}

الترجمة المضلِّلة.. عن سندريلا والنبي إبراهيم وثُقب السيّد المسيح

صقر أبو فخر صقر أبو فخر 1 سبتمبر 2021
آراء الترجمة المضلِّلة.. عن سندريلا والنبي إبراهيم وثُقب السيّد المسيح
(Tim Noble and Sue Webster)

في أوائل سبعينيات القرن المنصرم، إبان الدراسة الجامعية، كان بيننا نفر من الأصدقاء نشطوا في ميدان ترجمة النصوص الماركسية الثورية الجديدة إلى العربية أمثال محمد كبة الذي ترجم نصوص لينين عن الدين علاوة على كتاب كارل كورش، وعلي رضا الذي نقل بعض مقالات كارل ماركس من الجريدة الرينانية الجديدة، وأسامة حامد (شيخ الجبل) الذي ترجم كتاب "استمع أيها الصغير" لولهلم رايش، ومحمد شعيرات الذي ترجم مجموعة من المقالات التي تنتقد كتاب "ما العمل؟" للينين كتبها إكزلرود وروزا لوكسمبورغ وبليخانوف ومارتوف وتروتسكي. وكان الشائع بيننا آنذاك أن الترجمة وسيلة لا غنى عنها لنقل الفكر الثوري الأممي إلى العربية، ولكسب ما يعيننا على نفقاتنا الدراسية والمعيشية. أما أنا فقد خضعت لاحقًا لاتفاق مع الدكتور بشير الداعوق، مؤسس دار الطليعة في بيروت، الذي قال لي مرة حين شاهدني أحمل مجموعة من كتب الدار من غير أن أدفع ثمنها: ما رأيك أن نتفق على ما يلي: تأخذ الكتاب الذي تريده مجانًا، ثم تكتب مقالة عنه تشتم المؤلف فيها، وتتقاضى المكافأة من الجريدة أو المجلة التي ستنشر المقالة؟ ووافقت. وهكذا بدأت رحلة الكتابة، فكنتُ أنتقي الكتب المعادية للماركسية الثورية ولليسار الجديد وللنضال الفلسطيني، ونفتك بالمؤلفين، ونفرح حين نقرأ أسماءنا تذيّل المقالات، ونفرح أكثر عندما نتقاضى 50 ليرة (15 دولارًا آنذاك) وهي المكافأة المعتادة لكل مقالة.

في تلك الفترة نشرتْ مجلة إنكاونتر المشهورة مقالة لزبيغنيو بريجنسكي عن أميركا والعصر التكنتروني، وكنا نعتقد أن اسمه يلفظ برزيزنسكي، فاقترح أحد الأصدقاء أن أترجم تلك المقالة إلى العربية، ثم ننشرها في مجلة "دراسات عربية"، فشرعتُ في ترجمة المقالة على الفور. وبعد جهد دام نحو عشرة أيام، فتحتُ في أثنائها قاموس المورد نحو 500 مرة، جاءت الترجمة سُختم بُختم، أي طلاسم فوق طلاسم، وغير مفهومة مثل حروف القلقلة إذا اجتمعت، أو مثل ترجمة غوغل في بداياتها. ومنذ ذلك الوقت وأنا أتهيب الترجمة، وأنظر شزرًا إلى مَن يتنطح لهذه المهمة وهو لا يجيدها. ولعل نصيبي من ذلك أنني "تخصصتُ" في كشف أغلاط المترجمين وفضح جهالتهم واستلشاقهم بالدقة العلمية. وفي أي حال، ظهر في ما بعد كتاب بريجنسكي بعنوان: بين عصرين: أميركا والعصر التكنتروني، ترجمه صديقنا المناضل الراحل محجوب عمر، وصدر عن دار الطليعة في سنة 1980، ولعل مقالة مجلة إنكاونتر كانت تلخيصًا له.

الصحيح هو سمعان القوريني لا القيرواني، نسبة إلى قورينا في الجبل الأخضر في ليبيا من أعمال برقة وتدعى عين شباط أو شحات، وهي من أجمل المدن الإغريقية 



مُضحكات المترجمين

ما برح معظم المترجمين المصريين يترجمون كلمة Negev إلى النجف في جنوب فلسطين. ولضحالة معارفهم وعدم درايتهم لا ينتبهون إلى أن النجف في العراق لا في فلسطين، وأن Negev هي النقب لا النجف. وعلى هذا المنوال يترجمون Gericho إلى جرش وهي أريحا، وcicilia  إلى سيليزيا وهي كيليكيا التي انتزعتها تركيا من الأراضي السورية. وأم الفحم في فلسطين تصبح بين أصابعهم "أم الفهم"، وحي القصبة في مدينة الجزائر أو في مدينة تونس، وهو يعني مركز المدينة، يُترجم إلى حي الكاسبا، والكاسبا كان أحد أشهر كباريهات بيروت في ستينيات القرن المنصرم وسبعينياته، وبالتحديد قبل انفجار الحرب الأهلية في سنة 1975. وكم قرأتُ متعجبًا في الكتب التي يترجمها مصريون أن هيبر هو جد النبي إبراهيم (والصحيح في المصادر اليهودية عابر، ومنه جاءت كلمة العبرانيين)، ولا يفرقون السبئية (تبع عبد الله بن سبأ) عن الصابئة، فهما لديهم سيان. وعلى هذا الغرار من الجهل نقرأ زعيف شيف بدلًا من زئيف، وزفير المصري بدلًا من ظافر المصري، وبغيس أبو عطوان بدلًا من باجس أبو عطوان، وهؤلاء رجال من المشاهير. أما أبو هريرة فيصبح على يدي مترجم سوري "أبو القطة الصغيرة"، وصفية بنت حُيي زوجة النبي محمد تصبح "صوفيا بنت هويا". وأحد المترجمين اللبنانيين ترجم معاهدة سالت (معاهد الحد من الأسلحة الاستراتيجية) إلى معاهدة الملح. وكثيرًا ما اختلفت الفرق الشيوعية على مصطلحي "الحتمية" و "الضرورة" لأن ثمة كلامًا شائعًا يُنسب إلى لينين يقول إن الصراع الطبقي يؤدي حتمًا إلى دكتاتورية البروليتاريا، فيما يصر آخرون على أن الصراع الطبقي يؤدي بالضرورة إلى دكتاتورية البروليتاريا. وبدلًا من الاحتكام إلى النص الأصلي اختلفوا وتخاصموا وتناقشوا وتهارشوا وتشاتموا وانشقوا. والأنكى أن تمتلئ الكتب المترجمة بأسماء مثل أفيسين (أي إبن سينا) وأفرويز (إبن رشد) وسلادينوس (صلاح الدين) وميمونيدس (موسى بن ميمون) وماريا ماغدالينا (أي مريم المجدلية)، فيا للنباهة!



سندريلا وسمعان القيرواني وخرم الإبرة

في قصة سندريلا المشهورة في العالم كله (وهي ست الحسن بالعربية) قرأنا أن حذاءها كان من الزجاج. وفي جميع الأفلام التي أُنتجت عن سندريلا يكون حذاؤها من زجاج. ولم نفهم المغزى من الحذاء الزجاجي، إلى أن عثرتُ على تفسير له صلة مباشرة بالترجمة، والعبارة التالية توضح المسألة: un soulier deverre، فكلمة verre بالفرنسية تعني "زجاج". والصحيح أن تكون vair أي فرو. وبين verre  و vair حارت قدما سندريلا أي حذاء تحتذي.

وفي الإنجيل يرد اسم سمعان القيرواني الذي عاش في زمن المسيح قبل ألفي عام. لكن القيروان بناها عقبة بن نافع في سنة 670 ميلادية، أي بعد نحو 700 سنة من التاريخ المفترض لمولد المسيح. فكيف يُنسب شخص إلى مدينة لم تكن قد ظهرت بعدُ؟ والصحيح هو سمعان القوريني لا القيرواني، نسبة إلى قورينا في الجبل الأخضر في ليبيا من أعمال برقة وتدعى عين شباط أو شحات، وهي من أجمل المدن الإغريقية في حوض البحر المتوسط، وفيها معابد لأبولو وأرتميس (إلهة الصيد) وزيوس وقلعة الأكروبوليس.

وفي الإنجيل أيضًا يُلقب يسوع المسيح بـِ "النجار ابن مريم" (متى 3:6)، أو بـِ "ابن النجار" (متى 55:13). وهذا يعني أن يسوع ويوسف زوج أمه عملا في حرفة النجارة. لكن النجار بالآرامية، بحسب المصادر العلمية المرموقة، هي (نجارا) وهي فخذ من سلالة داود، ومن سلالة زروبابل بالتحديد. والغلط هنا هو أن كلمة "نجارا" الآرامية جُعلت بمعنى نجار اليونانية tekton، فيما هي في الأساس سلالة لا مهنة. وفي إنجيل متى (24:19) يرد كلام مشهور جدًا ليسوع على النحو التالي: "أقول لكم أيضًا إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله". والظاهر أنْ لا تناسب البتة بين الجمل وثقب الإبرة، وهي صورة فيها مبالغة لا معنى لها، مع أن إبراهيم متري الرحباني يفسر ذلك بالقول إن المسيح أراد أن يقول: "ما أعسر دخول الأغنياء إلى ملكوت الله، فاختار أكبر حيوان معروف في سورية، وأصغر ثقب معروف لدى قومه" (أنظر كتابه المسيح السوري، دمشق: دار أطلس، 2006، ترجمة أسامة عجاج المهتار). والحقيقة أن ذلك من آفات الترجمة؛ فكلمة كاميلوس باليونانية تعني الحبل، وكاملوس تعني الجمل. وهكذا بدلًا من أن تكون الجملة "إن مرور حبل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله" صارت "إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله"، مع أن آلي سميث وكرنيليوس فانديك هما من ترجم الكتاب المقدس إلى العربية بمشاركة ناصيف اليازجي وبطرس البستاني ويوسف الأسير.

لماذا هذه الرحلة العجيبة التي ترك إبراهيم فيها أرض الحضارة والخصب نحو صحراء عبر الأردن القاحلة، وكان يمكن أن يصل إلى الخليل خلال 15 يومًا لا 15 سنة؟



أور الكلدان وإبراهيم

تروي الحكاية التوراتية أن النبي إبراهيم سار من أور الكلدان إلى بلاد كنعان ومرّ بحاران في رحلة استغرقت 15 عامًا، مع أن المسافة من أور على الفرات في جنوب العراق إلى بلاد كنعان لا تحتاج إلى الذهاب شمالًا نحو حاران في شمال سورية. فلماذا هذه الرحلة العجيبة التي ترك إبراهيم فيها أرض الحضارة والخصب نحو صحراء عبر الأردن القاحلة، وكان يمكن أن يصل إلى الخليل خلال 15 يومًا لا 15 سنة؟ وفي أي حال لا توجد في التوراة عبارة "أور الكلدان" بل "أور كسيديم"، أي مدينة الكسيديين أو القسيديين، وهم جماعة غير واضحة المعالم البتة. وقد برهنت الكشوف الآثارية والنبشيات في خرائب المغيّر التي يعتقد أنها بقايا أور القديمة أن أور وُجدت قبل نحو ألف سنة من العصر المفترض لإبراهيم. لكن الكلدانيين كشعب لم يظهروا إلا قبل 539 سنة قبل الميلاد. وبالتالي لا يستقيم الأمر مع إضافة كلمة الكلدان إلى أور. آنذاك كان إبراهيم وسلالته (ظهر إبراهيم بحسب الروايات اليهودية في سنة 1996 قبل الميلاد) قد ماتوا: فكيف إذًا يقال "أور الكلدان"؟  فالدولة الكلدانية قامت في سنة 612 ق.م. على أنقاض الدولة الأشورية، وسقطت في عام 539 ق.م. على يدي قوروش الثاني ملك فارس. وفي هذا الحقل المعرفي ثمة حاجة إلى تفسير عبارة "أور كسيديم" لاكتشاف من هم هؤلاء القسيديين، وللتخلص من الترجمة الخاطئة لتلك العبارة التي تحولت، مثل سمعان القيرواني، إلى أور الكلدان.   

كنتُ كتبتُ ملاحظات متفرقة في شأن مدينة أور وقصة ارتحال إبراهيم عنها في مقالة نشرتُها في جريدة "السفير" اللبنانية في عام 2010 بعنوان "التاريخ والحضارة والسير إلى الوراء". وقد عثرتُ مصادفة على مقالتي هذه منشورة بتمامها في موقع "نقد وتنوير"، لكنها موقّعة لا باسمي، بل باسم عبد القادر حسين ياسين بعنوان "العرب والدوران إلى الخلف". وعبد القادر حسين ياسين أعرفه جيدًا وأعرف تصنيفه وتصفيفه، وهو شخص يتزيا بالمعرفة، مع أن فصوله وخصاله في السرقة والإغارة والسطو والانتحال شائعة ومعروفة. وقد سرق عبد القادر حسين ياسين مقالتي تلك حرفًا حرفًا وكلمة كلمة حتى أنه لم يُتعِب نفسه في تعديل أمكنة النقاط والفواصل على سبيل المثال.

بهذا المعنى نحن نقرأ ونقرأ، من هنا وهناك، كتبًا موضوعة ومترجمة. لكن، هل نقرأ حقًا بالمعنى العلمي للكلمة، أم نقرأ ما يصوغه لنا المترجمون بمن فيهم مترجمو القحط المعرفي، بحيث صار يحق لنا أن نقول عن كتبهم المترجمة إنها مفيدة جدًا لمن لا يقرؤها، وقيمتها مثل قيمة المعماري في مضارب البدو الرُحّل؟


الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.