}

الشهادة.. من المصطلح إلى حكم القيمة

حسام أبو حامد حسام أبو حامد 19 يوليه 2021
حثّ القرآن على بذل النفس في سبيل الله وإعلاءً لكلمته ((إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚفَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚوَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)) [التوبة: 111]، وهؤلاء القتلى هم في نعيم معجل لا مؤجل ((وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)) [آل عمران: 169](1).
لم يصف القرآن هؤلاء بالشهداء، بل قتلى في سبيل الله، ووردت ألفاظ؛ شهيد وشهادة ونحوهما، في معان أخرى لا تتصل بالقتال في سبيل الله، فدلّت تارة على الحضور: ((ليشهدوا منافع لهم)) [الحج: 28]؛ ((ليشهدوا عذابهما)) [النور:2]. ودلّت تارة أخرى على القول الصادر عن علم حصل بالمشاهدة: ((أشهدوا خلقهم)) [الزخرف: 19]؛ ((ستكتب شهادتهم)) [الزخرف: 19]. وجاءت الشهادة بمعنى العلم بالشيء: ((لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون)) [آل عمران: 70]؛ وبمعنى الحكم؛ ((وشهد شاهد من أهلها)) [يوسف:26]، وبمعنى الإقرار: ((ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله)) [النور/ 6]. أما قوله: ((عالم الغيب والشهادة)) [السجدة: 6]، فقصد به ما يغيب عن البصر والبصيرة وما يُشهد بهما.
مع إسلام الوحي، وبالرغم من بروز قيمة الموت في سبيل الله، لم تدلّ الشهادة على ذلك الموت الخاص، قبل أن يتحول الجهاد لاحقًا، ومع الاقتصاد الإسلامي القائم على الفتوحات العسكرية، إلى فريضة، أصبحت بحسب المرويات الإسلامية ذروة سنام الدين الإسلامي. كما لم يعرف عرب شبه الجزيرة كلمة الشهادة بذاك المعنى، وبقي صاحب الشهادة (الشاهد والشهيد) هو سامع الحدث ومبصره وحاضره والعالم به. فكيف تم منح الشهادة معناها الديني الفقهي الخاص، وربطها بالقتال في سبيل إعلاء كلمة الله لتتحول من مجرد توصيف لغوي، إن جاز التعبير، لتصبح حكم قيمة؟



الشعر "الجاهلي"(2) بوصفه وعيًا اجتماعيًا
قدّمت المعطيات التي توافرت للباحثين والآثاريين والمؤرخين، في القرنين التاسع عشر والعشرين، دلائلَ على أن الأقسام الجنوبية من شبه الجزيرة العربية قد عرفت ما قبل القرنين الخامس والسادس الميلاديين(3) مستويات متقدمة من الزراعة المتطورة والري الاصطناعي والمنشآت المعمارية والمؤسسات السياسية (الدولة) وتقسيم العمل. وقد شهد القرن السادس بقايا من هذه الظاهرات في حالات التدهور(4). ويبدو أنه بعد انهيار سد مأرب، انقطع التطور الذي هيمن في حينه بهجرة أهل المناطق الجنوبية الى مناطق أخرى على أطراف شبه الجزيرة (الأزد، أو الغساسنة، إلى نواحي الشام، والتنوخيين إلى البحرين، والمناذرة إلى العراق)، ليسود مجتمعات شبه الجزيرة العربية نظام الترابط القَبَلي الذي قسّم السكان إلى وحدات من القبائل ينظّم كل وحدة منها نظام النسب غالبًا، ورباط التحالف أحيانًا، مع استقلال هذه الوحدات بعضها عن بعض، وعدم اعترافها بأي سلطة خارج القبيلة، في غياب مؤسسة سياسية جامعة.



ساد الاقتصاد القائم على الرعي (الإبل غالبًا)، ولجأت بعض القبائل إلى الزراعة حيثما توافرت أسبابها. كان طابع الترحال هو الغالب، وطابع الاستقرار الملازم لحياة الزراعة هو الأقل. ورغم بروز عوامل عملت نسبيًا على تفكيك تلك الصورة (في مكة خصوصًا) إلا أن تلك الصورة بقيت هي الطابع الأساسي للمرحلة التاريخية كلها.
اشتمل الشعر العربي ما قبل الإسلام على بُعد معرفي تمثل في دلالات تاريخية تنبئ بمستوى وعي أهل الجاهلية، أي موقفهم المعرفي تجاه الكون والعالم. فالشعر الجاهلي، بحسب حسين مروّة، وبالإضافة لكونه شعرًا، مثّل شكلًا من أشكال الوعي الاجتماعي، وبالإضافة إلى دلالته الفنية، في حد ذاتها، على أحد مستويات الوعي الجاهلي، حمل في نصوصه علامات وشواهد على مستوى أشكال الوعي الأخرى لدى الجاهليين. ونحن هنا أمام الشعر الذي لم يعرف مؤرخو الأدب العربي منه ما هو أقدم من 150 سنة، ومع ذلك يظل، كما يعتقد أحمد أمين، المصدر الأكثر ثقة لدراسة تلك الفترة.



آفاق عالم دنيوي



ارتبط مصطلح الشهادة الإسلامي بعالم ما بعد الموت، حيث الشهداء أحياء يرزقون، إلا أن عرب ما قبل الإسلام، كما يخبرنا شعرهم، قد أنكروا البعث والإعادة، وهو ما تؤكد عليه نقاشات القرآن معهم ((وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ)) [يس: 78 ـ 79]. صحيح أن أفكار الخلق والبعث توافرت بتأثيرات مسيحية ويهودية في شبه الجزيرة العربية، لكنّها بقيت بين العرب الوثنيين حكرًا على "نخبة مثقفة"، فلم تؤثر بشكل يغيّر من المعتقدات الوثنية لدى أولئك البدو الرحل وأنصاف الرحل.




عرف هؤلاء البدو مفهومًا للقدر بوصفه قوة عُلوية تتجلى في مظاهر غير محددة الملامح، واستخدمت كلمات للدلالة عليها، نحو المنية، كما في قول زهير بن أبي سلمى:
رأيت المنايا خبط عشواء فمن تصب ** تمته ومن تخطئ يُعمّر فيهرمِ
كما سادت كلمة "الدهر" التي تعارضت والتصور الإسلامي عن القدر الإلهي ((وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ)) [الجاثية: 24]. وفي قول الشاعر:
يا من لأقوام فجعت بهم ** كانوا ملوك العرب والعجم
استأثر الدهر الغداة بهم ** والدهر يرميني ولا أرمي
يا دهر قد أكثرت فجعتنا ** بسراتنا ووقرْت في العظم
وسلبتنا ما لستَ معقبنا ** يا دهر ما أنصفت في الحُكم
مع ذلك، يبدو أن هذا القدر/ الدهر لم يكن بمثابة خالق للإنسان الأول، ومنظمّ لهذه الحياة، بحيث يصبح بداية فطرية منظّمة، فلم يتوافر في حينه وعي بعلاقة سببية واضحة بين هذه القوة وبين مضمون كل حياة فردية. كان الدهر دائمًا بالمرصاد، وعنه تصدر محن الإنسان الذي لا مهرب منها، والتي ليس للإنسان معها من طاقة للاطلاع على ما تخبئه له:
وأعلم علم اليوم والأمس قبله ** ولكني عن علم ما في غد عَمِ
                                                 (زهير بن أبي سلمى).
عدم انتظام الحياة، وغموض القدر والفناء الحتمي، بدت أمورًا غير قابلة للتفسير.


الحدث والوعي الذاتي
باستثناء "الدهر"، زمنًا غير محدد متواصل موجود وجودًا موضوعيًا مستمرًا، بدأ الماضي المرتبط بالوجود الإنساني الفردي والجماعي (القبيلة) عند الجد الأول للقبيلة (لا عند آدم كما بات لاحقًا مع التصور الديني الإسلامي)، ما قبل ذلك كان مجهولًا. شكل هذا الوعي البيولوجي السلالي الذاتي تصور البدوي عن الماضي، ولم يرتبط بالمحور الزمني، أي بفكرة القياس الزمني للوجود ككل، وتحدد عمر الإنسان بربطه بحدث يَحِلّ مصادفة في مجرى حياته الإنسان (مثلًا يذهب الإخباريون العرب إلى أن ولادة النبي محمد كانت في عام الفيل، وهو العام الذي يقال إن السماء أنزلت فيه هزيمتها بأبرهة الحبشي). كما تعلّقت قياسات الزمن بامتدادات الحياة الإنسانية المحددة: الطفولة، الشباب، الشيخوخة، قبل أن تبرز وحدة قياس للزمن تعارف عليها عدد واسع من القبائل، وارتبطت بالممارسات الوثنية، كان أشهرها الحج إلى كعبة مكة، لتصبح "الحجّة" واحدة من طرق توقيت الزمن، كما في قول بشامة بن الغدير:
درستْ وقدْ بقيتَ على حججٍ ** بعدَ الأنيسِ عفونها سبعِ
لكن ذلك لم يكن ليحدث انعطافة في مجمل نظام الوعي الاجتماعي، تلك الانعطافة الضرورية والناجمة عن إدخال القياس الزمني في الذاكرة الجمعية، كالتي أحدثها اعتماد التاريخ الهجري كنظام لقياس الزمن على مستوى الأمة، في عهد عمر بن الخطاب، والتي معها ينتهي "الماضي" ويبدأ "التاريخ". حتى ذلك الحين، ارتبطت "الحوادث" بتوافقها مع الزمن/ القدر/ الدهر، فجرت وأخذت مكانها واحدة تلو الأخرى، بوصفها عنصرًا من عناصر الماضي، أو الحاضر، ولم تصبح ذاتًا مستقلة عن وجود الإنسان ذاته تؤثر في مصيره، فاستوعب البدوي الحدث مجزّأ من خلال المشاهد والأفعال، وبعض جوانب الماضي، وقبل كل شيء الجانب الأخلاقي الحقوقي والسلالي الَنسَبِي، لكن الأفعال والتصرفات لم تكن لتشكّل حدثًا بعد، وتظهر أشعار ما قبل الإسلام أن موضوع الوعي الذاتي كان في أغلب الأحيان من مزايا الإنسان الاجتماعية: الكرم؛ السماحة؛ الشجاعة؛ البسالة؛ الوفاء بالعهد؛ وغيرها من القيم التي حافظت على الحياة، وضمنت استمرار الإنتاج البيولوجي، والتي لم تكن مزايا فردية خاصة، بل جماعية.




أما الأحداث، وخاصّة العمليات، فلم تصبح بعد موضوعًا للتعميم. تلخّصت الأخلاق في المجتمع البدوي في العمل لصالح الجماعة/ القبيلة كلها، وكان لأفعال الإنسان في هذه الحالة طابعها الاجتماعي. لم يكن لنشاط الإنسان نفسه، بل ولأعماله وتصرفاته عمومًا تعميم مستقل، ولم تكن موضوعًا للوصف، ولا مجال، كما افترض، أن يكون لـ"شهيد" يموت، على الأقل، في سبيل القبيلة تلك القيمة المستقلّة التي يمكن تصورها.



أيام العرب
كانت حروب ومعارك عرب ما قبل الإسلام، تسمى أيامًا، لأنهم كانوا يتحاربون نهارًا ويتوقفون ليلًا. لم تكن لمعاركهم أهداف دينية، ولم يسموها بأسماء دينية، بل بأسماء البقاع، أو الآبار، أو التضاريس، التي تنشب بجانبها، مثل: يوم ذي قار، ويوم شعب جبلة، وغيرها، أو بأسماء ما أحدث اشتعالها، مثل: حرب البسوس، وحرب داحس والغبراء. بدا الغزو جزءًا من معركة الصراع من أجل البقاء، وكانت العصبية القبلية أفضل عناصر الحشد والتجييش، ولم تكن أيديولوجيا الشهادة لازمة هنا، حتى وإن نشدوا توفيق الآلهة. ومع احتفاء العرب بقتلاهم الذين ضحّوا في سبيل بقاء الجماعة، إلا أنه لم يكن من مكان لنصر إلهي مؤجّل، ولا للتضحية بالأرواح أكثر مما يحتمله التعداد السكاني المحدود. يطلب البدوي الموت لا الشهادة، فهو قتيل، وليس شهيدًا، وفي ذلك يقول زهير بن أبي سلمى:
إِذا فَزِعوا طاروا إِلى مُستَغيثِهِم ** طِوالَ الرِماحِ لا ضِعافٌ وَلا عُزلُ
بِخَيلٍ عَلَيها جِنَّةٌ عَبقَرِيَّةٌ       **  جَديرونَ يَومًا أَن يَنالوا فَيَستَعلوا
وَإِن يُقتَلوا فَيُشتَفى بِدِمائِهِم    **  وَكانوا قَديمًا مِن مَناياهُمُ القَتلُ.
الموت في الوغى ضرورة طبيعية واجتماعية، ورغم تمجيدهم لموتاهم وقتلاهم إلا أن قيمة التضحية الفردية تراجعت أمام إنكار الذات لصالح الجماعة التي معها لا معنى لخلود فردي مقابل استمرار الجماعة، فكان البدوي مستعدًا للتنازل عن القبر، ومحو كل أثر له، تاركًا جثّته للضبع (أم عامر)، وغيرها من كواسر، طالما لا حياة أخرى ليعيشها، كما في أبيات الشنفرى:
وَلا تَقبُروني إِنَّ دَفني مُحَرَّمٌ          **  عَلَيكُم وَلَكِن أَبشِري أُمَّ عامِرِ
إِذا ضَرَبوا رَأسي وَفي الرَأسِ أَكثَري **   وَغودِرَ عِندَ المُلتَقى ثَمَّ سائِري
هُنالِكَ لا أَرجو حَياةً تَسُرُّني         **    سَجيسَ اللَيالِي مُبسَلًا بِالجَرائِرِ.
في هذا العالم الدنيوي يكون الجزاء دنيويًا، ومن جنس الفعل، فكان الأخذ بالثأر شريعة مقدّسة، ويحرّم أفراد القبيلة على أنفسهم الخمر والنساء والطيب، حتى يتم ثأرهم من غرمائهم، وليس هنالك أي حق فردي لنقض تلك الشريعة، او الخروج عليها. يقول دريد بن الصِمَّة:
ما أنا إلا من غزية إن غوت  **  غويت وإن ترشد غزية أرشدِ
تبدأ الحروب، ويتم توارث الثارات، ولا تقف حتى يتدخل من يصلح بين المتحاربين ويتحمّل الديّات والمغارم التي لم يكن يقبلها العرب إلا بعد تفاقم الأمر، وبعد أن تأتي الحرب على الأخضر واليابس، عدا ذلك فقبول الديّات سبّةٌ وعارٌ.




خلا الشعر الجاهلي من معاني الشهادة التي أسبغت إسلاميًا للدلالة على الموت في سبيل إعلاء كلمة الله، وكان الشهيد على الشيء يعني الحاضر المطّلع عليه، وفي ذلك يقول الحارث بن حلزة اليشكري:
فَمَلَكنا بِذَلِكَ الناسَ حَتّى ** مَلَكَ المُنذِرُ بِنُ ماءِ السَماءِ
وَهُوَ الرَبُّ وَالشَهيدُ عَلى يَو ** مِ الحَيارَينِ وَالبَلاءُ بَلاءُ

والشهيد بالشيء المقرّ به، يقول الطفيل بن عوف الغنوي:
شَهيدي بِالَّذي قَد قُلتُ فيهِ ** بَنو بَكرٍ وَحَيُّ بَني الرَواعِ.

ويقول عوف بن عكية بن الخرع:
فــأَبــلِغ رِيَــاحــًا عَــلى نَــأيِهــا ** وأَبــلِغ بَــنِــي دَارِمٍ وَالجِــمَــارا
وأَبـــلِغ قَـــبَــائِلَ لَم يَــشــهَــدُوا ** طَــحـا بِهِـمُ الأَمـرُ ثُـمَّ اسـتَـدارا
غَــزَونــا العَــدُوَّ بِــأَبــيــاتِــنَــا ** وَراعـي حَـنِـيـفَـة يَـرعَـى الصَّغـَارا.



شاهد عيان



كانت حدود أراضي القبيلة، لا سيما في حالات الاستقرار الطويل، متعارف عليها ما بين أفرادها وما بين القبائل، ولم يهتم البدوي بما يدور وراء الأفق (عنت كلمة أفق في حينه "ما ليس من أرضنا"). في هذا الأفق المحدود زمانيًا ومكانيًا شاركت الجماعة التي تربطها أواصر الدم عادة كلها في الحدث، أو نتائجه (كالأخذ بالثأر، النزاع، الغارة، التحالف...). وكان معظم أعضائها يعتبرون بدرجة متساوية حملةً لكل المعلومات التاريخية، عمليًا لم يحتج المجتمع القبلي غير الطبقي(5) إلى مهنة المؤرخ الخاصة، انعكس ذلك على شكل استرجاع المعلومات، فلم تكن هنالك حاجة للحديث عن الحدث نفسه، بتفاصيله على الأقل، حيث يعرفها الجميع، بل انحصرت المهمة في تنظيم المعلومات وإدراكها وتقييمها، وهي مهمة تولاها الزعماء والأطباء والشعراء والكهنة، وفي ما بعد، الرواة منشدو وجامعو الأشعار. لم تكن هنالك أي ميزة خاصة لشاهد العيان طالما كان الجميع شهودًا.




يتغير هذا الوضع جذريًا عند الانتقال إلى المجتمع الطبقي الذي تعمّق بظهور الرابطة الإسلامية ودولة الخلافة، اللتين وحدتا قبائل شبه الجزيرة العربية، وضمّتا إليهما الشعوب المغلوبة، فلم تعد جماعة الدم هنا تلعب دور الشخصية التاريخية، بل الرابطة الإسلامية التي تضم مئات ومئات الألوف من الأشخاص، وتمتد عير مساحات شاسعة، ولم تعد الضرورات العامة هي التي تحدد أهدافها ونشاطها، بل مقاصد والمصالح المتنوعة للفئة الضيقة للأوساط الحاكمة، وغالبًا غدت تلك المصالح غير مفهومة، أو معروفة، من قبل غالبية أعضاء الرابطة، هنا ينخفض عدد المشاركين في الحدث التاريخي، أو شهوده بالنسبة لعدد أعضاء الرابطة الإسلامية، إلى درجة احتيج معها إلى فئة خاصة من الشخصيات لتثبيت ونقل ونشر المعلومات وهم المؤرخون. ومع بدايات التاريخ في الإسلام يظهر مفهوم ومصطلح خاصان بالشاهد العياني الذي يقوم بوظيفة مرجع للمعلومات (الشاهد)، فباتساع الرقعة الثقافية التاريخية، ولما بات بإمكان قسم صغير من المجتمع فقط أن يشارك في الحدث، فإن شاهد العيان قد حاز على أهمية كبيرة بشكل غير عادي وغير مسبوق لتشكيل المعرفة التاريخية، ولإخبار الناس عما جرى سابقًا، أيضًا في خضم الحاجة لمزيد من شهود المعارك مقاتلين فيها دعمًا لاقتصاد الفتح وتحقيقًا لغايات ومصالح الطبقات المستفيدة منه اقتصاديًا، سيظهر مفهوم خاص لهذا الشاهد. الأهم هنا هو المضمون والدلالة الاجتماعية لهذه الكلمة، لا اشتقاقها اللغوي المحصور في المعاجم، سواء رأت تلك المعاجم أن الشهيد سمي كذلك لأن الملائكة تشهده، أو لأنه يسقط أرضًا والأرض هي الشاهدة.



اقتصاد الفتح الإسلامي
يذهب يوليوس فلهاوزن إلى أن الفقه قد حضر، في نطاق القانون الخاص، من دون إمكان بلوغ القانون العام (نظام الحكم والعلاقة بين الحاكم والمحكوم)، لذلك لم يخل إسلام الوحي فقط من نظرية في الحكم، بل أيضًا إسلام التاريخ، فكان تأثير الواقع الاقتصادي على توجهات الفقه أكثر بكثير مما استطاع الفقه أن ينظّر لنظام اقتصادي إسلامي، لا سيما وأن الشريعة نزلت مكتملة، ولم تكن مهمة الفقيه وضع القوانين، بل تأويل النصوص وتفسيرها وتطبيقها في الوقائع المحددة (مثلًا: كان الأرقّاء جزءًا من العملية الإنتاجية، بوصفهم قوى إنتاج، وقد خدم أعداد كبيرة منهم الأسر الغنية، لذا نشأ فقه النخاسة الذي نظم الرق ولم يلغِه).
انخرط المهاجرة العرب في النظام الاقتصادي الجديد؛ اقتصاد الفتح، بوصفهم مقاتلين محترفين، تمتعوا بالعضوية الكاملة التي كفلها لهم سجل المواطنة، وهو في حينه ديوان الجند، بينما كان الباقون مواطنين من الدرجة الثانية. هؤلاء المهاجرة الذين سكنوا بداية المدن المعسكرات (مثل: البصرة، الكوفة والفسطاط...)، وامتلك القادة والعسكريون من ذوي الرواتب الضخمة وسائل دخل إضافية مختلفة، وأصبحوا كبار ملاك الأراضي والحانات والبيوت والدكاكين والحمامات، مع أن ممثلي السلالات الحاكمة لم يكونوا يتنازلون لهم دائمًا، إذ استولوا على الممتلكات غير المنقولة في جميع مدن الخلافة المؤسسة حديثًا.
ومع اقتصاد الفتح، تراجعت الشعائر الدينية إلى مرتبة ثانية بعد الجهاد، الأخير كان استثمارًا رابحًا دينيًا ودنيويًا، طالما تراوح الخيار دائمًا بين الجنة والغنيمة، وانتشرت المرويات التي تمجّد الجهاد في سبيل الله، وسمّي القتلى في ظل هذا الاستثمار الاقتصادي بالشهداء الذين أسهبت كتب الفقه في الحديث عن منازلهم ودرجاتهم وأنواعهم. لم يشهد هؤلاء المعارك لنقل الخبر، بل للنصر والغنيمة، وتحقيق غايات الطبقة العسكرية ـ التجارية المسيطرة باسم إعلاء كلمة الله، من غير ضمانات أكيدة سوى وعود بالتعويض في حياة أخرى. تضمنت "الشهادة" حكم قيمة، ربما منذ أن تم الإقرار بما روي عن النبي من أنه أعلن بعد معركة أحد، مخاطبًا أعداء الدعوة الإسلامية: "قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار".



من الجهاد إلى الكسب
تحولت المدن المعسكرات إلى مدن عادية، وبدأت الدولة القوية توفّر حياة هادئة لسكان المدينة، لكن الثروة استمرت في التراكم بين يدي دائرة ضيقة، وكان ذلك، دائمًا، سببًا للثورات والتمردات منذ عهد عثمان بن عفان. أهملت مؤلفات تلك العصور الفقراء والمعدمين، الذين غصّ بهم قاع المدينة، ولعلهم تمنوا أن يكونوا عبيدًا ينعمون بالمأوى في أملاك أسيادهم. على العكس، وصفتهم تلك المؤلفات بالرعاع والجهلة والسفلة، واستمرت مضاربات التجّار واحتكاراتهم في التحكم بالأسعار في ظل الدولة الإسلامية، لا سيما مع تراخي نظام الحسبة (الرقابة).




وتذكر كتب التراث أنه حين حاول المأمون العباسي الاستجابة لشكاوى البغداديين من أطماع التجّار بتوسيع مكيال القمح (قفير) بمقدار الرُبع، أضاف التجار إلى السعر فرق الكمّية. محمد بن الحسن الشيباني (ما بين القرنين 8 و 9 م) هاجم نظرية الاتكال على الله وأصحابها من زهاد ومتصوفين، التي طوروها في ظل انسداد الأفق اجتماعيًا واقتصاديًا، ويؤسس في كتابه "الاكتساب" لمفهوم الكسب، أي العمل القائم على النشاط التجاري والحرفي والمتأتي من جهد المرء، وهو ليس فريضة دينية فقط، بل أمر يثاب عليه العبد في الآخرة، وأمام فريضة الكسب تتراجع فريضة الجهاد، فينقل عن عمر بن الخطاب قولَه "لأن أموت بين شعبتي رحلي أضرب الأرض أبتغي من فضل الله، أحبّ إليّ من أن أقتل مجاهدًا في سبيل الله". الأسواق بحسب الشيباني هي "موائد الله"، والفقير مذنب لتقاعسه عن أن ينهل من هذه الموائد. عبّر الشيباني، بوصفه نموذجًا غير وحيد ضمن منظري تلك الفترة (حذا آخرون حذوه، ومنهم الجاحظ)، عن التوجهات الجديدة لاقتصاد أهل المدينة. ويبدو أنه حتى خلال الحروب الصليبية نظر المسلمون إليها كمناوشات حدودية، ولم يتعاملوا معها بوصفها "حربًا دينية مقدسة".



خاتمة
لم يعرف عرب ما قبل الإسلام، ولا حتى إسلام الوحي، مصطلح "الشهادة" بمعناه الذي كرّسه فقهيًا إسلام التاريخ في إحدى مراحله، ليعني موتًا في سبيل إعلاء كلمة الله، لتستقر الشهادة اليوم في أدبيات حركات الإسلام السياسي بوصفها قيمة سياسية دينية، ارتبطت بمفهوم "الفريضة الغائبة" (الجهاد) التي أتت تتويجًا لأدبيات "التكفير" و"الحاكمية"، التي كان سيد قطب أهم من نظّر لها عربيًا خلال النصف الثاني من القرن الماضي. وأصبحت اليوم مع تكاثر حركات السلفية الجهادية السنّية وميليشيات "الشهداء" الشيعية، في ظل تفكك دول العالم العربي، سلاحًا أيديولوجيًا كلٌّ يدعي بها وصلًا وينفيها عن غيره. وفي خضمّ معارك يدعي أصحابها احتكارهم لكلمة الله التي يريدونها عليا، لم تفرق بين صديق وعدو، وبين أخيار وأشرار، وبين عسكر ومدنيين. الجميع باتوا ضحايا جنون القتل والأيديولوجيا.




يقال إن الضابط المكلّف بتنفيذ حكم الإعدام بسيد قطب سأله قبيل إعدامه: من هو الشهيد؟ فرد عليه قطب: "هو من شهد أن شرع الله أغلى من حياته"، وحين دعاه أحد رجال الأزهر لكي يردد وراءه "لا إله إلا الله"، رد عليه قطب: "وهل جئتُ هنا إلا من أجلها". منذ اليونان، كانت الشهادة موقفًا فرديًا يختاره المؤمن بقضية ما (سقراط مثلًا)، وليس بوسعك إلا أن تقف إجلالًا لهذا الخيار الشخصي، لكن أن تصبح الشهادة أيديولوجيا بيد الشعبويات الدينية والوطنية، تحتكر الحق والحقيقة، فتلك أزمة عابرة للشعوب لا تزال مستمرة.



هوامش:
(1) هذه الآية نزلت بمناسبة محددة أريد بها شد عزيمة المسلمين، بعد هزيمة مريرة في معركة أحد.
(2) أستعمل كلمة "جاهلي"، أو أنقلها هنا، بوصفها حكم وجود وتعبيرًا عن مرحلة زمنية تاريخية، لا بوصفها تعبيرًا عن حكم قيمة يستهدف إدانة تلك المرحلة دينيًا وأخلاقيًا، الأمر الذي كرّسته الأيديولوجيا الإسلامية.
(3) انطلقت الدعوة النبوية في مكة حوالي العام 610 م.
(4) سقطت الدولة الحميرية الثانية عام 525 م. وتذهب المصادر التاريخية إلى أن عهد الدولة الحميرية الثانية بدأ حوالي عام 300 م، عندما توسع سلطان مملكة (سبأ وذو ريدان) إلى أقاليم أخرى في بلاد العرب الجنوبية، لتشمل حضرموت ونصفها الجنوبي (يمنات). ويعتقد الإخباريون والمؤرخون العرب الأوائل أنهم "قوم تبّع" الذين أشار إليهم القرآن.
(5) ستظهر بوادر هذا الانقسام الطبقي في مكة، على أعتاب البعثة المحمدية (610 م)، أفقيًا؛ بين قريش البطاح الذين سيطروا على الحج والتجارة وكانوا أكثر تمدنًا، وبين قريش الظواهر الذين كانوا أنصاف رحّل اعتمدوا على الرعي، وربما أغاروا على القوافل، وعموديًا؛ ضمن قريش البطاح، بين رؤساء دار الندوة (الملأ) والعامّة.


إحالات:
ـ حسين مروة، النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، ج1، ط 6 (بيروت: دار الفارابي، 1988).
ـ أحمد أمين، فجر الإسلام، ط 8 (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، 1961).
ـ مجموعة من المستشرقين السوفييت، دراسات في تاريخ الثقافة العربية: القرون 5 ـ 15، (موسكو: دار التقدم، 1989).
ـ يوليوس فلهاوزن، تاريخ الدولة العربية من ظهور الإسلام إلى نهاية الدولة الأموية، محمد عبد الهادي أبو ريدة (مترجمًا)، (القاهرة: المجلس القومي للترجمة، 2009).
ـ شوقي ضيف، العصر الجاهلي، ط 4 (القاهرة: دار المعارف، من دون تاريخ).

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.