}

"المستبدّ العادل".. وهم شعبوي

حسام أبو حامد حسام أبو حامد 8 أغسطس 2021
آراء "المستبدّ العادل".. وهم شعبوي
(الجزيرة)
الديمقراطية بوصفها نظامًا سياسيًا، لا تزال مفهومًا مستجدًا عربيًا، إن على صعيد الوعي الجمعي، أو على صعيد الممارسة العملية، إذ احتكرت النخب العربية الحاكمة، عقودًا، المجال العام، وأعاقت المشاركة السياسية، بعد أن قضت على تجارب ديمقراطية توافرت في ظل الانتداب، وبعيد الاستقلال. وحين اضطرت تلك النخب إلى إحداث تحولات ديمقراطية، حرصت على أن تكون تحولات شكلية لا تتعدى صناديق الاقتراع، مع ضمان الحفاظ على استئثارها بالسلطة والثروة. استحالت ثورات الربيع العربي إلى حروب أهلية (سورية، اليمن، ليبيا)، أو وقعت، بعد نجاح جزئي، في براثن الثورات المضادة (مصر، السودان)، أما الاستثناء التونسي فيبدو اليوم قفزة في مجهول، بعد انقلاب قيس سعيّد غير الدستوري على التحولات الديمقراطية في تونس، مع محيط استبدادي له كل المصلحة في إحباط المشروع الديمقراطي التونسي. انقلب سعيّد على دستور شارك في صياغته، وأقسم على الولاء له واحترامه، وظلّ ينتقد بشدّة النظام الذي أفرز هذا الدستور، ومنظومة الأحزاب في الساحة السياسية، والنظام البرلماني، مروّجًا، وغيره من قوى سياسية، لعودة النظام الرئاسي سبيلًا لكبح الإسلاميين، وفرض القانون، وتوفير الرفاه الاقتصادي والاجتماعي الشامل.

الرئيس التونسي قيس سعيّد يلقي كلمة بعد أداء اليمين الدستورية في قصر قرطاج قرب العاصمة تونس (27/ 2/ 2020/فرانس برس)


الاستقطاب السياسي الحاد، وانعدام الثقة في المؤسسة السياسية، أضحت مظاهر شعبوية مألوفة حول العالم، لكنها أتت ثمارها بشكل خاص في تونس، بوصفها عدوًا لديمقراطيتها الهشّة. كان إذكاء نار الشعبوية أكثر إغراءً من التعامل مع خيارات سياسية معقدة، لم يجد معها الفرقاء السياسيون إجماعًا. وكان الانتصار الأخير لتلك الشعبوية تعبيرًا عن أزمة الديمقراطية التمثيلية، وأزمة النخب، التي كانت إخفاقاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية أكثر وضوحًا مع انتشار الفساد، وسط جائحة COVID-19، الذي قضى على المكاسب التي حققتها صناعة السياحة في عام 2019، وزاد من نسب البطالة بين الشباب (17.8 %خلال الثلث الأول من 2021)، مما غذَّى الخطاب الشعبوي القائم على معارضة الشعب بالنخب، وركب سعيّد موجة غضب شعبي موجهة إلى نخبة سياسية فشلت على مدار سنوات في حصد ثمار الديمقراطية اجتماعيًا واقتصاديًا. الانتخابات الرئاسية والتشريعية في العام 2019، سمحت ببروز الظاهرة الشعبوية، حين أتاحت للقوى الشعبوية الوصول إلى مراكز صنع القرار على المستويين التشريعي والتنفيذي. مع تقارب النتائج في الانتخابيّة التشريعية، ساد خطاب "طغيان الجدارة"، وأتاحت الميريتوقراطية، بحسب ميشال ساندل، للرابحين أن ينظرا إلى مواقعهم في السلطة بوصفه فوزًا مستحقًا، وحمّلت الخاسرين المسؤولية عن مصيرهم، ليقدم كل طرف سياسي نفسه ناطقًا باسم الشعب، ووصيًّا عليه، لتبدو الـ"نحن" مخلّصًا للشعب من هيمنة الـ"هم". في ظل هذه الأجواء الشعبوية، صعدت في تونس قوى رجعية بنوستالجيا تسعى إلى العودة إلى الماضي الاستبدادي لحكم الرجل الواحد، بديلًا من التعددية والتوافق في إطار نظام ديمقراطي. وهنا يبدو قيس سعيّد بالنسبة لأنصاره، ومؤيدي انقلابه، ذلك "المستبدّ العادل" القادر على إنقاذ تونس من مأزقها الحالي.




هل يمكن الجمع بين العدل والاستبداد؟ وهل الشعوب العربية لا تزال غير مهيأة لديمقراطية تتأتى نتيجة تغييرات راديكالية سريعة؟ وهل هي في حاجة إلى تلك المرحلة الانتقالية التي عنوانها المستبد العادل؟



الاستبداد والعدل في التراث الغربي

توماس هوبز وكتابه "ليفياثان: مسألة الكومنولث الديني والمدني وشكله وقوته"


في كتابه "ليفياثان: مسألة الكومنولث الديني والمدني وشكله وقوته" (1652)، نظّر توماس هوبز لـ"المستبدّ العادل" (من دون أن يستخدم هذا التعبير). فلما كان الإنسان أناني بطبعه، والإنسان ذئب لأخيه الإنسان، كما بدت طبيعته عند هوبز، فإن وقاية المجتمع، وحماية الناس من دورة العنف المتبادل تقتضي وجود حاكم فرد قوي، حتى لو كان فتكه أشد ضراوة من "ليفياثان"، ذلك الوحش الخرافي. هكذا يتابع هوبز ما أسس له، قبله، جان بودان، في كتابه "كتب الجمهورية الستة" (1576).
استمر بعضهم في البحث عن مستبد عادل، فوجده فولتير تارة في فريدريك الثاني ملك ألمانيا، قبل أن يتبين له لاحقًا أنه مستبد غير عادل، ليجده تارة أخرى في بطرس الأكبر قيصر روسيا. مع جون لوك وروسو وكانط، وآخرين، بدا الفكر الليبرالي، في إحدى لحظات تطوره، مقتنعًا أنه رغم نجاح مستبدين، سياسيًا واجتماعيًا، إلا أنه ينبغي التفريق بين الإنجاز والعدل، الأخير لا يمكن أن يجتمع مع الاستبداد، ولابد عند لوك من عقد اجتماعي يتيح للسلطة احتكار وسائل القوة المادية لإدارة المجتمع، من دون أن يكون لها الحق في مصادرة الإرادة الشعبية، وتقييد الحقوق الطبيعية، وعلى رأسها حق التملك.



المستبدّ العادل: التراث العربي الإسلامي
بعد أن تخلى الغرب عن أي أمل في إمكانية الجمع بين العدل والاستبداد، ظلت تلك الفكرة تطل من حين لآخر شرقًا. هنا يذهب محمد عابد الجابري إلى أنه لم يكن لـ"الاستبداد" في التراث العربي الإسلامي ذلك المضمون السلبي الذي تضمنه المرجعية الغربية، ولا يتقارب معه بشكل من الأشكال، فقد كان مضمون "الاستبداد" في القاموس العربي الإسلامي "يعني الحزم وعدم التردد في اتخاذ القرار وتنفيذه"، ومن هنا جاءت تلك العبارة الشهيرة: "إنما العاجز من لا يستبد"، وهذا هو معنى الاستبداد في المرجعية العربية مقرونًا بـ"العدل". فالعدل يفقد مضمونه مع العجز عن تطبيقه، أما الاستبداد من دون عدل فكان له اسم آخر في المرجعية العربية، وهو "الطغيان"؛ "اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى". أما مفهوم "المستبدّ العادل"، كنموذج للحكم الصالح، فيحيل إلى السيرة التي عرفت عن الخليفة عمر بالخطاب في الحكم، والمتميزة بـ"الحزم"، و"العدل".

محمد عابد الجابري 


يبحث الجابري عن مرجعيات لفكرة المستبد العادل في التراث الإسلامي، وأول مرجعية تفرض نفسها من بين مرجعيات متعددة للتراث الإسلامي هي المرجعية الفارسية. وكما شيّدت الأدبيات الفارسية التي راجت في العصرين الأموي والعباسي نموذج "المستبد الضروري للدين"، من خلال صورة أردشير الملقب بـ"الموحد"، لكونه وحّد الدين والأمة في فارس، شيدت تلك الأدبيات نفسها نموذج "العادل الضروري للدنيا"، من خلال صورة كسرى أنو شروان الملقب بـ"العادل"، لكونه ألغى القرارات والتدابير التي اتخذها سلفه بتأثير من المزدكية ذات النزعة "الشيوعية".




ويعتقد الجابري أن الموروث اليوناني قد كرّس النموذج نفسه، وإن بدائرة أضيق، من خلال الترجمات والمختصرات والمؤلفات التي تحدثت عن "جمهورية أفلاطون"، الذي انتهى إلى أن رئيس المدينة الفاضلة لابد أن يكون فيلسوفًا، أي بتحليل الجابري، جامعًا بين الفلسفة النظرية الهادفة إلى المعرفة، والفلسفة العملية التي تتلخص في حسن التدبير، ويجد أن الفارابي يقرأ هذا النموذج اليوناني من خلال النموذجين العربي الإسلامي المحض، الذي يمثله هذه المرة النبي (ص)، والنموذج الفارسي الذي يمثله "الإمام"، الذي يحيل إلى "أردشير"، صاحب "المدينة الإمامية" التي جمعت بين الملك والدين، والتي من خلالها تتحقق المدينة الفاضلة واقعيًا، فاشترط أن يكون رئيسها نبيًا، أو فيلسوفًا، وإذا لم يوجد أي منهما فمن الممكن قيام "مدينة إمامية" قريبة من "الفاضلة" يرأسها "إمام" يتولى الإمامة الدينية التي تجعل الإمامة السياسية إمامة عادلة.



المستبدّ العادل: الأفغاني وعبده

جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده


هاجم الأفغاني وعبده الاستبداد من حيث هو طغيان، فذهب الأفغاني إلى أن الأمة التي ليس في شؤونها حل ولا عقد هي أمة لا تثبت على حال واحد، ولا ينضبط لها سير. لكنه، أيضًا، رأى أنه لتحيا مصر، والشرق بدوله، وإماراته، لابد من رجل قوي عادل يحكم على غير تفرد بالقوة والسلطان. بدا له أن السلطان عبدالحميد الثاني هو ذلك الرجل، والأمل في بناء دولة إسلامية تحرر الإسلام، وترتقي به في وجه الغرب، الذي أدرك الأفغاني ما فيه من قوة استعمارية تمددت حديثًا للاستيلاء على الشرق الإسلامي. ورفض محمد عبده الراديكالية والانقلابية التي تعتقد أنها بمجرد تغييرها للمراسيم القانونية قادرة على تغيير المجتمع وإصلاحه، معتقدًا أن التربية الإسلامية هي الطريق إلى إصلاح الأوضاع السياسية، وقد بنى على هذه الرؤية نظرته التي تجعل من تكوين الرأي العام، وتقدم تربيته، حجر الزاوية في العمل السياسي من أجل التغيير، ووجد أن أفضل القوانين وأعظمها فائدة هو القانون الصادر عن رأي الأمة العام (الشورى).




لكنه بعد أن اعتنى بتمييز بين ما للحكومة من حق الطاعة على الشعب، وما للشعب من حق العدالة على الحكومة، منظرًا للسلطة بوصفها عقدًا اجتماعيًا بين الحاكم والمحكوم، في ظل مجموعة من الحقوق والواجبات المتبادلة تحقيقًا للتوازن بينهما، ودرءًا للاستبداد والطغيان، ووسيلة لنهضة مصر بين الأمم، اتجه الى المناداة بنظام "المستبد العادل"، خصوصًا بعد هزيمة الثورة العُرابية، وخضوع مصر للاحتلال الإنكليزي، ليبدو له أن التمثيل النيابي في الظروف التي آلت اليها الأحوال مجرد وهم سياسي، وأن الواقعية تقتضي "مستبدٌ يُكره المتناكرين على التعارف، وُيلجئ الناس إلى التراحم، ويُقهر الجيران على التناصف، ويحمل الناس على رأيه في منافعهم بالرهبة، إن لم يحملوا أنفسهم على ما فيه سعادتهم بالرغبة، ويكفى هذا المستبد خمس عشرة سنة يُثنى فيها أعناق الكبار إلى ما هو خير لهم ولأعقابهم، ويعالج ما اعتلَّ من طباعهم بأنجح أنواع العلاج". لقد ظنّ أنه خلال هذه المدة (خمس عشر سنة) يمكن للمستبد فعل الأعاجيب دافعًا الأمة في معراج التقدم والرقي الذي قد يحتاج قرونًا.
وفي محاولة منه للجمع بين نقيضين، ذهب محمد عبده إلى أن هذا المستبد ليس مستبدًا بإطلاق، بل هو عادل أيضًا؛ هو مستبد في انفراده بإدارة شؤون الدولة، وتنفيذ إصلاحاتها، وعادل لخضوعه لقانون الدولة، وسعيه إلى إعلاء مصلحة البلاد على مصلحته الشخصية، وعمله على تحقيق ترابط الأمة، حتى لو استخدم القوة جامعًا في شخصه في تلك الظروف الاستثنائية السلطات التشريعية والتنفيذية، لكن بعد استقرار النظام فلا يعود هناك أخطار تهدده يمكن لهذا "المستبد العادل" أن يبيح للشعب قدرًا من الحرية، يزيد مع الأيام، نحو تمثيل الشعب في المجالس البلدية.




يصح هنا القول مع الجابري أن الشورى، في هذا التراث، تبرز بديلًا للديمقراطية بالمعنى الغربي للكلمة، والحجة الصريحة، أو الضمنية، التي يصدر عنها أصحاب هذا الموقف، تتلخص في أن الديمقراطية تكمن كلها في اختيار من يصلح للحكم. والذي يصلح للحكم، في نظرهم، ليس بالضرورة من يختاره عموم الناس، فالناس لا يختارون الأصلح دائمًا، ومن هنا كان معنى "الشورى" هو اختيار "أهل الحل والعقد"، من العلماء وغيرهم، ممن يتبعهم جمهور الناس وينقادون لهم.



إصلاح إسلامي أم نزعة إصلاحية؟

الدكتور عزمي بشارة وكتابه "في المسألة العربية.. مقدمة لبيان ديمقراطي عربي" 


في كتابه "في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي عربي" (2007) يدعو المفكر العربي عزمي بشارة إلى عدم الخلط بين حركة الإصلاح الإسلامي، وبين النزعة الإصلاحية الديمقراطية والليبرالية، فرموز حركة الإصلاح عادوا النظام البرلماني والتعددية الحزبية، وقوفًا مع نظام الخلافة وتطبيق الشريعة، فأيّد محمد عبده علنًا، وبوضوح، نمط حكم "المستبدّ العادل"، ودافع الطهطاوي عن حكم محمد علي، وخير الدين التونسي عن التنظيمات، ويرى أنه مقارنة بالكواكبي (من الاستبداد والشورى الديمقراطية)، يبدو الأخير أكثر نضجًا.




صحيح أن هؤلاء الإصلاحيين الإسلاميين نقدوا الاستبداد، لكن هل يؤسس نقد الاستبداد للديمقراطية بالضرورة؟ بالنسبة لبشارة، فإن نقد الطغيان في حد ذاته لا ينجب ديمقراطية، فليست الديمقراطية عكس الطغيان، لا فلسفيًا، ولا في التجربة التاريخية، ولا حتى في أذهان الناس، وإذا كان نقد الطغيان، وعبثية تعدد القوى غير الديمقراطية، في عصرنا، ينتج توقًا للمستبد العادل، فإن لهذا التوق جذور عميقة حتى في التطلعات إلى الإصلاح في القرون الماضية، لكن في عصرنا يجب الحذر من العودة إلى فكرة "المستبدّ العادل"، التي اتضحت حدودها بعد قرون. المعارضة، في رأيه، ونقد الاستبداد، لا تفرزان الديمقراطية عفويًا، وإنما ينبغي تنظيم القوى الديمقراطية لكي تطرح برنامجًا ومشروعًا ديمقراطيًا بديلًا للاديمقراطية، ولتعددية القوى غير الديمقراطية على حد سواء.



استبداد الفرد والتعددية المستبدة
في موقف استشرافي يفسّر بشارة، في كتابه المذكور، نفور الناس من الأحزاب السياسية التعددية، ووقوفهم من السياسة موقفًا لا مباليًا، يرون فيها لعبة مصالح وصراعًا على الكرسي (يصح هذا في الحالة التونسية) لصالح ارتدادهم للزعيم الملهم، أو المستبد العادل. ويرى أن منشأ ذلك هو صعوبة الاتفاق على طريق التحول الديمقراطي، أو حتى الاهتداء إليه في ظل انقسام النخب المتنافسة، ليس فقط إلى بقايا أرستقراطية محافظة مقابل قوى تحديثية، كما كانت الحال في الماضي، بل إلى قوى احتجاج متنوعة لا تطرح برامجًا ولا مشروعات للبلد، وقلّة من هذه القوى تقصد الديمقراطية، أو مستعدة لتحمّل نتائجها، فهي تتمسك بالديمقراطية وهي في المعارضة مطلبًا سجاليًا ضد السلطة. هنا، يصعب على المواطن الحكم على الصحيح والخطأ، إذ تتشابه كافة القوى السياسية في كونها أطرافًا من دون مشاريع في صراع على هذه السلطة، لتبدو التعددية نفسها مستبدّة استبدادًا غير عاقل، وغير مستقر، مقارنة باستبداد الفرد، ليتوق المواطنون إلى نظام قوي وعادل حتى لو لم يكن ديمقراطيًا عبر نوستالجيا لفترات، رغم نواقصها، تصبح أمثولة، أو أسطورة للسياسة المختلفة، مقابل تعاسة الوضع القائم؛ فترة عبد الناصر، مثلًا، أو بورقيبة، أو بومدين، وغيرهم من مؤسسي جمهوريات ما بعد الاستقلال.



خاتمة
فكرة "المستبدّ العادل"، إن افترضنا وجودًا لها في مرحلة تاريخية ما، تترك العدل للصدفة، وتجعل للاستبداد مستقبلًا. لقد أراد حزم عمر بن الخطاب (رفض لقب خليفة وأصر على لقب أمير المؤمنين)، الذي يجسد لكثيرين نموذج "المستبدّ العادل"، أن يؤمّن إجماع المسلمين، من بعده، على حاكم يصلح به حالهم، ويحافظ على مكتسباتهم التي تحققت خلال عقدين من دولة المدينة، في شورى فريدة، إن لم تكن عجيبة، تنقلها لنا المصادر التراثية، وواحدها تاريخ الطبري، إذ أمر ابن الخطاب بتشكيل مجلس شورى من ستة أشخاص عيّنهم بنفسه، وهم: علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف.




جَمَعَ هؤلاء في بيت، اختلفت الروايات في تحديده (بيت المال، أو بيت المسور بن مخرمة، أو بيت عائشة زوج النبي) تحت حصار مشدد من خمسين مسلحًا من الأنصار، يشرف عليهم أبو طلحة الأنصاري، والمقداد بن الأسود، وصهيب بن سنان (صهيب الرومي)، وأمر صهيبًا أن يصلي بالناس ثلاثة أيام، هي المهلة لهؤلاء الستة لحسم أمر خليفة أمير المؤمنين، وأن يقف على رؤوس هؤلاء وهم يتداولون الأمر في ما بينهم هم، وقال له "إن اجتمع خمسة ورضوا رجلًا، وأبى واحد فاشدخ رأسه، أو اضرب رأسه بالسيف، وإن اتفق أربعة فرفضوا رجلًا منهم وأبى اثنان، فاضرب رؤوسهما، فإن رضي ثلاثة رجلًا منهم وثلاثة رجلًا منهم، فحكّموا عبد الله بن عمر فأي الفريقين حكموا له فليختاروا رجلًا منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، واقتلوا الباقين ان رغبوا في ما اجتمع عليه الناس" (ص 715 وما بعدها). بعد رحيل عمر، دخل المسلمون في نزاع على السلطة، وحروب أهلية لا تزال مستمرة حتى اليوم في غياب الديمقراطية ودولة الحداثة.
المستبد العادل هو أحد الأوهام التي تروج لها الشعبوية اليوم في معرض عدائها للديمقراطية. لقد رحل بورقيبة، وعبد الناصر، وبومدين، ومحمد علي، والسلطان عبدالحميد، وغيرهم من أُشخاص روّج لهم بوصفهم نماذج عن "المستبد العادل". لم يتحقق العدل، وبقيت بنى الاستبداد أكثر رسوخًا، فقد أسهم نموذج "المستبدّ العادل"، الذي تسرب إلى اللاشعور السياسي، بحدود قليلة أو كثيرة، بحسب الجابري، في غياب الديمقراطية. على الأقل، من حيث إنه يقدم بديلًا عنها يعتبره أفضل منها. ولكن بما أن هذا البديل النموذج قد بقي ومازال مجرد نموذج، مجرد مطلب، فالبديل الواقعي القائم دومًا هو شيء آخر غير "الاستبداد المقيد بالعدل"!، إنه "الاستبداد المطلق" الذي هو نقيض الديمقراطية.



إحالات:
1 عزمي بشارة، في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي عربي، ط1، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2007).
2 محمد عابد الجابري، المستبدّ العادل.. بديلًا للديمقراطية، موقع محمد عابد الجابري على الإنترنت: https://bit.ly/3jywAYy
3 إمام عبد الفتاح إمام، كتاب "الطاغية.. دراسة فلسفية لصور الاستبداد السياسي"، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، العدد 183/ 1994.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.