}

من مِديشي إلى ميكيافيللي.. هل صنع الشِعر الأمة الإيطالية؟

أحمد محسن 23 أبريل 2021
عمر الشِعر في توسكانا يعود إلى القرن الخامس عشر. وهذا العمر الذي نعرفه، أو من حيث نبدأ العد صعودًا، أي ببساطة بعد اكتشاف دانتي أليغييري. لكن لوقتٍ طويل بقي الشعراء في إيطاليا مجرد أسماء لشعراء، من دون قصائد تنسب إليهم، تمامًا كما بقيت إيطاليا روح النهضة في الجسد الأوروبي. لا يمكن الإشارة إلى الروح، ولكن يمكن الإشارة إلى القصائد. بعد جهود حفرية طويلة نجح الدارسون في إيطاليا في الوصول إلى خلاصات شبه نهائية، عن مجموعة دي مِديشي المفكّكة، التي تعد المحاولة الأولى لإطلاق العامية الإيطالية كلغة، ضدّ هيمنة اللاتينية على الثقافة الأوروبية في ذلك الوقت.



آباء الشِعر التوسكاني
بدأ الأمر عندما شرع لورنزو دي مِديشي بجمع الشِعر الإيطالي. نسمّي هذا اليوم حسب الدارج أدبيًا «أنطولوجيا». لكن الحاكم الفلورنسي كان جديًا، وكان لديه أهدافه، ولا سيما أنه دمج أشعاره شخصيًا مع أشعار السابقين. نتحدث عن موجات في الشِعر الإيطالي، في القرون الأولى التي سبقت عهد النهضة، وعن «عاميات» متنازعة. حتى ذلك الوقت، لم تحظَ اللهجات الإيطالية بالاعتراف في منظومة الإنتاج الثقافي، في ظل سيطرة اللاتينية على صناعة الثقافة، وقدرتها الهائلة على التأثير في جسد صار واحدًا لاحقًا هو إيطاليا. المفارقة أن الإيطاليين، عادوا اليوم، إلى خطاب «الأمة الثقافية» بروحها الدانتية - الظاهرة بوضوح في مجموعة دي مِديشي - وبدأوا يتخفّفون من الشكل الغاريبالدي لإنتاج الأمة. وإذ بيّنت الدراسات في مراحل سابقة، أن دي مِديشي، وعند انتهائه من العملية، أهدى مخطوطته إلى فدريكو داراغونا، وريث عرش نابولي الجنوبية، يبدو أن الأمر لم يكن مجرد سخاء. بفعل الزمن، والتحولات السياسية والجغرافية، ومستجدات النسخ والحفظ، بقي الالتباس قائمًا حول (لا راكولتا آراغونيزي) أو «مجموعة أراغون» بالعربية، قبل أن يحسم الجدل، ويصار إلى التركيز على هوية المجموعة الأصلية ووظيفتها في زمانها، وأثرها في الأدب الإيطالي اليوم، بعد النجاح في إعادة جمعها.

كان لورنزو دي مِديشي يحاول تخليد نفسه أيضًا. فهو يملك 16 نصًا في المجموعة، أربعة منها عبارة عن سوناتات في مجموعة الموت. وفكرة الموت والخلود على اتصال غير ميتافزيقي في تلك الحقبة بالضرورة، بل بخيط أدبي تحديدًا. وكما ذكر الباحثون، فعلى غرار فخر الدين الثاني، الأمير اللبناني الذي تعامل مع عائلته طامحًا بنفوذ أكبر من ضمن منظومة علاقات جيوسياسية في ذلك الوقت بين العثمانيين والتوسكانيين، كان دي مِديشي طموحًا أيضًا، وكان طموحه هائلًا ويتجاوز النفوذ. كان يفكّر بالخلود. على خلاف «المقاطعجي» اللبناني، ومن ضمن شروط الجغرافيا والتاريخ كان صاحب رؤية عرفت علاقة الأدب بالنهضة، وعلاقة النهضة بالسياسة. ولذلك كانت المجموعة التي أرسلها إلى نابولي محاولة عبقرية لتعزيز دور العامية الفلورنسية في عصره. من ناحية أدبية، كان ذلك اتصالًا مباشرًا مع التقاليد الشعرية الرفيعة الآتية من الماضي، ونظرةً إلى المستقبل، تمظهرت في مزج الشكل الكنسي كما يبدو في «الحياة الجديدة» لدانتي، مع دور السياسة في استثمار أوضح للشكلين الأدبي والكنسي معًا لاحقًا.

تمثال دانتي/ فلورنسا/ إيطاليا


بفضل إعادة تجميع هذه المخطوطة، أو ما تفرّع من ظهورها كمجموعة وفق أنساق كرونولوجية متعددة، اعترف الأدب بأهله المؤسّسين، من دون أن يكون ذلك مجانيًا. من شأن هذا الاكتشاف أن يعيد التفكير مجدّدًا بالدور الفلورنسي، في رسم معالم الثقافة الإيطالية عبر قرون من زمن، من دون الاكتفاء بالاتكاء على سمعة دانتي العظيمة وحده، ومن دون أن تكون غنائياته العبقرية خيطًا معلقًا على حبال الماضي المجهول. ولكي تتبع تاريخ الشِعر في إيطاليا يجب أن تتبع تاريخه في توسكانا، والطريق لا تبدأ بدانتي كما هو سائد بل بعد هذه الحفريات أن الطرق كلها تقود إليه، وهو محطة أساسية للانطلاق نحو الشِعر المعاصر في فلورنسا.

النهضة بين صقلية وفلورنسا
من الصعب جدًا اليوم تخيّل النزاع بين «لغات إيطالية» من دون فهم واضح لدور اللاتينية في الهيمنة على الثقافة الأوروبية عمومًا خلال القرون الوسطى، وقبل ذلك من دون فهم طبيعة الصراع بين الدول والممالك الإيطالية المتنوعة قبل الوِحدة. في هذا السياق لا يعود منطقيًا اعتبار خطوة دي مِديشي قفزة أدبية، بقدر ما أنها خطوة سياسية، هدفت لتقديم العامية في فلورنسا على أنها لغة قادرة على احتواء اللغة الإيطالية عمومًا وإعادة إنتاج الأدب مع لوازم الزخرفة الرهيبة، التي نسمّيها اليوم بلغتنا أدبًا. من خلف محاولة تثبيت هيمنة فلورنسا اللغوية، بوصف اللغة مصدرًا أساسيًا للثقافة، كانت محاولة لتحسين صورة فلورنسا وحكامها أنفسهم. لكن بمعزل عن الأسباب السياسية، يبدو أن «المجموعة التوسكانية»، حاولت مبكرًا التفوق على بقية الروافد في تاريخ الثقافة الإيطالية، من الناحية الأدبية. وحسب عدد كبير من الدارسين، ما زالت هذه اللهجة العامية تثبت قدرتها على التعبير بغزارة، عن أي شيء، وفي أي توقيت. ويسود اعتقاد اليوم، وربما لا يجوز القول إنه اعتقاد، بل اتجاه غالبًا، بين مجموعة من المهتمين بالثقافة الإيطالية، ينطلق من تحليل للعلاقة غير المتكافئة بين الجنوب والشمال في إيطاليا، للوصول إلى خلاصات غير دقيقة في الجوانب الأدبية على وجه التحديد.

ليست وظيفة المخطوطة المكتشفة تحديد أصول تاريخية لهذا الاتجاه المتسرّع، ولكنها تشير أيضًا إلى أن الفلورنسيين، ومن خلال هديتهم إلى وارث العرش في نابولي، فريدريك داراغونا، كانوا يفكّرون بالطريقة الأفضل لنشر الشِعر التوسكاني في مدينة الجنوب، والشروع في تقديم مدينتهم كمركز ثقافي مؤهل لقيادة الثقافة الإيطالية على عتبة النهضة. المفاجأة لأصحاب الاتجاه المتسرع قد تكمن في استحالة إلغاء التأثير الصقلي على الشِعر الإيطالي، رغم هيمنة فلورنسا المعنوية على هذا الإرث الكبير. العملية أشبه بالمدّ والجزر، بين الملوك والممالك، بين الشعراء والشِعر، وبين المدن الناهضة والأقاليم في ذروة صعودها وهبوطها، انفصالها ووحدتها. مثل فريدريك الثاني، ملك صقلية في أواخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر، كان لورنزو نفسه محبًا للأدب، بوصف الأدب عادة أرستقراطية، ومحبًا لنشر الأدب لتخليد الشكل الأرستقراطي. فرغم أهمية أعمال الملوك والحكام، تبقى قراءة أعمالهم المنتشرة مثالًا واضحًا على عملية انتاج المعرفة بواسطة السلطة، أما الاستخدام السياسي للثقافة، فيصلح في زمان حدوثه فقط.

الهوس بالمخطوطات اليوم، على أهميتها، يعيد التأكيد على أن تاريخ الأدب، على الأقل في إيطاليا التي خرجت النهضة من رحمها، هو تاريخ طبقي بامتياز. فالقصائد الصقلية التي أرخت آثارًا واضحة في أعمال المجموعة الفلورنسية الجديدة (ستيلنوفِستي)، حدثت بإشراف فريدريك الثاني نفسه، وكان الشعراء ينتمون إلى بلاطه، مثل ستيفانو بروتونوتارو ومازيو ريكو وغيرهما. انتقل التأثير الصقلي إلى فلورنسا عبر هذه المجموعة، ولكن لورنزو دي مِديشي أعاد تصديره إلى الجنوب بطريقة عبقرية. وقد لاحظ دارسو هذه الدراسة، أن كافالكانتي، أحد رواد ستيلنوفِستي الأساسيين، حظي بتفضيل واضح في مجموعة مديشي (87 مؤلفًا)، بالإضافة إلى فرانكو ساكيتي، الذي حظي بعدد مشابه تقريبًا (88 مؤلفًا). يدل هذا على أن مديشي كان مولعًا بالشِعر الغنائي. وهذا سيحيلنا دائمًا إلى دانتي وما يعنيه الاسم العملاق في تاريخ الأدب العالمي.

حسب الدارسين الإيطاليين، بينت الدراسات مع الزمن أثرًا كبيرًا لمجموعة «ستيلنوفِستي» (الأسلوب الناعم في الشِعر الإيطالي) في المخطوطة. وهذه المجموعة ضمت غويدو كافالكانتي الذي كان ملحدًا، على الأقل حسب شهادة جيوفاني بوكاشيو في سنوات لاحقة، وكان مثل بوكاشيو صديقًا لدانتي هو الآخر. من المعروف عن دانتي أنه كان مؤمنًا، وأنه لم يعترض على المتعاليات بل دار حولها في الشِعر. كان صوتًا يحاول الاتساق مع الوجود، كما هو موجود، وكان مسكونًا بفكرة الموت، رافضًا بشدة لفكرة الفناء. وقد وضع كثير من الدارسين الإيطاليين دعوته الملحة إلى الإيمان في هذا السياق، لكن ذلك كان تفسيرًا لميله الواضح إلى المعرفة، وشغفًا مباشرًا بالفلسفة. وهذا ما يتضح في إعادة صياغته لأفكار ألبرت الأول وتوما الأكويني في الكوميديا الإلهية. فالعمل الأشهر للـ«مؤسس»، يؤكد خلود العقل وفردانيته، وهذا يتقاطع مع تصورات ملحدين وأصدقاء حقيقيين لدانتي مثل كافالكانتي، الذين يقولون إن هذا العقل ليس محصورًا بنهاية واضحة، لكن لأنه جزء من الأبد وليس لأن الموت يهزم أصحابه دائمًا. المخطوطة تسبق النهضة، لكن النهضة بحد ذاتها حدث يجمع السياسة والثقافة. لقد توفي دانتي في منتصف القرن الرابع عشر، ورسمه ساندرو بوتشيللي على عتبة القرن السادس عشر، وبينهما عاش نيكولا ميكيافيللي في القرن الخامس عشر. النهضة الإيطالية ليست حدثًا كاملًا يملك بداية واضحة ونهاية واضحتين. إنها سيرة متسلسلة من الأحداث التي تملك معنى تاريخيًا جوهريًا مؤسسًا في تاريخ العالم. الأدب والشِعر جزء من إرث طويل ما انفك يتمدد. إرث مبتسم وموحش، أطلق عليه البشر اسم واحد لتخفيف حدّته: التاريخ.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.