفي الأصول "قوّادًا سعيدًا" وصيّرت امرأته، وهي طالبة جامعية سابقة، "مومسًا"، كما لو كان دور السلطة الفاسدة تعهير المجتمع، عوضًا عن تهذيبه والارتقاء به. لم يكتب محفوظ في روايته "الواقعية" الأولى عن ظاهرة عرفها زمنه "الملكي"، بقدر ما أكّد أن "المرأة المنحرفة" ضحية لسلطة سياسية قاعدتها الانحراف.

أفصح محفوظ الشاب عن منظور حداثي متسق، يساوي بين الرجل والمرأة، ويرى مآليهما أثرًا لسلطة "ذكورية" فاسدة. ولعل نظره الوطني ـ الديمقراطي، البعيد عن صدف الحكايات، هو ما أملى عليه أن يعود إلى صوغ مسألة المرأة والرجل في روايته اللاحقة، "زقاق المدق" (1947)، إذ الذكر الأنيق المنتسب إلى الاستعمار يعتاش من "تسليع جسد المرأة" إرضاء للمستعمر الخارجي، بينما المصري الفقير يبحث عن عمل يرضي كرامة دافع عنها حتى الموت. استولد محفوظ في "زقاق المدق" شخصية "حميدة"، المرأة الجميلة المحرومة التي يعبث بعقلها "قوّاد"، لم يعرف التعليم الجامعي هذه المرأة، وشخصية "عباس الحلو" الشهيرة، المصري المحروم الذي جمع بين الحب والكرامة، وحسمت حياته سلطة تابعة.
أظهر الروائي في "القاهرة الجديدة" مآل التعليم الحزين في زمن سلطة "كاذبة الحداثة"، وعطف في "زقاق المدق" الوطنية الشعبية على الكرامة والتكامل الأخلاقي. لم يلتفت إلى ذكورة وأنوثة، ولا إلى أميّة وتعليم، ساوى "قيميًا" بين المرأة والرجل، وقرأ مآليهما بمنظور وطني ـ إنساني لا يتكشّف، واضحًا، بمعزل عن سياسات السلطة المسيطرة.
أضاء محفوظ وضع المرأة الاجتماعي، في رواية أولى، بجدل الفقر والاستبداد، وألقى عليه الضوء، في رواية ثانية، بعلاقات الحرمان والتبعية للاستعمار. نصر المرأة في الحالين، وحرّرها من "لغة ذكورية" تشتق "انحراف المرأة" من أنوثتها وتسوّغ، بيسر وبلاهة، "شذوذ الذكر" ناسية، أو متناسية، بأن المرأة والرجل علاقتان اجتماعيتان في جملة من العلاقات الاجتماعية، المحدّدة سلطويًا.

لم ينسَ محفوظ، وهو يسرد مآل المرأة ـ الضحية، أن يرسم شخصيةً قلبُها من ذهب تتصرّف بوقته
 


استبعد "التبعية"، "ضمنيًا"، في روايته الثالثة: "بداية ونهاية" (1951)، وسرد وضع المرأة المضطهدة في "مجتمع معوّق" ذكوريّ المعايير. نفذ إلى وضع "المرأة ـ الضحية"، العاملة من أجل إنقاذ عائلتها من الفقر، والباحثة عن الحب في وسط مُفقر، يسيطر فيه الأب على ابنه، والأخ على أخته.

إذا كان مصرع "عباس الحلو" في "زقاق المدق" أثر للحرمان والسيطرة الاستعمارية، فإن مصرع "نفيسة" في "بداية ونهاية" محصلة للفقر والأعراف الذكورية، كما لو كانت الأخيرة، استعمارًا "داخليًا" من نوع مختلف. لم ينسَ محفوظ، وهو يسرد مآل المرأة ـ الضحية، أن يرسم شخصيةً قلبُها من ذهب تتصرّف بوقتها، الذي لن يُسمح لها بالتصرّف به لتسهم في "تعليم أخيها"، وتتهاون "بجسدها الفقير" ناظرة إلى حاجات عائلتها. الأنثى الجميلة في "القاهرة الجديدة" كانت تحلم، في البدء، بالحب والثورة والثقافة، والأنثى المتقشّفة الجمال في "بداية ونهاية"، منّت النفس بحياة زوجية، و"بأخ" تمسح نجومه العسكرية بفرح وافتخار. لكن المجتمع المفْقَر، الذي يضطهد الإنسان المعْوَز، لا يسمح بتحقيق الأحلام، أصغيرة كانت أم كبيرة، وخاصة تلك التي ترقد في صدر امرأة.
في زمن القمع السلطوي المتميّز، وكما جاء في رواية المصري صنع الله إبراهيم "نجمة أغسطس"، كان المحقق في السجن، الذي أتقن العبودية قبل أن يرى المساجين عبيدًا، يأمر "الأستاذ الجامعي المناضل" أن يقول: "أنا مَرَه"، فإن رفض المتعلّم المستنير الذي يرى المرأة "رفيقة له في السجن والكفاح"، انهال عليه "العبد المحقق" بالضرب، حتى يُغمى عليه.
جاهر محفوظ بموقفه من المرأة، كما من "الذكر" الذي يضطهدها، في صور المرأة المقموعة المتعددة التي جاءت في "ثلاثيّته" الشهيرة. وصف زوجة جميلة تُعرب "للذكر" عن رغبتها في الخروج من البيت، ولو قليلًا، "كي ترى الدنيا". يأتي الجواب سلبًا، يرافقه تهديد، فإن عادت إلى ما رغبت به بصوت لا تراجع فيه، طُردت من بيت الزوجية، واستحقّت صفة: المطلّقة. الزوجة الثانية ليس لها مطالب الأولى، أدّبها الزوج ـ السيد من البداية، و"أحسن تأديبها"، انتهت إلى العبودية الطوعية، أو إلى وضع العبد ـ السعيد الذي يعتبر رضى الزوج نعمة من الله تستحق الشكر والمثابرة على الصلاة. لم تخرج العبدة السعيدة من منزل زوجها، فهي لا منزل لها، مدة خمسة وعشرين عامًا. كانت تنجب الأطفال، وتلاحق زوجها بالدعاء والتوفيق، وتنظر إلى السماء. وحين "تجرأت" على الخروج بصحبة ابنها الصغير، والزوج ـ السيد، على سفر، نالها، وقد جاوزت الأربعين، الطرد العقاب، ولولا شفاعة كريمة من ناس أفاضل لنالها ما نال الأولى من العقاب والمصير.

أوغل نجيب محفوظ، في "بين القصرين"، الجزء الأول من الثلاثية، في التعاطف مع الزوجة الأسيرة إلى حدود الشفقة، فهي تعطف على الإنسان والحيوان، وتسهر على راحة زوجها وبنيها حدّ الخشوع والتفاني، وتؤنس النبات على سطح البيت ويؤنسها، فهو المجال الوحيد خارج المطبخ والفرن وغرفة الزوجية. أمّا الفتاة الجميلة الصغرى فخسرت زوجًا مرموقًا لأنه كان يعرف اسمها، و"الاسم عورة" لا يجوز التهاون فيه، الأخت الثانية نجيبة "لا اسم لها"، صورة عن أمها، وزوجة الابن الأكبر جديرة باللوم والتقريع و"وسوست" لزوجها بالذهاب مساء إلى "المسرح"....

نجيب محفوظ في مقهى بالقاهرة (14/ 10/ 1988/فرانس برس)


أبدع نجيب محفوظ صورة الذكر المتسلّط: "أحمد عبد الجواد"، وأسبغ عليه صفة: "سي السيّد"، الذي يسأل ولا يُساءَل، صوت خطواته إنذار، و"نحنحاته" إنذار آخر، اللقمة الأولى له في وجبة الصباح كبيرة جشعة يحشر فيها كل ما على المائدة، وله اغتساله الصباحي وعطره وأناقته، وهو الذي يخرج من بوابة البيت أولًا، ويتبعه "الأولاد"، يمشون وراءه محتفظين بمسافة لها شكل العادة.
و"السيد" كائن عجيب، يصلّي صباحًا، ويوغل في التسبيح، ويصحب أولاده إلى المسجد يوم الجمعة، حلو الحديث ـ خارج البيت ـ لطيف المعشر، عربيد سكّير في الليل، يألف العاهرات وتألفه العاهرات، يغني لهنّ ويرقص معهنّ. لا تعرف أسرته حياته بين الناس، ولا يعرف الناس حياته داخل أسرته.

عيّن محفوظ، بمكر أكيد، "سي السيّد" نموذجًا كاملًا للتخلّف. فله من الصفات ما كان لأبيه، وكان لأبيه التاجر ما كان لأجداده، وإذا كان من "حداثة" لامسته، فهي قائمة في "شرب الويسكي"، ومعرفة أسماء الصحف والأحزاب، والترحيب بالتعليم الجامعي ـ للذكور فقط، ففي تعلّم أولاده ما يسبغ عليه وجاهة اجتماعية، مع الاحتفاظ بحقه في اختيار "الفرع العلمي" الذي على ابنه الانتساب إليه.
يستحق السيّد أحمد عبد الجواد، كما أبدعه محفوظ، صفة: الفراغ المستبدّ، الذي يفقر كل ما حوله، ويكتفي بجسم هائل وحيد الصوت... له رجولة لا يُماري فيها أحد، مجالها الوحيد العائلة ـ المتاع لا خارجه أبدًا. لكأنه مدخل، دقيق التفاصيل، لقراءة التخلّف الاجتماعي المتناتج وأسبابه. فهو متديّن زائف في تديّنه، ووطني كاذب، يضع صورة "سعد زغلول" في متجره، وينهى أولاده عن العمل الوطني، بل إنه يتبرّم من "الزعيم" إن كان في سلوكه ضد الإنكليز ما يمكن أن يعكّر "مزاجه الليلي". شبه أمي يدّعي المعرفة، متفرّغ للتبجّح في شؤون سياسية مع وعي مبتذل مرجعه "الثقافة السمعية". لا غرابة أن ينتقم منه محفوظ، متوسلًا إشارات روائية؛ تبدأ صحته في التدهور في الخمسين، وهو الذي تباهى بشباب دائم، وما أن يدخل الستين حتى يتسلل إليه عجز عن السير و"الصلاة الكاذبة"، يكتفي بحصير فقير يقصّر عن احتواء قامته، التي كانت هائلة، ينظر إلى الشارع من بين قضبان النافذة، كما فعلت زوجته وابنتاه طويلًا، ويموت في يوم بارد، بلا ضجة ولا وقار.
تعامل محفوظ في روايتيه "اللص والكلاب"، و"السمّان والخريف"، مع "مومس فاضل"، تتمتع باللطف والكرم الداخلي، وتتطلع إلى حياة محترمة حرمها منها المجتمع.
تعامل محفوظ مع المرأة، كما الرجل، بمعايير العدل والحرية والمساواة، بعيدًا عن ثنائية الذكورة والأنوثة الآسنة. أكّد الرواية أداة إبداعية نقدية مقاتلة، بعيدًا عن قياسات خانقة، تتذكّر "الجوائز" كثيرًا، ولا تحتفظ من دروس محفوظ إلا القليل، وتختلف عن كتابات روائية مسؤولة، قائمة ومزدهرة.
في اليوم العالمي للمرأة، نذكر حقوقها العادلة، ولا ننسى روائيًا رائدًا دافع عنها، بمحبة غامرة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.