}

الدراما التلفزيونية السورية.. هل نشهد موت النقد؟

لا يمكن النظر إلى الدراما التلفزيونية السورية إلا كلاعب أساسي في الثقافة والفن السوري، وصاحبة دور كبير في تفخيخ الانفجار السوري وفتح عيون السوريين على واقعهم ومجتمعهم، تاريخهم وحاضرهم. دائمًا ما كانت تلك الدراما فاعلة في تكوين الوعي المجتمعي وتوجيهه في بعض الأحيان. لكن هل ما زالت كذلك بعد كل ما جرى لها من هزّات وانهيارات؟ هل يوحي الكمّ الجيّد المنتج هذا العام بعودة الدراما التلفزيونية إلى ما كانت عليه في العقد الماضي، من جهة الأثر والتأثير، أو من جهة البنية الفنية والجمالية؟! في البحث عن إجابة لهذا السؤال يجدر التوجّه إلى (القراءة النقدية) التي توجَّه لهذه الأعمال، ومدى حضور هذا النقد وسماعه في الوسط التلفزيوني المليء بالضجيج والفوضى، الوسط الذي يحكمه ظرف إنتاج وتسويق يطول فيه الحديث ويتشعب.

يبان لقارئ الصحافة الفنية هذه الأيام الرمضانية، حيث موسم المسلسلات، أنه تم إعادة الاعتبار إلى هذا الفن الشعبي عبر عدد من الأعمال الدرامية المقدّمة، ومن خلال كمّ المدائح الخاوية التي تكيلها صحافة السوشيال ميديا السطحية، يتم بناء صورة تلطيفية لهيئة الدراما التلفزيونية المُقدّمة. بالكاد يجد القارئ مقالًا نقديًا في كل هذا الهذر الصحافي، هناك كليشيهات جاهزة لوصف الأداء (الصادق والبارع دائمًا!) وعبارات مستهلكة لوصف الحكاية الحبكة، وأخرى مكرّرة لتوصيف الإخراج يقتصر فيها الحديث عن الأخير وكأنه إدارة الكاميرا وحسب. من جهة أخرى، نادرة هي المواد النقدية التي تقارب هذا النوع من الفنون، باستثناءات قليلة، هناك تعالٍ نقدي على قراءة الفن الأكثر انتشارًا في الحقل الثقافي السوري. تعالٍ خاوٍ هو الآخر، ونأي عن مناقشة الأسئلة (وبعضها أسئلة كبرى) التي تقدّمها الأعمال التلفزيونية. ولربما كان عدم الاهتمام هذا، هو ما فسح المجال أمام أسراب المهلّلين والمطبّلين لاحتلال المجال الصحافي المختص بالدراما التلفزيونية. وفي النظر إلى بعض الأعمال التي تحتل مشهد الدراما التلفزيونية السورية اليوم، سنجد أن هناك عواميد رئيسية لا تُرى من قبل الصحافة بينما يدركها المشاهد العادي، ذلك الذي علت ذائقته وارتقت في عصر الشاشة العالمية والشبكات الدرامية الكبرى، وما المحاولة القادمة إلا بمثابة الوقوف على بعض هذه العواميد وتلمّسها.

يحاول "سوق الحرير" بجزأيه قلب صورة المرأة الدمشقية المحافظة التي كانت قد كرّستها دراما البيئة الشامية



المعمار الدمشقي في "سوق الحرير"

يحاول مشروع "سوق الحرير" بجزأيه قلب صورة المرأة الدمشقية المحافظة التي كانت قد كرّستها دراما البيئة الشامية. الأخوان بسام ومؤمن الملا وMBC هما من يعملان على المشروع فنيًا وإخراجيًا، وللمفارقة هما (إخراج وإنتاج) من كانا قد أسّسا لهذا الصورة المغلوطة عن دمشق، وكرّساها عبر سلسلة "باب الحارة" اللامنتهية. يربض خلف هذا التحوّل للـ MBC قرار سياسي واضح، بيد أن هناك وجهًا إيجابيًا في إظهار صورة دمشق الحقيقية، وصورة المجتمع الدمشقي في منتصف القرن العشرين، وقت المسلسل وزمنه، بما يحمله ذلك من دعم الصورة التحرّرية للمرأة العربية، التي هي بحاجة لأي تفصيل لدعم قضيتها في عالم ذكوري فحل.

في جزئه الأول مرّ العمل بحكاية اعتيادية لا جديد فيها، أسر دمشقية عريقة، تجار حرير وأقمشة، وحكايا عائلية. لم تتغيّر الحكاية في الجزء الثاني، استمرّت بذات النفس، مع العمل أكثر على أنسنة الشخصيات وربط الحبكة، وتدعيم الخط النسوي في العمل، رغم أنه بقي يدور في فلك الجو "الحريمي" عبر تعدّد زوجات البطل. لكن العامود الرئيسي الذي أضافه هذا الجزء، بإخراج المثنى صبح ومهندس الديكور المخضرم حسان أبو عياش ومصمّمة الأزياء رجاء مخلوف، هو بناء صورة معمارية تقارب صورة دمشق خمسينيات القرن الماضي. فضاء المدينة ومزاجها، أزياؤها وإكسسواراتها، هو الملفت في "سوق الحرير"، نظرة بعيدة إلى المستوى الحضاري العمراني الذي كانت عليه دمشق قبل البعث وإسمنته الأصمّ الذي دفن المدينة. كان تصوير تنظيم العاصمة وتطوّرها وانفتاح مجتمعها، وقراءة واقع مدينة دمشق في الخمسينيات، وفحص بنيانها المعماري المتطور، ومحاولة مقاربته على مستوى الديكور والصورة البصرية، هو المكان الخصب الذي يُبحث فيه والعامود الذي يُتوَّقف عنده في"سوق الحرير"، أما المسألة النسوية فهي مبحث آخر، ما زال العمل عليه يحتاج الكثير.

لا تقدّم كاتبة "خريف العشاق" صراع الثمانينيات بين البعث والإخوان من منظور أحادي، وضمن الرواية الرسمية المكرورة



"خريف العشاق" ورحلة إلى سورية السبعينيات

في مسلسل "خريف العشاق" تعود الكاتبة والإعلامية ديانا جبور بالمُشاهد إلى مرحلة مفصلية من تكوين سورية، تبدأ بالسبعينيات مرورًا بالثمانينيات، ويبدو أن العمل سينتقل بالزمن في قادم الحلقات. يدخل النص عبر ثلاث قصص حب جامحة إلى تعقيدات الوضع السياسي والأمني في سورية السبعينيات، آنذاك، حينما كان قد بدأ تشكُّل ترسانة البعث العسكرية والأمنية. ببطء، يظهِر العمل كيف التهمت فروع الأمن قطاعات الجيش، وكيف عمِلَ الرعب والقلق على تفتيت علاقات الصداقة والحب. العشاق الثلاثة وحبيباتهم تتقاذفهم الأقدار السياسية، "مشعل" الصحافي والشاعر الفلسطيني يتتبّع حلم ثورته ومآلاتها، يدفع ثمن مواقفه المبدئية، ويطرد من إذاعة دمشق الغارقة في الفساد والمحسوبيات، بينما "بدر" يهرب من زوجته إلى الدراسة في بريطانيا بعد أن كان أول العاشقين وأكثرهم هيامًا، و"سعيد" ينتقل من الجيش بعد فقدانه سمعه في حرب تشرين، ليستلم قيادة أحد الفروع الأمنية في غمرة تصاعد الصراع مع الأخوان المسلمين.

تُعامل جبور التاريخ بحذر وببحث جدي، لا تصوّر أهازيج حرب تشرين 1973 وأفراحها البائدة، بل ترصد آثارها في الداخل، دور الحرب في تحوّل مسار الشخصيات، التحوّل من الجيش إلى المخابرات، التحوّل من النصر إلى الهزيمة، والتحوّل من الربيع وآماله إلى الخريف وبؤسه. لا تقدّم الكاتبة صراع الثمانينيات بين البعث والإخوان من منظور أحادي، وضمن الرواية الرسمية المكرورة، بل تصوّره من منظور شخصيات العمل، تشابكها وصراعها، وتضحيتها ببعضها البعض تحت وطأة يد السلطة الشديدة. يرصد النص بداية تكوّن الخوف في سورية الأمنية وتسرّبه إلى كل عائلة سورية، ويقدّم قراءة متأنية للتاريخ السوري المعاصر، قراءة كان ينقصها إخراج يعي مفاصل النص وخطوطه، ويلتفت إلى حساسية مقولاته السياسية على المستويين السوري والفلسطيني، ويبني صورة وأداء يتواءم مع رهافة النص بدلًا من أن يُثقله ويقتل إيقاعه ويبدّد مقولاته.


أمل بوشوشة في لقطة من مسلسل "على صفيح ساخن"



"على صفيح ساخن" وخطر مقاربة الواقع السوري اليوم

يختار "على صفيح ساخن" تأليف علي وجيه ويامن الحجلي دمشق اليوم، يصوّر ما آلت إليه الحياة فيها، ينزل إلى القاع، ويرصد الحياة اليومية في مجالات شديدة الحساسية. أولها مجال العمل في القمامة، تجمّعات المهملات وكيفية إدارتها وعمالة الأطفال فيها، وحجم النزيف الاقتصادي العائد من عدم تنظيم هذا المجال في سورية، والعمل على إعادة تدوير القمامة وفرزها والاستفادة منها على شاكلة الدول المتطورة. ثاني مجالات العمل هو حقل تجارة الأدوية وما يشوبه في سورية من فساد واختلاس، وكيف يتم نهب وتهريب الدواء في الوقت الذي يشهد فيه العالم كارثة صحية (لا يُؤتى على ذكر الوباء في العمل). بينما يأتي الخط الثالث متعلقًا بتجارة المخدرات، تلك الثيمة التي غدت أساسية في أعمال السنوات الأخيرة، وكأن هذا الموضوع مطلب إنتاجي وتسويقي صار ملازمًا للدراما السورية التي تتناول واقع اليوم!

تتشابك خيوط العمل وتتقاطع شخصياته بسرعة، ويبدو أنها تتجه لصراع حتمي في جو من الإثارة والأكشن، يصطنعه مخرج العمل بعجالة. يرصد المسلسل صراع على خلفية البلاد التي وصلت إلى الحضيض، وصار الخراب فيها مشهدًا اعتياديًا. وهذه المقاربة جديرة بالقراءة النقدية، لكن ماذا عن القول السياسي الذي يقدّمه العمل؟ وهل يمكن تقديم دراما سورية تسأل الآن هنا دون القول السياسي؟ ما هي قيمة الدراما الاجتماعية بدون سياسة؟ أولم تكن أعمال الذروة في الدراما السورية الاجتماعية هي التي نثرت الأسئلة السياسية؟  قد يوحي "على صفيح ساخن" بهذا القول، يشير إلى الحال التي وصلت إليه البلاد، من نتن وعفن كحال مكبّات القمامة التي يصوّرها، لكن يبقى السؤال السياسي غائب، العلّة القائمة وراء كل هذا الخراب والركام والقمامة، فساد البلاد وتداعيها، مغيبة ومسكوت عنها.

باسل خياط (إلى اليمين) وعبد المنعم عمايري في لقطة من "قيد مجهول" 



"قيد مجهول"..  الاحترافية وأثرها الجماهيري

حظي مسلسل "قيد مجهول" باهتمام واسع، مقالات وتغطيات، ووصول جماهيري كبير. جاء الاهتمام بـ"قيد مجهول" لسمات أبرزها بنيته الجديدة، المسلسل في موسم واحد ومن ثماني حلقات فقط، أي أنه كسر السلسلة الثلاثينية والملل الناتج عنها، وكثّف أحداثه التي لو امتدّت للحلقات الطوال لشابها ذات السأم المعتاد. بالإضافة إلى استقلالية العمل من جهة الإنتاج، المجال الذي يفرض على الدراما التلفزيونية شكلها وهيئتها وعناصرها وحكاياها، المنتِج هنا مؤمن بالمشروع الفني دون الدخول في تفاصيل العمل، وهذا يتّضح في المراهنة على عمل جديد على الدراما التلفزيونية السورية في البنية والحكاية، يتم عرضه الأول قبيل شهر رمضان، شهر السباق التلفزيوني العربي. 
هناك احترافية في العمل، على مستوى تكوين النص - محمد أبو اللبن ولواء يازجي، أو على مستوى بناء الصورة وإخراجها - السدير مسعود، وعلى مستوى الأداء التمثيلي- عبد المنعم عمايري بشكل خاص، لكن هذه الحرفية ليست مدهشة بذاتها، بل إن دهشة المشاهد وردّة فعله كانت بسبب النتيجة التي تقارب النتاج الفني العالمي بجودتها وجدتها، لكن ما أن يُوضع العمل على مبضع النقد حتى نجد أنه يواجه ذات الأسئلة الموجّهة للدراما السورية؟ على سبيل المثال، في جو بوليسي عجائبي (بالمقارنة مع الحالة البوليسية في سورية اليوم) يقدم العرض خطين، ويلعب ضمن طبقتين، الخط الأول مرتبط بطبقة مسحوقة ينتمي لها سمير- عبد المنعم عمايري وأخرى ثرية ومتغلغلة في مفاصل الدولة السورية تدور في فلكها شخصية يزن- باسل خياط، وبينهما عديد الجرائم التي يرتكبها يزن، وما يحوط ذلك من تحقيقات واستقصاءات. في النهاية، نكتشف أن الشخصيتين منفصمتان من شخص واحد، وهو سمير الخياط المسحوق، إذ يتضح أنه يعاني من مرض نفسي اسمه "اضطراب الهوية التفارقي". الملفت هنا هو تركيز العمل على الحالة النفسية وتناسي الحالة الاجتماعية التي بناها ونثر فيها أسئلة الفساد السياسي والإداري في البلاد. مع نهاية قصة سمير ومعرفتنا لمرضه وأنه مرتكب كل أفعال يزن، أو هو يزن بالفعل، تتلاشى المسألة السياسية التي قاربها العمل، تُبتر خطوطها ولا نعرف مآل شخصياتها. حتى العمل النفسي ذاته يبدو سؤالًا، فهل لمرض نفساني مزمن كهذا، مغروس في النفس البشرية (حتى أن صاحبه يعيش بالفعل حياتين بشخصيتين متضادتين) أن يخرج ويظهر عبر جلسات استماع وتداع وتنويم مغناطيسي؟ أبهذه السهولة يكشف مرض عنيد كهذا عن نفسه؟ أبتلك السلاسة والتعجل التي قدمها العمل تظهر عللنا النفسية الضاربة بالعمق؟

في عام 2009، قامت جريدة "تشرين" بإصدار ملحق أسبوعي مختص بالدراما التلفزيونية، يدير تحريره الناقد ماهر منصور. تمكّن منصور وقتها من صياغة تجربة نقدية متينة، وتوفير بيئة جدلية لمناقشة الدراما التلفزيونية وقراءتها. رغم تنوع الأقلام فيه وتفاوتها، لم يكن يحوي الملحق أيًا من التلميع والمدائح الجارية اليوم، ولم يحوِ على تراكيب من قبيل "العمل الذي أعاد للدراما السورية ألقها، العمل الذي أعادنا إلى الدراما الراقية....."، أو أحكامًا بالدهشة والإبداع تُلفق على عجل وتُقدم على شكل مقالات، كان فصل القول حينها للنقد والصحافة، أو على الأقل كان النقد يُسمع، ويُعتدّ به، أو ربما كان العمل الدرامي برمّته يُعتدّ به حينها، عمل يتكلّم بالواقع، ينطلق من بيوت الناس وحياتهم ويعود إليها.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.