}

وداعًا سعدي يوسف.. خلَّص القصيدة العربية من بلاغتها المفرطة

فخري صالح 14 يونيو 2021
آراء وداعًا سعدي يوسف.. خلَّص القصيدة العربية من بلاغتها المفرطة
سعدي يوسف (1934 ـ 2021)

موقع ملتبس بين الرواد والجيل التالي
يحتل الشاعر العراقي الراحل سعدي يوسف (1934 ـ 2021) موقعًا ملتبسًا في حركة الحداثة الشعرية العربية، رغم كونه واحدًا من شعراء العربيَّة الكبار في النصف الثاني من القرن العشرين. ما أقصد قوله هو أن سعدي ليس من جيل نازك الملائكة، وبدر شاكر السياب، وعبدالوهاب البياتي، وبلند الحيدري، وأدونيس، وصلاح عبدالصبور، وخليل حاوي. فهو ولد عام 1934، أي أنه يصغُر السياب بثماني سنوات، وأدونيس بأربع سنوات، على سبيل المثال لا الحصر. الأهمُّ من ذلك أنه بدأ نشر قصائده بعد أن تكرَّس حضور قصيدة التفعيلة في خمسينيات القرن الماضي، ولمع نجمه في نهاية الستينيات. لكنه لا ينتمي إلى جيل الرواد، أو جيل الستينيات، ممثلًا في محمود درويش، وسميح القاسم، وأمل دنقل، وممدوح عدوان. وهو بذلك يحتلُّ منزلة بين المنزلتين من حيث إبداعُه الشعري الذي تقلَّب بين الرومانطيقية الثوريَّة في التجليَّات الأولى للقصيدة العربية، الطالعة في نهايات أربعينيات القرن الماضي، والقصيدة الدرامية ـ الملحمية التي تجلت أكثر ما تجلت في مجموعاته الشعرية الكبرى: نهايات الشمال الإفريقي، الأخضر بن يوسف ومشاغله، تحت جدارية فائق حسن، كيف كتب الأخضر بن يوسف قصيدته الجديدة؛ ليصل في ما بعد إلى ما يسمى "قصيدة التفاصيل" التي أثَّرت تأثيرًا عميقًا في جيل السبعينيات من الشعراء العرب.
إنه، إذن، يصل في تجربته الشعرية بين مرحلتين: تقيم الأولى في زمان التأسيس لكتابة شعرية مختلفة، من حيث الإيقاعُ والتوزيع السطريُّ للقصيدة، والرؤيةُ الشعرية، وفتحُ الشعر العربي المعاصر على التجارب الشعرية الإنكليزية والفرنسية في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين، فيما تتصل المرحلة الثانية بآفاق ممتدة وتيارات غنية آتية من أصقاع مختلفة من شعريَّات العالم في النصف الثاني من القرن العشرين. ومن يقرأ قصائد سعدي الأولى ويقارنها بما كتبه في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته سيلحظ التغيرات العميقة التي اعترت قصيدته ورؤيته الشعرية، ونظرته لما ينبغي أن تكون عليه القصيدة.




لقد حاول سعدي الابتعاد بقصيدته عن الارتكاز إلى الصورة والاستعارة، وأن يخفف من البلاغة المفرطة، المهيمنة على القصيدة العربية بعامَّة، نازعًا إلى الاستفادة من المفارقة، التي هي سمة الأنواع السرديَّة لا الشعرية. من هنا يبدو تأثيره طاغيًا على شعراء السبعينيات، خصوصًا من تحوَّلوا من كتابة قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر. لكن تأثير سعدي في الجيل المذكور لم يصدر من قصيدته وحدها، بل من ترجماته لعدد من الشعراء الأساسيين في العالم: فيدريكو غارسيا لوركا، قسطنطين كافافيس، يانيس ريتسوس، فاسكو بوبا، وآخرين. فقد أطلقت هذه الترجمات شرارة التحول في قصيدة السبعينيات، وجعلت "قصيدة التفاصيل"، بتأثير وقوع ذلك الجيل على الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس من خلال ترجمة سعدي لمختارات منه في عنوان "إيماءات" (دار ابن رشد، بيروت 1979)، طاغيةً في مشهد الشعر العربي منذ السبعينيات، وصولًا إلى اللحظة الحالية من الكتابة الشعرية العربية. لقد أحدثت تلك الترجمة حريقًا في الشعريَّة العربية المعاصرة، وقلبت مفهوم الشعريَّة ووصلت بين الأنواع الشعرية والأنواع السردية، وفتحت الكتابة العربية على أفق النص المفتوح الذي يهشّم نظرية الأنواع والتراتبيات التي أقامتها عصور من الكتابة والتقعيد لمفهوم الأنواع الأدبية المغلقة على ذاتها، المكتفية بتقاليدها الموهومة.




للأسباب السابقة، يصعب على أي دارس الإحاطة بالإنتاج الشعري الغزير الذي أنجزه سعدي يوسف. وتتأتى هذه الصعوبة من التحولات الكبرى في جسد قصيدته، والانحناءات الحادَّة في مسار تجربته الشعرية. فهو ينتقل من الرومانطيقية، التي نلحظ بعض تأثيراتها في "القرصان" (1952)، و"أغنيات ليست للآخرين" (1955)، إلى القصيدة الحديثة التي تعمل على المزج بين الأصوات والحدث اليومي والذكرى، وصولًا إلى قصيدة التفاصيل اليومية التي شكَّلت بفضل شعر سعدي، وكذلك ترجماته، تيارًا شعريًا واسعًا في القصيدة العربية في الوقت الراهن. والمُدقِّقُ في تطور شعر سعدي سيلاحظ أن تجربته تتضمن في داخلها عناصر متعارضة، من النبرة الشعرية الرومانطيقية، التي سادت في قصائده الأولى، إلى استنطاق اليومي وإدخاله في شبكة من العلاقات السردية التي تنتهي بانفتاح النص الشعري على عالم من الاحتمالات وإمكانات التأويل.



اتجاهان بارزان



ثمة في شعر سعدي اتجاهان بارزان، إذن: الأول منهما ينتمي إلى مَسْرَحة العلاقات الداخلية في القصيدة، والثاني ينتمي إلى تيار قصيدة التفاصيل التي تستفيد من التيار الأول عنايتَه بتحويل أشياء الواقع الصغيرة إلى عناصر دالَّة تضيء مشهد العيش ومعنى التجربة الإنسانية. لكن الاتجاه الأول، الذي غلب على ما يمكن تسميته "المرحلة الجزائرية" في تجربة سعدي، يستمد قوة تأثيره من غنى إيقاعاته وتوظيفِه عناصرَ المشهد اليومي، والذكرى، وغموض التفاصيل، لإنجاز نص شعري يستخدم السرد وتشكيلاته بكثافة بارزة. أما الاتجاه الثاني، أو الانعطافة الثانية البارزة، فتستمد أهميتها من قوة تأثيرها في جيل السبعينيات والثمانينيات في الشعر العربي المعاصر، ومن قدرتها على إحداث انقلاب أساسي في تطور القصيدة العربية.
إن "الأخضر بن يوسف ومشاغله" واحدة من قصائد سعدي التي تتوسَّل لغة السرد وتحاول، ما أمكنها، الاستغناء بالحكاية عن توليد الاستعارات وأنواع المجاز الأخرى. ثمَّة مغامرة للتخلي عن العناصر التي شكَّلت جوهر شعريَّة القصيدة العربية الحديثة، والاكتفاء بالعنصر الموسيقي، مضافًا إليه بعض عناصر السرد والمفارقة التي تقوم عليها كثير من قصائد سعدي، ولعل "الأخضر بن يوسف.." هي واحدةٌ من القصائد البارزة الممثلة لتيار في الكتابة الشعرية يعتمد المفارقة مادةً أساسيةً لبناء شعريته.




يروي سعدي في هذه القصيدة عن رجل يقاسم الراوي شقتَه وقمصانَه وأحلامَه، والفتاةَ التي يحبها، ويعيش معه تفاصيلَ حياته جميعها. وتدور القصيدة من ثَمَّ حول هذه الشخصية الموصوفة في القصيدة وأحلامها في الانطلاق نحو آفاق من الحرية غائبة وممنوعة ومغتصبة، خصوصًا وأن "جواز السفر" يشكِّل، على مدار القصيدة، العنصرَ المحوريَّ الذي تُهوِّم حوله هواجسُ الشخصية وأفكارُها.
نبي يقاسمني شقتي
يسكن الغرفة المستطيلة
وكل صباح يشاركني قهوتي والحليب، وسر الليالي الطويلة
وحين يجالسني،
وهو يبحث عن موضع الكوب في المائدة
ـ وكانت فرنسية من زجاج ومعدن ـ
أرى حول عينيه دائرتين من الزرقة الكامدة
وكانت ملابسنا في الخزانة واحدة.
كان يلبس يومًا قميصي
وألبس يومًا قميصه
ولكنه حين يحتد...
يرفض أن يلبس غير برنسه الصوف...
يرفضني دفعة واحدة
لا نعثر في المقطع الشعري السابق على أيِّ استعارات، وما يصادفنا في هذا المقطع هو عددٌ قليل من التشبيهات. لكن العنصر البارز في القصيدة هو الاتكاء على السرد، ووصف التفصيلات الدقيقة في العلاقة بين الراوي والشخصية التي يروي عنها. ثمَّة إفراطٌ في إيراد التفاصيل اليومية، وهو ما سيمهِّد في شعر سعدي اللاحق لما أسميته من قبل "قصيدة التفاصيل اليومية"، ويجعل هذا الشعر يقترب أكثر فأكثر من شعراء قصيدة النثر الجدد. لا يعني هذا الكلام أن قصيدة النثر الجديدة لا تعتمد الاستعارة، أو أنواع المجازات الأخرى. لكن الاتكاء على السرد وعناصره البنيوية، واستخدام المفارقة التي تُعدُّ عنصرًا أساسيًا في بناء الأنواع السردية، من رواية ومسرح وقصة قصيرة، وسينما كذلك، يجعل شعر سعدي شديدَ القرب من تجربة قصيدة النثر، بدءًا من سبعينيات القرن الماضي.
إذا عدنا إلى القصيدة نفسها سنجد أن القصيدة كلها قائمةٌ على مفارقة بارزة: إن الشخصيةَ المرويَّ عنها ملتصقةٌ بالراوي، هي جزءٌ منه أو بالأحرى قرينُه الذي يمثل ضميرَه الصاحي المُعذَّب. وما يستطيع القارئ أن يستشعره، منذ السطور الأولى للقصيدة، هو أن الراوي يُجرِّد من نفسه شخصًا يروي له على طريقة الشاعر العربي القديم. لكن انفصال الشخصية عن الراوي تجعل الحكايةَ كلَّها مجردَ مفارقة تكشف عن العالم الداخلي للراوي، وتجعل القرين مُوجِّها لأحلام الراوي، وكاشفًا عن عذاباته وتوقه إلى الحرية والانعتاق من أسر الكابوس الذي يمثله الحرسُ الملكيُّ على الحدود المغربية ـ الجزائرية. ما يعزز حضور المفارقة هو أن القارئ يعلم جوهرَها في الوقت الذي يبدو فيه الراوي غارقًا في وهم وجود شخصية أخرى يروي عنها. بهذا المعنى، يمكن إدراج هذا النوع من المفارقات في ما يسمى المفارقة الدرامية، وهي نوعٌ من المفارقات يكثر استخدامه في المسرح، والأنواع المتحدرة منه. ويشكل استخدام هذا النوع من المفارقات اقترابًا بعمل سعدي الشعري من لغة المسرح التي يحاول على الدوام أن يستفيد منها، سواءٌ في كتابته عددًا من المسرحيات الشعرية، أو في تقرُّبه منها في قصائده على مدار تجربته الشعرية.




أما قصيدة "الأعداء"، التي تُعدُّ واحدةً من قصائد سعدي الكبرى، فتتشكَّل في ثلاث حركات (الطفولة، التمرد، أيام 1963). وتستخدم القصيدة تفاصيل هذه الحركات، التي تتواتر واحدةً بعد الأخرى، للوصول إلى الضربة النهائية في هذا النص الشعري المركب. ويمكن القول إن الشاعر يطوّر في قصيدته هذه رمزيَّةَ الدم التي تُوحِّد مستويات النص المتعددة في مقابل رمز الخنزير الوحشي الفاتك الذي يحيل في مستوى من مستوياته إلى الخنزير البري قاتل تموز.
يطوِّر القسم الأول من القصيدة حشدًا من التفاصيل المنسوجة من ذكرى الطفولة التي تتعانق في النهاية مع رائحة الخنزير الوحشي. وتتراكب في هذا المشهد الذي تعرضه القصيدة صورةُ الأطفال المندفعين إلى الشاطئ البحري بحثًا عن أخشاب تلقيها سفنٌ عابرة، وصورةُ الخنزير الوحشي الذي تعلن عنه رائحته قبل ظهوره، وصورةُ النوارس المنقضَّة على بقايا ما تلقيه السفن العابرة، وصورةُ الدم الذي يسيل مع بول الأطفال المصابين بالبلهارسيا، وصورةُ العلب والأخشاب الطافية في الماء. ويمثِّل التكديسُ المتواصل لهذه الصور نوعًا من بناء رسالة القصيدة من خلال تقديم مشهد التفاصيل المتدافعة تفصيلًا وراء تفصيل عبر عين الراوي الذي يستعيد طفولته وطفولة أقرانه القاسية. ونلحظ هنا في الحركة الأولى من حركات القصيدة الثلاث أن ضمير الجماعة (نحن) هو الصيغة التي يستخدمها الراوي لنقل مشهد الأطفال المندفعين في اتجاه البحر بحثًا عما تلقيه السفن الغريبة العابرة.
في ورد الهيل، وفي البردي، وفي التمر المتساقط،
نمضي.
ولاستخدام ضمير الجماعة في هذه الحركة، والحركة التالية، دلالةٌ سنتبينها بعد قليل، خصوصًا أن الحكاية التي ترويها هاتان الحركتان هي حكاية الجماعة الباحثة عن قوت يومها في البحر، بخيراته المدفونة في باطنه، أو الملقاة إليه من السفن الغريبة، في مواجهة رموز الموت والفتك التي تحضر بصورة مهددة وطاغية في هذه القصيدة المذهلة في إيقاعها اللاهث الذي يعكس الخوف من التهديد بالموت والفناء عبر رمزيَّة الدم والخنزير الوحشي الذي يبدو صورة مُفسِّرة لرمزية الدم التي تنبني مقطعًا مقطعًا في القصيدة. هنالك، إذن، حضورٌ طاغٍ لرموز الفتك والموت (الخنزير الوحشي، ورائحته التي ستَعْلَقُ بالأثواب، وبنادق الأهل اليدويات الصنع، والبلهارسيا، وبول الأطفال الأحمر، والرأس المحترق الشعر). ومن هذه الرموز التي يرصفها الشاعر في قصيدته تتشكَّل الطبقة الأولى من معنى النص. ثمَّة تهديدٌ يلوحُ في الأفق يقوم هذا النص الشعري ببنائه من خلال التأشير رمزيًا إلى قرب حدوثه.
الخنزير الوحشي يخشخش في الصدر المبتل.
وبقعة ماء تحمر...
نبول دمًا،
نضحك.
والخنزير الوحشي يخشخش في البردي.
أنادي الشاطئ:
خالة، يا خالة، يا خالة...
أين بنادق أهلينا اليدويات الصنع؟
في هذا السياق من التهديد بالموت والفناء، تحضر تفاصيل الحياة اليومية (التمر المتساقط، السعف الأخضر، الخبز العالق تحت الأظفار، ورائحة الخبز التي تفوح في جنبات المكان) للتغلُّب على الخوف الكامن من هذا الموت الذي يعلن عنه حضور الدم الذي يصبغ صفحة الماء ويُحوِّلها إلى ما يشبه الجسد الصلب الأحمر الذي يفصل البردي عن أقدام الأطفال.
ويقوم الشاعر بتنمية صورة الخنزير الوحشي ليصبح أكثر فتكًا وتهديدًا عندما يندفع الخنزير ليطارد قرص الشمس الذي تنعكس صورته في الماء.
الخنزير الوحشي يغادر مكمنه في الغيم الأخضر
يتبع قرص الشمس الدائخ تحت الماء
تصور هذه الحركة، إذن، مشهد الصراع المحتدم بين الرغبة العارمة في العيش، وتهديد الموت الحاضر على الدوام، من خلال الإيحاء بصورة المرض، أو صورة الفتك والتدمير التي يمثِّلها الخنزير الوحشي الذي يريد افتراس قرص الشمس. وتبدو تفاصيل المعيش اليومي ذائبةً في مشهد التهديد المتواصل تعبيرًا عن انتصار رموز الموت والدمار والفتك في هذه الحركة التي تشكل المشهد الأول من حكاية العيش البشري الرمزيَّة.
الحركة الثانية في القصيدة تتقدم قليلًا في الزمن، وتستبدل سلوى الورق، ومنَّ الكلمات، بالخبز، في الحركة السابقة. كما يبرز في هذه الحركة اسم "عبدالحسن بن مبارك" قائدًا للجمع المتقدم نحو الشاطئ حاملًا معه سلوى الورق، ومنَّ الكلمات. لكن الراوي في هذا القسم من القصيدة يظل يحكي باسم الجماعة، ويتساءل باسمها.
طائرة تسقط سلوى من ورق،
منًّا من كلمات لا نفقهها،
نتخاطفها مسرورين ومرتجفين،
إن القصيدة توحِّد بين رموز الفتك والموت، باستخدام أداة التشبيه هذه المرة، حيث توصف الطائرة بأنها "خنزير أسود"، وأنها "كالكوسج". ثمَّة في هذا الموضع من القصيدة استحضارٌ لثلاثة من رموز الفتك والدم والموت: الخنزير الوحشي الأسود الذي حضر في الحركة الأولى، وطائرة تمرق فوق الماء مسقطةً ورقًا وكلمات، لا طعامًا يشبع الجائعين المندفعين نحو الشاطئ، والسمكة المنشاريَّة المفترسة التي تهدد بالموت. وكما يصطبغ الماء في الحركة السابقة بلون الدم الأحمر، يتكرر المشهد نفسه هنا. لكن اللون الأحمر يحمل في بعده الرمزي وعدًا بالنهش هذه المرة، فالإشارة الى السمك المُشتَهى ذات طبيعة مزدوجة: الأكل، لكن من يأكل من؟



تقوم هذه الحركة على الإشارة المزدوجة السابقة، حيث يتبادل البشر والسمك الأدوار، ويختلط الآكل بالمأكول، وتتقدم رموز الدم والفتك الثلاثة لتحتل مقدمة المشهد في القصيدة.
كانت أجساد السمك البالغ ناعمة فوق حراشفنا.
عبدالحسن بن مبارك يصرخ:
ك. و. س. ج.
ك. و. س. ج.
كوسجُ
كوسجُ...
كان الذنب الأسود مرتفعًا كالبلطة فوق الماء،
وطائرة كالخنزير الوحشي
وكالكوسج
تمرق فوق الماء
في الحركة الثالثة، يتغيَّر المتكلم بضمير الجماعة، ليصبح متكلمًا فردًا يصف أحواله في السجن. ثمَّة انتقالٌ من عالم الجماعة التي تخوِّض في الماء، بحثًا عما تسدُّ به رمقها من خبز وحرية، إلى عالم الذات الفردية التي تقبع بعيدًا خلف القضبان، وتفكِّر في حال الفتيان الفقراء المغلولين، اثنين اثنين، وحال الشرطي المريض الغريب مثله مثل السجين. إن القصيدة تقوم بنقل الخنزير الوحشي، الذي شكَّل في الحركة السابقة وجودًا ماديًا مهددًا، إلى محور الرمز، لتكتملَ دائريَّة الفكرة والمعنى، وتتوحَّدَ مستوياتُ الرمز في النص الشعري.
ظل الفتيان يغنون إلى أن صرخ الخنزير الوحشي،
الخنزير الوحشي يخشخش عبر القضبان،
الخنزير الوحشي له نابان من الفولاذ.
تتوحَّد القصيدة، كما لاحظنا، على مستوى الرمز الذي يتطور من حركة إلى أخرى لكي تذوبَ رموز الفتك والموت في الحركة الأخيرة (التي يضيف إليها الشاعر في هذه الحركة ناقلة البترول)، وتندغمَ في الخنزير الوحشي الذي يخشخش عبر القضبان. ويمكن لنا أن نضمَّ هذه القصيدة إلى نصوص سعدي يوسف الكبرى التي تَلحِم مستويات متعددة من الكتابة الشعرية والسردية، وتقنيات العرض المسرحي والسينمائي، ومزج الأشكال، للوصول إلى نص مشعٍّ بالدلالات وغنيٍّ بالإمكانات. وقد لاحظنا التوترَ الداخلي العالي في هذا النص، والتماسكَ الواضحَ حول البؤرة الرمزية التي أسسها ودار حولها منذ سطوره الأولى. إن أسطورة الخنزير البري، الداخلة في نسيج هذا النص، يُعادُ تشكيلُها على ضوء التجربة الفردية والجماعية الراهنة، وبدلًا من أن تضاف البنية الأسطورية إلى جسد القصيدة، كما رأينا في شعر عدد من الرواد، وعلى رأسهم بدر شاكر السياب، فإنها تنبثق من الراهن، من التجربة المعيشة، في عملية واضحة من تخليق الأسطورة، وإعادة موضعتها في إطار التجربة والتاريخ. وليست هذه هي الفضيلةُ الوحيدة التي يكتسبها نص سعدي، فهنالك خصيصة أخرى اكتسبها شعره في مجموعات شعرية تالية. وتتمثل تلك الخصيصة في الاختزالِ، وتبسيطِ القول، والتخففِ من الاستعارات والتعبيرات البلاغية السائدة، لكتابة نص يتحقق فيه معنى الاقتباس من جورج سيفيرس، الذي صدَّر به مجموعته "نهايات الشمال الشمالي الإفريقي". وهذه طريقة سوف يطورها سعدي في قصائده في ما بعد، حيث يتوتر النص حول بؤرة مركزية تنبثق منها الدلالات، ويشعُّ منها المعنى.




أما الاتجاه الثاني في شعر سعدي يوسف فيمكن التمثيل عليه بعدد كبير من قصائده التي نشرها خلال فترة أواخر السبعينيات والثمانينيات، وتركت أثرًا واضحًا على ما يطلق عليه اصطلاحًا "قصيدة التفاصيل". ويعتمد سعدي في عدد كبير من قصائده تلك أسلوب صدم وعي القارئ بضربة صغيرة تشدِّد على معنى الرسالة، أو تضيف ملمحًا صغيرًا يغيِّر المشهد والمعنى، أو تنتهي إلى مفارقة طالعة من إضافة تفصيل صغير إلى القصيدة التي تقترب في شكل تأثيرها من اللوحة، حيث يكون الاختزالُ والتكثيفُ واستخدامُ التفاصيل مقصودًا لتأدية وظيفة محددة في النص. وهذه هي السمات المحددة لقصيدة النثر، وكان لشعر سعدي تأثيرٌ واضحٌ على شعر كثير من كتابها العرب. لنأخذْ على سبيل المثال واحدةً من القصائد التي يسميها سعدي "لمسات يومية" في مجموعته الشعرية "مريم تأتي"، ولنرَ كيف يعمل على بناء اللحظة الشعرية في ذلك النموذج من قصائده. في قصيدة "غرفة" سردٌ لموجودات المكان، وذِكرٌ لحدث مرور الطائرة، ثم تنتهي القصيدة بتوتُّر مشهد الموت الذي يجيء الإخبار عنه بصورة مواربة.
ليس فيها سوى مكتبة
وسرير
وملصق.
جاءت الطائرة
حملت في الهواء السرير
والكتاب الأخير
وخطَّت بصاروخها بعض ملصق



إذا كانت القصيدة تخلو، إلى حدٍّ ما، من ثراء الخيال، وتجعل من مفارقة المشهد بؤرةَ عملها، فإن الرغبة في التكثيف والاختزال وكتابة قصيدة عارية إلى حد بعيد من الاستعارات، التي يتوالد بعضها من بعض في القصيدة العربية المعاصرة، هي التي تحكم عمل سعدي الشعري في مجموعاته الشعرية العديدة، بدءًا من "يوميات الجنوب، يوميات الجنون" و"الوحيد يستيقظ".
في قصيدة "نشور" استفادةٌ واضحة من ريتسوس في تشكيل القصيدة، وصدم وعي القارئ، واستخدام الغريب والعجيب، للتشديد على معنى العودة المتكررة وانتصار الحياة على الموت.
الطفل الميت من ظمأٍ
في المستشفى المظلم
دفنوه سريعًا
ومضوا مرتبكين
وها هو يفتح عينيه الذابلتين
يفتح عينيه الواسعتين
ويحفر
يحفر في الأرض عميقًا.
إن الصورة في هذه القصيدة ذات جذور تموزيَّة تنتمي إلى أساطير الخصب التي تجعل الموت وجهًا آخر من وجوه الحياة، بل ولادةً جديدةً وغوصًا على الحياة في الأعماق. لكن الشيء اللافت في هذه القصيدة، وقصائد أخرى كثيرة في "يوميات الجنوب، يوميات الجنون"، و"مريم تأتي"، و"خذ وردة الثلج خذ القيروانية"، و"جنة المنسيات"، و"الوحيد يستيقظ"، هو استخدام تلك التقنية الريتسوسية التي تعمل على عكس مجرى الأشياء الطبيعي، ومزاوجة الأسطوري باليومي، وإيقاظ دهشة القارئ، في محاولة من الشاعر لتنبيه القارئ الذاهل إلى الغنى المدهش الذي تنطوي عليه الأشياء العادية والمشاهد اليومية المتكررة.
في قصيدة أخرى من مجموعة "خذ وردة الثلج خذ القيروانية"، بعنوان "تمرد"، تصف أنا المتكلم مشهدًا صباحيًّا لمجموعة من الفتيات العاملات في المكاتب، ثم ينتهي المشهد بأن تقفز الفتيات عبر زجاج المكاتب في الطوابق العالية. إن أسلوب الضربة المفاجئة، والاختزال المكثف للمشهد من دون تعليق، أو توضيح لحيثيات الواقعة، هو ما نصادفه في القصيدة. العالمُ يستيقظ، فيما تُشيعُ القصيدة إحساسًا بصباح ربيعي أخضر، كلُّ ما فيه يبشِّر بنعمة الاستيقاظ ثانيةً من موت مؤقت. لكن السطور الثلاثة الأخيرة تفاجئ القارئ بعكس ما توقَّعه وحَدَسَ به. ثمّة مفارقةٌ في تصرف الفتيات اللاتي يقفزن، وعدمُ انسجام مع التمهيد الذي افتتحت به القصيدة مشهدها الصباحي. لكن هذه الخاتمة المتناقضة مع صور الترحيب بالصباح والحياة المتجددة متوقعة على خلفية البناء الفانتازي الذي نوَّهنا به من قبل في شعر سعدي يوسف الأخير. كما أن وصف الفتيات بأنهن ملولات، في السطر الثاني من القصيدة، هو تنبيه بأن ما نشهده من إقبال شديد على الحياة ليس سوى قناع كاذب تختبئ خلفه المشاعر الفعليّة، فالملل والإحساس باللاجدوى هو الشعور الذي يغلِّف المشهد، ولذلك لا بدَّ أن تنتهي الحكاية بحدث ما يدلُّ على الانعتاق من أثقال الحياة اليوميَّة الضاغطة.
من زجاج المكاتب
تستكشف الفتيات الملولات عشاقهن.
الضحى نافرٌ
والمياه اختلت بالمدينة
والشجر النائم استيقظ الآن
تأتي الضواحي
بأفراسها..
اللوز أخضر
والباص أخضر
والنسمات الخفيفة خضراء...
.......
......
......
في لحظة
تقفز الفتيات الملولات
عبر زجاج المكاتب.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.