توفي المفكر والمؤرخ التونسي، هشام جعيّط، يوم الثلاثاء (الأول من حزيران/ يونيو 2021)، بعد صراع مع المرض، عن عمر ناهز 86 عامًا، تاركًا للمكتبة العربية عددًا من الأعمال الهامة، تمحورت قواسمها المشتركة حول قضايا التراث والهوية في العلاقة مع الحداثة والآخر.
لمع اسم هشام جعيّط باحثًا مسكونًا بهواجس التاريخ وقضايا الفلسفة، بعد نشره لكتابيه؛ "الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي" (1974)، و"أوروبا والإسلام: صدام الثّقافة والحداثة"(1978)، اللذين ناقش فيهما جملة من الإشكاليات المحورية في التاريخ الإسلامي، ليصبح واحدًا من المفكّرين العرب الذين طرحوا أسئلة جوهريّة حول الهويّة والتاريخ العربيّين، وسبل النهوض عبر الانتماء إلى الحاضر والمستقبل.
فتح له مقال للمستشرق الفرنسي، لويس ماسنيون، عن تخطيط الكوفة أبوابًا للبحث في القبائل العربية، واستيطانها للمدن، فألّف كتابه "الكوفة: نشأة المدينة العربية الإسلامية" (1986)، استعاد فيه تاريخ الفتح العربي ومعاركه، وفصّل في الاستيطان العربي المخطط، موضحًا موقع الكوفة المركزي في الصراع السياسي الديني في القرن الإسلامي الأول.
استهوته الفلسفة، قبل أن يدرس التاريخ، فطوّر منهجًا في البحث يستمد موضوعيته وأدواته من فلسفة التاريخ، للحصول على دراسة شمولية تقرأ الوقائع التاريخية استنادًا إلى أسسها النظرية، وفي سياقاتها الاجتماعية والثقافية والسياسية، وعلاقتها بوقائع تاريخية تلتقي معها جزئيًا، أو كليًا، في فترات قصيرة، أو طويلة. كما انفتح على مناهج العلوم الأخرى، من علم نفس، واجتماع، وأنثروبولوجيا، وفيلولوجيا، وعلم أديان مقارن، من أجل العودة الى التاريخ العربي بغرض إعادة بنائه، متجنبًا مزالق القراءة التمجيديّة الساذجة، وما فيها من جمود، ومثالب القراءة الاستشراقيّة المتعالية، وما فيها من مغالطات. وقد اتضحت معالم منهجه هذا منذ كتاباته الأكاديمية حول "تأسيس الغرب الإسلامي" (2004) و"الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر" (1991)، وصولًا إلى أكثر أعماله عمقًا فكريًا، ممثلة في ثلاثيته "في السيرة النبوية" (الجزء الأول: "الوحي، القرآن. والنبوة "، الجزء الثاني: "تاريخ الدعوة المحمدية "، الجزء الثالث: "رحلة محمد في المدينة المنورة وانتصار الإسلام "). أصدر هذه الأجزاء تباعًا في الأعوام 1999، 2006، 2014.
الفتنة الكبرى
في كتابه "الفتنة الكبرى: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المبكر"، الذي صدر بالفرنسية عام 1989، وترجم إلى العربية لأول مرة عام 1991، تناول جعيّط بالتدقيق والتحليل مقتل ثالث الخلفاء الراشدين، عثمان بن عفان، ووضع الصراعات التي نشبت سريعًا بعد وفاة النبي موضع التساؤل، ورأى أن شراراتها بدأت باجتماع "سقيفة بني ساعدة" في المدينة، مباشرة بعد موت النبي. تلك الصراعات سمّيت بـ"الفتنة"، وهو مصطلح تمّت، في ظني، صياغته أيديولوجيًا، لإضفاء طابع عرضي على تلك الصراعات، لا يمسّ بجوهر التاريخ الإسلامي، حفاظًا على نقاء "الإسلام الأول"، إسلام النبي وخلفائه الأربعة. لكن "الفتنة" عند هشام جعيّط تبرز في حركة صاعدة من مقتل عثمان وصولًا الى معارك البصرة وصفين، لتكون أكثر من حرب أهلية أو دينية، وإنما مركّب قوي راح يهز عناصر لا متناهية، وبتطورها تطورت بنى وتراكيب بالغة التنوع، تكاد تكون حديثة، مثل ولادة الأحزاب ومؤتمر التحكيم؛ مثلها مثل الثورات الكبرى. كانت الفتنة إيقاعًا لاهثًا تشرف على سماء الأفكار وانخرطت في مشروعها أعداد هائلة من البشر فوسعت مفهوم السياسي.
يستغرب جعيّط أنه مع ذلك لم يخصص لها كتاب جدي. ومع أنه يستثني كتاب طه حسين "الفتنة الكبرى"، إلا أنه كان يرى فيه طغيان الطابع الأدبي على حساب ما هو تاريخي. وفي كتابه هذا حاول جعيّط أن يمارس تاريخًا تفهّميًا يغوص معه في قلب المناخ الذهني والفعلي للعصر، محاولًا فهم كيفية تفكير أهله؛ قيمهم ومقولاتهم؛ حاول التكلم بلغتهم، محللًا البنى والمعطيات الكثيرة لكتابة تاريخ شمولي.
نهاية الاستشراق
تعمّقه في التاريخ الإسلامي، وانفتاحه على الثقافة الغربية والمدرسة الاستشراقية، جعلت من كتبه إضافة مهمة، ومرجعًا أساسيًا في فهم الشخصية العربية والإسلامية، وفهم العلاقة بين الغرب والعالم الإسلامي. ويؤكد جعيّط أن التاريخ علم وضعي، يتناول فعّاليات الأفراد والمجتمعات في الماضي، ويخرج عن دائرة الإيمان والمعتقد، فمناهجه مضبوطة، وترنو إلى التفهّمية، وبالتالي إلى العالمية، وهو كعلم يفسر الأمور، ولا يحكم عليها، كما وقع في ذلك بعض المستشرقين، الذين سلّطوا آراءهم على شخص النبي محمد من وجهة أخلاقية، أو دينية، ومنهم من كتب من موقع أيديولوجي معيّن، كأن يكون مسيحيًا، أو ماركسيًا، أو غيره. لكن هناك منهم أيضًا من درس الإسلام بموضوعية ودقّة، أمثال غولدتسيهر، وفلهاوزن، وبلاشير، وبال، وآخرون.
والتاريخ، كعلم يجري على سطح الأرض، ولا يتناول الحقائق الميتافيزيقية في حد ذاتها، وإلا بات المؤرخ للبوذية بوذيًا، ومؤرخ الديانة اليونانية يونانيًا... إلخ. لذا على المؤرخ المسلم أن يضع قناعاته الدينية عند دراسة الإسلام بين قوسين، وأن يضع حقائق الدين في لحظتها التاريخية من دون الالتزام بالمعطى الإيماني، فليس هدف جعيّط، وهو يعيد قراءة السيرة النبوية، خلط التاريخ بالأيديولوجيا. وجعيّط يعلن أنه لا يرمي إلى نسف الإسلام في ينابيعه، ولا إحياء مقاصده الأولى في وجاهتها، أو الدفاع عن الرسول ضد من لم يعطه حقه من المستشرقين، أو من الرأي العام الغربي، المتأثر بتراث سلبي قديم إزاء شخص الرسول. المقصود تعميق المعرفة وإثراءها.
على مستوى المنهج، يؤكد جعيّط سعيه إلى استنباط منهج "عقلاني تفهّمي" (وضع أسسه ماكس فيبر)، لم يجده عند الباحثين في التراث الإسلامي المعاصرين، كما أن المستشرقين الجدد لم يأتوا عليه، واصفًا دراستهم بالهزيلة في هذا الحقل مقارنة بفحول الفكر والتاريخ في الغرب، فقراءة المستشرقين، وإن ادّعت الموضوعية الصارمة، فإنها في النهاية خالية من "الحساسية" اللازمة لفهم موضوعات مركّبة تحتاج في مقاربتها إلى نوع من الرهافة، فالمؤرخ لا يحتاج فقط إلى مجرد المعلومات والمصادر ليكتب تاريخًا، ولكن عليه في الحقيقة أن يتسلح، زيادة على الموضوعية والدقة، بالتعاطف مع موضوعه، أي بقسط كبير من النزاهة التفهّمية، وأن ينزع عن نفسه كل فكرة مسبقة. لم يعد هناك مستشرقون من ذوي الأهمية في الغرب، فأغلبهم قد مات، ولم يأت جيل جديد، وهؤلاء كانوا ينزعجون من أن يدرس عربي مسلم أساسَ الدين الإسلامي والحضارة الإسلامية، ويهتم بتورخة الإسلام، وأن المستشرقين في الفترة التي كتب فيها لم يكونوا متمكنين من علم التاريخ، وكان مسارهم يقوم على تعلم العربية، أو الفارسية، وليس لهم تكوين تاريخي نقدي حقيقي. كانت كتاباتهم سردية، وتطغى عليها أحكام مسبقة، واعتبارات خارج الحقل العلمي، وهي مسكونة بفرض تفوق الغرب على الشرق الإسلامي. لذا يعلن من خلال ثلاثيته عن السيرة النبوية أن "الاستشراق انتهى على يد أحد الشرقيين المسلمين".
السيرة النبوية: إعادة قراءة
في الجزء الأول من كتابه في "السيرة النبوية"، الذي حمل عنوان "الوحي والقرآن والنبوة"، يتناول المسائل الثلاث التي تمثل أهم أعمدة الدين الإسلامي. وفي الجزء الثاني "تاريخية الدعوة المحمدية في مكة"، يقدم نقدًا صارمًا للنصوص ويبدد الصورة التي وضعتها السيرة التقليدية للنبي محمد، وغذت المخيلة الجمعية الإسلامية على مدى قرون. وفي الجزء الثالث، "مسيرة محمد في المدينة وانتصار الإسلام"، يشرح جعيّط علاقة النبي مع أهل المدينة (يثرب)، وتأسيس الأمة الجديدة، وما ساور هذا التأسيس من تحدّيات.
في هذا الكتاب، يطبق جعيّط مفهومه المنهجي "التاريخ العقلاني التفهّمي"، الذي يجمع المؤرخ من خلاله بين "الفهم"، الذي هو وضع العمليات التاريخية في قالب يمكن فهمه "بعقل اليوم"، و"التفهّم" الذي هو الانحياز إلى المبررات الذاتية للحدث التاريخي ذاته في زمانه ومكانه. فوظيفة المؤرخ، عند جعيّط، هي استقراء المؤرخ للماضي، متسلحًا بمعرفة دقيقة بالمصادر والمراجع، وبالتعاطف اللازم مع موضوعه، وبرحابة صدر وثقابة الفكر، وتقديم نظرة أنثروبولوجية للثقافة العربية قبل الإسلام أولًا، واستقراء للنص القرآني وتتبع التأثيرات الخارجية والنظر النقدي في المصادر التاريخية والبيوغرافية. تزداد أهمية هذه القراءة التفهّمية عند مقاربة موضوعات مركبة وحساسة، مثل: الوحي، والنبوة، معاني القرآن، تاريخية النبوة والنبي…إلخ، فهي برأيه موضوعات أقرب إلى الحقيقة الدينية المحضة، التي لا يمكن مقاربتها إلا بحس رهيف وعقلانية تفهّمية ومعرفة دقيقة.
ولأنه يقرأ تاريخ الإسلام، فسيكون عليه أن يقاوم من ناحية وجاهة الصرامة العلمية المفتعلة في الاستشراق الذي كثيرًا ما يبدو استعلائيًا تشكيكيًا، كما أن يقاوم، من ناحية أخرى، إغواء المركزية الذاتية الإسلامية التي تبدو تبجيلية في أغلب الأحيان. فأدبيات الاستشراق ليست مبنية على دراسة معمقة للنصوص والمرجعيات، لكنها مفعمة بالسياسة، يختلط فيها الحلم بالتاريخ لأسباب سياسية. ومعظم مؤلّفاتهم لا تعتمد المناهج العلمية، بل تستغل رغبة الآخر في الاطلاع على الدين الإسلامي والثقافة العربية الإسلامية، ثم يقدمون له مؤلّفات تهتم بالحديث عن الدين أكثر من علم الأديان وتاريخ القرآن والسيرة النبوية. وهم مشغولون كثيرًا بكلّ ما يتعلّق بالسياسة الآنية وبالحركات الإسلامية المعاصرة.
الهوية والحداثة
اعتقد جعيّط، في غير مناسبة، أن هنالك وضعًا نفسيًا ضاغطًا على المسلمين الذين يعيشون أزمة هويّة، ويشعرون بالحصار من الداخل والخارج، فلذلك هم غير مستعدّين لمراجعة القصص المؤسسة للأصول. كما لا يقلّل من المشاكل التي تطرحها المصادر، فهي تجعل كثيرًا من النتائج وقتيّة وافتراضيّة وقابلة للاختلاف، بل للنقض. إلا أنّه لا يرى بديلًا عن التاريخ، الذي تأسست في ألمانيا وفرنسا في القرن التاسع عشر مناهجه المعروفة في التعامل مع المصادر، وازداد ثراء في القرن العشرين، حتى وصل إلى نوع من النضج بتكافل المعارف التي تصبّ فيه، من اقتصاد وأنثربولوجيا وسوسيولوجيا.
وفي رأيه، الحداثة هي ابنة الغرب، وقد نشأت مع نهضته، ولكنها نتيجة تراكمات وتفاعل الحضارات وجهود التحديث المتواصل، ونحن كعرب ومسلمين ساهمنا في بناء الحداثة التي يعتقد أنها انطلقت من الأندلس مع الثورة العلمية. اليوم نحن في حالة تأخر وتقهقر، وسنظل مرتبطين بالغرب، وسنبقى تبعًا له، وسيواصل التدخل في شؤوننا ما دمنا نكتفي باستهلاك الثقافة الغربية، وفي أحسن الحالات نستهلكها استهلاكًا جيدًا. ولن ينخرط المسلمون في المشروع الثقافي العالمي الذي يقوم على السمو والإبداع، إلا بثقافة متميزة لا تكون نتيجة مبادرات فردية فحسب، وإنما تتحول إلى ثقافة جمعية. والحداثة مرتبطة بالهوية، والهوية ما زالت تقوم بدورها الاستراتيجي في مقاومة الهيمنة الإمبريالية التي أخذت شكل الهيمنة الاقتصادية.
وتكمن مشكلة المسلمين، بحسب جعيّط، في أن لديهم هوسًا كبيرًا بالدين، وبالحفاظ عليه، وهو يلعب في حياتهم دورًا غير متناسب. المشكلة حضارية، والحضارة الغربية تأثرت بالدين، لكن المراجعات جاءت في سياق النهضة الفكرية التي انبثقت عن عصر التنوير. قبل ثلاثة قرون، حسم الغربيون رأيهم في هذا الصدد، لكن المسلمين والعرب لم يفعلوا ذلك. لا يمكن لأوروبا أبدًا تجاهل أصولها المتواضعة، أو العالم الخارجي، في المقابل لا يمكن للعالم الإسلامي أن يستمرَ في رؤية ذاته بشكل خرافي ومتراص، وإلا سنستمر في التقدم نحو مواجهة بين الحضارات لم يسبق لها مثيل في التاريخ.
يحاول جعيّط التوجه نحو الغرب الحضاري، لا الغرب الاستعماري، حيث خرج بعض مفكري هذا النموذج الجدد عن الأطر التقليدية، ليتبنوا فكرًا كونيًا، فيهمل التراث الثقافي لحساب الشمولية الثقافية والكونية من جهة، وتاريخية أوروبا من جهة ثانية. ويرى أن التشبث باستمرارية الثقافة مجرد وهم، وكان نتيجة ضغط الثقافة الغربية، مما أفرز دفاعًا غير مجد عن الثقافة الأصولية. وينظر إلى الثقافة العربية من خلال مواكبتها المعاصرة، وانخراطها في الثقافة الكونية، وتفتحها الفعَال على الثقافات الأخرى.
عربيًا، يعتقد جعيّط أننا متجهون نحو الدولة الوطنية على حساب الدولة الأمة، فالسعودية تتجه نحو بناء دولتها الوطنية؛ الإمارات كذلك صارت قوة عسكرية، وليست اقتصادية فحسب، وتتجه كذلك نحو بناء دولة وطنية، وأن فكرة الوحدة العربية قد زالت، وأخفقت التيارات الإسلامية، ولم تنجح إلا في إيران التي فيها الدولة ـ الأمة، حيث تم رسم سياسة خارجية عنجهيّة تتدخل في الدول لحماية مصالحها. لم يعد اليوم في الإمكان الحديث عن دولة دينية، ويعتقد أنه في تونس قد حسم الأمر: لم تعد لدينا مشكلة وهاجس من إقامة دولة دينية، لم يبق إلا المثقفون والنخبة يتحدثون عن ذلك.
خاتمة
في مجتمعات مسكونة بالمعجز والمقدس، ومحكومة بالتداخل بين التاريخ والأسطورة، والنسبي والمطلق، والمحايث والمفارق، ليس من السهل المس بما بات مسلمات تاريخية، ولا إعادة التفكير في ما بات بداهات تكمن خلفها التفاصيل الأكثر أهمية. كان هشام جعيّط من أولئك القلة الذين تجرأوا على مساءلة التاريخ في بداهاته ومسلماته، وسيبقى أحد المفكرين الأكثر إثارة للجدل، سواء بسبب جرأته، أو حول وفائه لمنهجه، أو حول النتائج التي انتهى منهجه إليها.
اعتقد جعيّط، كما تقدم، أن الإسلام هو العنصر الأساس الذي يشكل الشخصية العربية والإسلامية، وأنه لا يمكن الاستغناء عنه، ويرى أنه عامل محدد في بناء هذه الشخصية، ولكنه يعتقد أن الذي يجب تغييره في ذلك هو الفهم الخاطئ للإسلام وللتاريخ الإسلامي، الذي يحاول كثير من المفكرين الإسلاميين قراءته قراءة إيمانية تغيّب الحقيقة وتغتالها، لتنتج لنا ثقافة إسلامية مأزومة خالية من كل علمية وموضوعية. إلا أنه مع ذلك ذهب إلى أن المصدر الموثوق عن مرحلة النبوة هو القرآن الذي عاصر تلك الأحداث، فاعتبره كتابًا مقدسًا خاليًا من جميع مصادر اللاعقلانية، معتمدًا في فهمه للقرآن على منهج فينومينولوجي يفصح به القرآن عن نفسه، بعيدًا عن صراعات التأويل اللاحقة.
في إحدى دراساته ("خواطر حول التاريخ المقدس")، يذهب محمد المزوغي إلى أن جعيّط يُهاجم المستشرقين بشدّة، في لهجة تذكّرنا بالمفكرين الإسلاميين، لكنه يَستثني منهم من لم يَرُدّوا الرسالة إلى أسباب دنيوية بحتة، وفي الوقت الذي وعدنا به بالتكلّم بموضوعية وروح علمية، عند تناول إشكالية الوحي، لم يف بوعده، بعد أن أكّد أن الوحي هو العملية التي تمّ بها التبليغ إلى الرسول، والتجربة الفريدة التي عاشها، وأن همّه ليس أن يستكنه هذا بالعقل، فهو أمر مستحيل، ولا حتى أن يسوق نظرية فلسفية حول الوحي في الإسلام. في رأي المزوغي، أن الوحي، عند جعيّط، يبدو امرءًا متعاليًا وفريدًا من نوعه، وغير قابل لأن يخضع إلى أي نوع من أنواع المعرفة الإنسانية؛ لا تاريخ الأديان، ولا الفلسفة، ولا علم النفس، ولا العلوم الإنسانية الأخرى، من علم اجتماع وأنثروبولوجيا، ولا العقل ومبادئه في مقدورها استكناه حقيقة الوحي، ويتساءل ماذا تبَقى مِن كلّ تلك العلوم؟ وما دور العقل في اكتناه حقائق الأمور؟ لا شيء، فالطريق إلى الوحي مسدود من الأساس. يتساءل المزوغي مرة أخرى: هل إنّ المقاربة التاريخية للوحي وللقرآن، والاعتماد على النصوص، واستخدام الظواهرية، هي أمور عقلية أم لا؟ إن كانت كذلك، فإن القول باستحالة إدراك الوحي بالعقل، هو تناقض صريح مع المقدّمات. أما إن كان هذا العمل لا يعتمد على العقل، فما المغزى من إدخال تلك العلوم ومناهجها والتقيد بالمعطيات العينية؟ وما الجدّة التي فاق بها كتّاب السيرة القدامى والمحدثين؟