}

خيال الحكاية والذكاء الصناعي.. نحو إعلاء قيمة القوة

رشا عمران رشا عمران 12 يوليه 2021

ذلك المشهد، حيث الجدة العجوز تجلس في منتصف بيت ريفي، أو عربي قديم، بينما يتحلق أحفادها حولها يستمعون إلى حكاياها المدهشة، لم يعد موجودًا، ذلك العالم الذي كان يشبه صندوق الدنيا، لم يعد موجودًا. من يتذكر الآن حكاية (عنزة العنوزية) التي تبحث عن أبنائها الذين أكلهم الذئب الشرير، وتنتقل من سطح بيت إلى آخر متحدية من يسألها من هي: (أنا عنزة العنوزية يلي قرونها حدودية، يلي أكلي ولايداتي يلاقيني عالبرية)؟ من يتذكر كيف كانت تشتغل خيالاتنا مع تموجات صوت الجدة وهو يرتفع وينخفض ويزمجر ويتحمس ويئن، حسب مجريات الحكاية؟ كنا نحن المتحلقين حولها، نترك لخيالاتنا الصغيرة أن تبتكر ساحة معركة يلتقي فيها الذئب بالعنزة، حيث ستنتصر العنزة وتستعيد أبناءها، فالحق لا بد له من أن ينتصر على الشر مهما كان الشر شرسًا وقويًا، ثم ننام لنعود في اليوم التالي لنسمع حكاية ليلى والذئب، حيث أيضًا سينتصر الخير المتمثل في ليلى الطفلة التي تأخذ الطعام لجدتها في الغابة، أو حكايات مروية في كتاب "كليلة ودمنة"، لكن تناقلها على لسان الجدات حولها إلى قص شعبي بسيط يتبع طبيعة ولهجة بيئة الجدة الحكّاءة.




تشكل الحكاية أول خيط من خيوط الخيال لدى الطفل المتلقي، فمن خلال الصوت السردي يبدأ الخيال أفعاله العظيمة، الجدّة تحكي والأحفاد حولها يستمعون ويتلقون حكايتها وتموجات صوتها كل حسب سعة خياله. المشاركة في الاستماع أحيانًا تخلق عالمًا آخر. أتذكر حين كانت جدتي تنهي حكاياتها لنا، ثم نخرج إلى البرية لنلعب، كنا نحاول تقليد الذئب والعنزة، أو ليلى وجدتها والذئب، أو الأرنب والسلحفاة، كنا نلعب بجدية مطلقة، نحاول تمثيل ما سمعناه من الجدة معتمدين على خيالاتنا الطفلة، بعضنا كان يمل سريعًا، ويحاول تغيير اللعبة إلى لعبة الحجارة والسيارات، حيث الخيال المحدود، وبعضنا يتابع ويضيف إلى الحكاية التي سمعها. محظوظ ذلك الطفل الذي قضى ساعات يستمع إلى حكايا جدته، ثم استطاع القبض على خياله في لحظة ما، ولعب به لاحقًا، كما لو أنه عجينة طرية، هذا الطفل تحول إلى مبدع، أو مخترع، أو عالم، إذ أن خياله ذلك الوقت كان خيالًا متحركًا استطاع التقاط النقطة التي تحيل طاقة الصوت إلى عمل عقلي من دون أن يدرك ما يفعله وقتها.




تلك الحكايات التي ظهرت قبل إدراك الطفل للتدوين هي نبع خيال المبدعين، لتأتي بعدها الكتب الملونة التي تضم بين صفحاتها نفس حكايا الجدات، لكن بلغة فصيحة، وألفاظ منتقاة تناسب سريرًا أنيقًا ينام الطفل عليه، وبجانبه والدة حانية تقرأ له من الكتاب الملون حتى ينام. ورغم أن خيال الطفل هنا، أيضًا، يرتكز على صوت والدته، إلا أن الوالدة تلتزم بما بين يديها، لا مجال لأن تضيف، أو تحذف، كما كانت الجدة تفعل بحكاياتها، حيث كانت أسماؤنا تدخل في الحكاية، لنجد أنفسنا جزءًا منها (ربما من هنا جاءت فكرة المسرح التفاعلي)، بينما الحكاية المدونة صارمة لا تسمح بهذه الاختراقات والانزياحات، جميلة لكنها ملساء ومرتبة كغطاء السرير الذي ينام عليه الطفل المدلل.
بيد أن العالم ذاك كله بات من الماضي بالنسبة إلى الطفل، عالم الحكايات المروية والمدونة، الحكايات التي كانت الطبيعة البكر جزءًا رئيسًا فيها، الحيوانات والجبال والبحر والغابات والشجر ورائحة الطعام والألوان الطبيعية الدافئة، لون العشب ولون الأزهار، ولون السماء، ولون المطر، العالم المخفي أيضًا بساحراته الطيبات والشريرات، بأقزامه وعمالقته، عالم العجائب الذي كان في حكاية الجدة ثم انتقل إلى الكتب الملونة الجميلة، ليتحول لاحقًا إلى أفلام يراها الأطفال على شاشة مسطحة، بشخوص لها مواصفات وملامح غير متخيلة، كما كانت زمن الحكي، بل بمواصفات وملامح محددة وبأصوات متعددة تختلف نبرتها من شخصية إلى أخرى، بعد أن كان صوت الحكواتي/ الجدة/ الأم هو مجمل أصوات جميع شخوص الحكاية، بيد أن ثمة ميزة للسينما، إذ أعادت للطفل مجتمع الحكاية الملتف حول الجدة، والذي انقطع مع فردانية السرير، ففي السينما يتشارك الطفل انتباه حواسه مع الجميع، يشاهد ويتأثر وينفعل ويتشارك كل هذا مع المشاهدين مثله، وقد يتخيلهم معه يعيدون تمثيل الحكاية نفسها، كما كان يحدث بعد انتهاء حكاية الجدة، حين كانت البرية مسرحًا لإعادة صياغة الحكاية عبر اللعب.




هذا العالم الجميل، أيضًا، يبدو أنه قد انتهى حاليًا تمامًا، فلم تعد تلك الحكايات جاذبة للطفل، ولا ألوان الطبيعة مدهشة، ولم يعد عالم الأقزام والعمالقة الطيبين مقنعًا لطفل اليوم، والخير لا ينتصر غالبًا، لأن فكرة الخير والشر قد اختلفت، ثمة وجهات نظر أخرى اليوم، والتطور المذهل في التكنولوجيا رافقه نسف لذلك الإرث الطويل من الحكايا والمرويات والأفلام السينمائية اللطيفة، لصالح ألعاب إلكترونية، المنافسون فيها افتراضيون، ألعاب تكرّس فكرة السيطرة والقوة والانتصار الساحق لمن يملك القوة العضلية، أو السلاح، لا لمن يملك الذكاء المعرفي حتى. فرض تطوّر الذكاء الصناعي نمط حياة مختلفًا للأطفال، لم يعودوا يشعرون بأنهم يحتاجون إلى شركاء حقيقيين للعب، إذ أن جهازًا صغيرًا يحملونه بين أيديهم يعوّضهم عن ذلك، وللأسف فإن ألعاب الذكاء الصناعي كلها ألعاب قوة وسيطرة وحرب وقتل، ثقافة جديدة تكرست لدى أطفال القرن الحالي، وتكرست معها قيم جديدة عن الحق والخير والسلام، وعن الشر والسوء والكراهية والتنمر، وعن التوفق والنجاح والفوز وسحق الآخرين الافتراضيين. اختفى الخيال الإيجابي لدى الغالبية العظمى من الأطفال لصالح خيال أكثر ذكاء، لكنه الذكاء القادر على ابتكار فنون الانتصار والسيطرة والسحق، حتى الأصوات أصبحت عنيفة، أصوات معدنية لا رأفة فيها ولا حنية ولا رحمة، أما البرية، أو الطبيعة، أو حتى المدن، فأصبحت فضاءات غريبة لا تشبه الواقع، ولا تشبه خيالًا جميلًا عن الواقع، فضاءات يجد نفسه الطفل فيها هو القائد المسيطر القوي الآمر الناهي، لا يحتاج فيها إلى شركاء واقعيين ينافسونه على شيء، ما يزيد من عزلة الطفل التي بات يشتكي منها معظم العائلات، ما يزيد أيضًا من قبول الطفل للحروب الحقيقية، التي تحدث في العالم، وربما تجعله يرى في صاحب القوة بطلًا، حتى لو كان قاتلًا، لكنه ملك القوة والسلطة. إن الذكاء الصناعي يعلي من قيمة القوة، وهو فعلًا ما يتم تلقينه للأطفال عبر ألعاب هذا الصنف من الذكاء.
لنفكر، أخيرًا، على الشكل التالي: أطفال شهدوا حروبًا مهولة، ثم كبروا مع تطور أدوات الذكاء الصناعي التي باتت ركنًا رئيسًا من الحياة اليومية، بكل قيمها التي تبثها بدأب مريب، كيف سينجو هؤلاء لاحقًا من ممارسة العنف، ومن ظهور الغضب المختزن داخلهم منذ طفولة الحرب والموت والذل؟ كيف سينجو هؤلاء من أن يكونوا قنابل موقوتة ضد أنفسهم وضد آخرين يفترضونهم أعداء؟

مقالات اخرى للكاتب

يوميات
3 أبريل 2024
يوميات
26 فبراير 2024
يوميات
2 فبراير 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.