}

عن شاكر عبد الحميد ومشهد لافت للوداع

هشام أصلان 28 مارس 2021
آراء عن شاكر عبد الحميد ومشهد لافت للوداع
الدكتور شاكر عبد الحميد (1952 ـ 2021)

في كانون الأول/ ديسمبر 2011، كان قد بدا أن العلاقة بين السلطة الحاكمة بعد تنحي مبارك، وبين ثوار يناير، قد زال عنها الارتياح، بعد شهور عسل وتفاهم مزعوم، في حالة توتر شديدة لمعت في أكثر من مشهد، وكان من بين أبرز تلك المشاهد ما سمي إعلاميًا بأحداث مجلس الوزراء، وعنف شديد تجاه المتظاهرين الذين بدأوا يشعرون بالخطر، وأن أمور ثورتهم لا تسير في الاتجاه المطلوب. مع ذلك التوتر، لم يكن قد زال عن المنتمين ليناير، بعد، الإحساس بقوة الميدان. في هذه اللحظة، تولى الناقد والأكاديمي المعروف، شاكر عبدالحميد، وزارة الثقافة، ما ترك لدى بعض محبي الثورة، من أبناء الحياة الثقافية وأصدقاء شاكر بطبيعة الحال، انطباعات غير لطيفة، قبل أن يترك المنصب بعد شهور قليلة.
كان التعرض للعمل العام، الرسمي خصوصًا، في تلك الأيام، مثل السير على نصل حاد، حيث الجميع يقوده التوتر الشديد، والأحكام المطلقة السريعة، المتناسية لأية جوانب غير تقييم الموقف من اللحظة الراهنة، هي سيدة الموقف، فيما كان إعداد القوائم السوداء لمن يخذلونا عملًا شبه يومي، إن لم يكن من قِبل محبي يناير، فمن منافقيها. نعم، كان للثورة ذات يوم منافقون. وقتها، لم يأت في الذهن، أبدًا، أن تمر السنوات، ويأتي مشهد وداع شاكر عبدالحميد بهذا الحجم المدهش من الحزن والمحبة. مشهد لخصه وصف الصديق والشاعر، يحيى وجدي، بأن شاكر عبدالحميد هو: "الوزير الوحيد الذي نعاه الشعب". لم يكن يقصد الشعب حرفيًا، لكنه وصف مجازي للإجماع اللافت على حالة الحزن التي أصابت المهتمين بالشأن العام لرحيل المثقف المصري الكبير، إجماع لم نعد نراه إلا نادرًا مع وقوع الأحداث العامة وزحام الخلاف اليومي حولها.

وربما أن فترة تولي شاكر عبدالحميد مسؤولية وزارة الثقافة ليست أهم ما قدمه للثقافة المصرية، غير أن مروره من هذه الفترة الحرجة جدًا من دون أن تلتصق شوائبها بعلاقاته الإنسانية هو أمر لافت، طوفان من الحزن والمحبة في جمهورية الثقافة العربية، عشرات التدوينات التي يتحدث كل منها عن كيف كان الرجل عالمًا ومتواضعًا لطيفًا مع الصغير قبل الكبير، وتعبير عن فقد لا نراه كثيرًا مع حالات الرحيل، الجميع كان يتعشم في أن يمر الرجل من محنة كورونا في موجتها الثالثة، سيل من حديث جماعي وتعبير عن الغضب والحزن لم يقطعه سوى انفجار المعركة مع المتطرفين الذين أشعلوا مواقع التواصل فرحة برحيل الكاتبة والمناضلة النسوية نوال السعداوي، وراحوا في قطيع كبير يكيلون لها الشتائم ويرفعون أكفهم لله بالدعاء عليها ألا ترى يومًا حلوًا في الآخرة، لكن لهذا حديث آخر.
وشاكر عبدالحميد، أستاذ علم نفس الإبداع في أكاديمية الفنون المصرية، يعني مسيرة أكاديمية ظهر أثرها بوضوح في وداع تلامذته من عدة أجيال، سواء الذين تتلمذوا على يديه مباشرة في قاعة المحاضرات، أو الذين أشرف على رسائلهم العلمية، فضلًا عن عدد كبير جدًا من شباب الكتاب، كان داعمًا لهم بالمناقشة والتقديم وتناول أعمالهم، وتلك تحديدًا من المساحات اللامعة في مشواره الثقافي، حيث العلاقة المباشرة الناجحة مع الأجيال الأصغر إشارة مهمة إلى الحرص على الوقوف عند راهن اللحظة، وحضور حقيقي وفاعل حتى آخر نفس، فيما يتوازى مع هذا الخط عدد صعب الحصر من المؤلفات النقدية التي يعتبرها البعض تراثًا ثقافيًا بأكمله يتفرد به شاكر في تخصصه، منها على سبيل المثال: "العملية الإبداعية في التصوير"، "السهم والشهاب.. دراسات في القصة والرواية العربية"، "الطفولة والإبداع"، "في علم النفس العام"، "دراسات نفسية في التذوق الفني"، "الأسس النفسية للإبداع الأدبي في القصة القصيرة"، "الأدب والجنون"، "المفردات التشكيلية"، "الحلم والرمز والأسطورة"، "الخيال من الكهف إلى الواقع الافتراضي"، "الفن والغرابة"، "الفن وتطور الثقافة الإنسانية"، وغيرها، فضلًا عن عدد من الترجمات المعروفة التي تدور حول مناطق العلاقة بين علم النفس والإبداع في صوره المختلفة.


والصدق لا تخطئه العين. ويحدث أحيانًا، خصوصًا منذ جاء الوباء، أن يؤذى المرء نفسيًا من كثرة النعي والرثاءات على فيسبوك، غير أنك في لحظة ما لا تجد أن الأمر يتسبب في الأذى، على العكس قد يأتيك الشعور بالارتياح، حيث مشاركة حقيقية في المشاعر، ودعم جماعي كلما توزع الحزن على أعداد أكثر، تلك لحظة صدق خالية من الافتعال يصنعها الحزن حين يكون حقيقيًا. شعور تجلى بوضوح مع رحيل الدكتور شاكر عبدالحميد. ثمة ارتياح لحجم تلقي الخبر، وأن هناك كثيرين لديهم المشاعر الإنسانية ذاتها وإدراك حجم الخسارة الأدبية.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.