}

في رهانات محكي الطفولة.. البئر الأولى

محمد الداهي 19 سبتمبر 2021
كرّس عبد اللطيف محفوظ حياته جلّها للنقد والبحث الأكاديميين، وبدأ في الآونة الأخيرة يدلي بدلوه في السرد لعله يمتح من مائه الصفو القرير، ويسعفه على فهم ذاته والآخرين من دون الامتثال للقواعد الصارمة. وهكذا جاد قلمه بمشروع سردي اختار له عنوانًا دالًا "رهاب متعدد، سيرة طفولة"(1) بالنظر إلى إيحاءاته النفسية، وارتأى أن يسترجع فيه شريط طفولته لاستعادة الذكريات الهاربة، وتمثيل مرحلة حاسمة في عمره، وإبراز العوامل النفسية التي صنعت شخصيته، وما فتئت تتحكم في زمامها. ما يلفت النظر ـ عمومًا ـ في تجربة عبد اللطيف محفوظ على غرار من كتبوا في النوع الحكائي نفسه (محكي الطفولة Récit d’enfance) سعيه إلى استعادة الطفل الذي كانه بتصنع صوته (التلفظ المزدوج)، وأداء دوره ببراءته وعفويته. ولكن المسافة الزمنية الفاصلة بين زمني التجربة والكتابة كانت لها كلمتها في تمثيل ما وقع برؤية وفلسفة جديدتين.



1ـ مفارقات "محكي الطفولة"
تعترض "محكي الطفولة" مصاعب كثيرة إلى حد التشكيك في الذكريات المحيلة إليه من دون أن تفقد مصداقيتها. تتلاشى تفاصيلها بمرور الوقت، ويصعب على الإنسان أيًا كانت قوة حافظته أن يسترجعها بنضارتها وصفائها. يتعرض كثير منها للتلف والنسيان بسبب عدم تحيينها وترهينها، وتُرمَّم آثارها مع توالي السنين حتى تستعيد بهاءها ورونقها. ما يهم في عمليتي الاسترجاع والتذكر هو إعطاء معنى لما وقع، و"وإعادة تكوين وحدة الإنسان في الزمن"(2)، وتشكيل هويته السردية، والسعي إلى إحداث الإحساس عينه في ذهن القارئ، وكسب ثقته وعطفه لتصديق ما يبث إليه.
قد يُخطئ السارد في جرد الوقائع، وقد يُغفل بعض الجزئيات، وقد يُضطر إلى تحويرها، وتلوينها بأصباغ جديدة، لكن لا تخطئ فراسته في استحضار ما أحس به، أو ما أوحت به إليه أحاسيس ما في ظرفية معينة. شبه ستندال الذاكرة بجدارية كامبو سانطو دي بيس، التي ما فتئت مقاومة لعوامل التعرية، وإن اندثرت آثارها وتآكلت قشرتها. "ما زالت تظهر يد، في حين سقط الرأس.. تتراءى لي سلسلة من الصور الواضحة جدًا لا ملامح لها غير ما استوطن منها في الوجدان"(3). أراد ستندال بهذا التشبيه أن يوضح أن التذكر يظل غير مكتمل، وهو ما يحتم ملء ثقوب الذاكرة بتخيل ما قد يكون قد حدث، وهكذا "تعتبر الذكرى ـ بهذه المناسبة ـ رواية مختلفة"(4). "إنني أكذب أو أكتب الرواية كلما سعيت إلى التفاصيل"(5).




ما يصعب مهمة استرجاع "محكي الطفولة"، علاوة على اتساع الهوة بين الماضي والحاضر، هو اتشاح الفترات المبكرة من عمر الإنسان بوشاح العتمة والقتامة، لأنه لم يكن وقتئذ واعيًا بوجوده في الحياة. وهذا ما يحفزه على التخريف والاختلاق، وعلى الاستئناس بالتجارب الإنسانية المشتركة لملء ثقوب الذاكرة وسد فجواتها. فما يعتري محكي الطفولة من غموض جعل كي بشتيل (Guy Bechtel) ـ في كتابه "أكاذيب الطفولة" ـ يعدُّ، بالنظر إلى تجربته في الحياة، ما يُحكى عنها مجرد أكاذيب مختلقة. "لا أحد يحتفظ بماضيه، كلنا نعيد بناء نسخة منه. وهكذا أعدت تشييد ذاتي بالتمام وبصدق مطبق"(6).
يتضح، مما سبق، أن كُتاب "محكيات الطفولة" يقوضون الميثاق السيرذاتي الصرف، ويحلون السيرة الذاتية التخييلية، أو المضادة، محله، لاتساع الفجوة بين الماضي والحاضر، وصعوبة تذكر ما وقع في فترات غابرة. فما يتذكرونه هو جملة من الاستيهامات النفسية التي ما فتئت راقدة في طويتهم. تستيقظ بين الفينة والأخرى لإضاءة عتمات حيواتهم الشخصية، وتحديد معالم نضجهم، وبلورة شخصياتهم الأساسية وفق القول الشهير للشاعر الإنكليزي وليام وردزورث "الإنسان والد الطفل"(7).
يفعل الشك في الذكرى ما يفعله الحليب في القهوة. يفقد البياض نصاعته إثر اختلاطه بالسواد. وهو ما يفيد أن الذكريات لا تبقى على حالها مع توالي الأيام، بل تُختلق من جديد وفق ما يقتضيه تبدل الأحوال (ظرفية السارد ومقاصده وأغراضه). يرى سالفادور دالي، في هذا الصدد، أن "التمييز بين الذكريات المزيفة والحقيقية يتماثل مع التمييز بين الجواهر: قد يبدو المزيف منها في غاية الأصالة والتوهج"(8). كلما اختلق السارد الذكريات وحسَّنها جعل منها جواهر تستميل الناظر إليها بمظاهرها البراقة والخلابة.


2 ـ ومضات الروح
بما أنه يتعذر على السارد استرجاع شريط طفولته، يكتفي باقتناص اللحظات القوية والبارزة التي ما فتئت تتلألأ في ذاكرته كومضات هاربة. وهكذا وردت محكيات الطفولة في هيئة شذرات تتواشج وتتراص في ما بينها لإعطاء صورة عن الطفل الذي كانه السارد، وما زال يرقد في طويته وسريرته.




ومن بين الذكريات التي تتابع وميضها قيام طفل بدفعه ـ من باب المزاح ـ إلى البركة الاصطناعية في جنان السبيل وهو لا يتقن السباحة. ولولا تشبثه بعمود حديدي لغرق وابتلعته المياه. ظل مقاومًا التيار الجارف إلى أن غامر متطوع بإخراجه من الورطة. وفي السياق نفسه، يتذكر السارد وهو يلعب مع أقرانه سقوط أصيص من الطابق الثاني على رأس صديقه جواد. وعوض أن تُلام المرأة التي اضطرت من دون قصد إلى زحزحة الأصيص لإنقاذ ابنها الذي كان على وشك السقوط من النافذة، تعرض الأطفال إلى عتاب شديد لتماديهم في اللعب من دون الاحتراز من الأخطار المحدقة بهم. ومن تبعات هذه الحادثة المؤلمة رحيل أسرة الجارة التي وراءه من دون قصد إلى مدينة مكناس. احتشد الجيران عند مدخل العمارة للتعبير عن حزنهم للفراق، ومساعدة الحمالين في نقل الأثاث، ووضعها في عدلي البغال. وبعد انتقال أسرة السارد من درب المتر إلى الزقاق الجديد توطدت علاقته بإدريس. ومما يتذكره تعرض صديقه إلى حادثة خطيرة أفقدته الوعي بعد أن حاول ـ برفقة أصدقائه ـ أن يقفز من السور العالي للتمكن من مشاهدة المباراة على أرضية ملعب الحسن الثاني. وعندما حمل على وجه السرعة إلى مستشفى الغساني تبين أنه تعرض إلى عاهة مستديمة، أضحت بمقتضاها يده مشلولة، فاضطر إلى لزوم البيت ومقاطعة أصدقائه. "لم يعد يخرج إلى الزقاق ليلعب، ولم أعد ـ بدوري ـ ألعب معه، كي لا أحرجه إذا مر صدفة ورأى عافيتي التي تذكره بعافيته التي أضحت ماضيًا بفعل ضربة قدر قاسية ظالمة" (ص42).
حل ابن خالته بوشتى ذات يوم ضيفًا على الأسرة في فاس، قادمًا من الدار البيضاء. واغتنم أخ السارد البكر الفرصة ليقترح على بوشتى تفقد حامة مولاي يعقوب لغاية الاسترواح والتسرية. كان على متن السيارة ـ علاوة على صاحبها وسائقها ـ ابنه عادل، والسارد الطفل برفقة أخيه. وفي منعرج، انقلبت السيارة بعد أن زاحت عجلاتها عن الطريق بسبب زخات المطر. استرجع الطفل وعيه ليعاين حشدًا من الناس يمدون العون إليهم وهم يتأسفون عن تأخر رجال الدرك وسيارة الإسعاف. وإن نجا الركاب من موت محقق ظلت الصدمة جاثمة على صدورهم لإصابتهم بجروح متفاوتة الخطورة. وما جناه السارد الطفل من هذه الحادثة فقدان السمع بأذنه اليسرى، وكتم الخبر على والدته توجسًا من تبعات العلاج. كل ضارة نافعة؛ لقد أسعفته هذه العاهة على استطابة الكرى غير عابئ بالضجيج من حواليه. ومن ثم، استوعب ما يوحي به المثل "نم على جانبك الأيمن" من معان دالة على انفراج النفس من غم ألم بها، وارتياحها وتنفسها الصعداء. كان يطمح أن يكون جنرالًا. لكن الانقلاب العسكري عام 1971 عصف بحلمه، وحضه على تمزيق الوثائق التي جمعها لولوج المدرسة العسكرية. تابع ـ كباقي المغاربة ـ أطوار الانقلاب على جناح الأثير إلى أن ألقي القبض على الضباط المتورطين وجرى إعدامهم رميًا بالرصاص. "كانت لحظة رعب استقرت في فؤادي الصغير. فنفر قلبي من مهنة الجندية. وقمت أفتش في الدولاب الصغير الوحيد عما جمعه أخي البكر من وثائق لتشكيل ملف التسجيل بالمدرسة العسكرية. أخرجت الأوراق ومزقتها إربًا إربًا" (ص94).
كان الفرن العمومي والسطح فضاءيْن للتحرر من الوصاية والحجر الأسريين، ولقاء الأنداد من الجنسين، وتبادل الأخبار والطرائف. اعتاد الطفل على حمل وصلة الخبز كل صباح إلى الفرن متحفزًا على مخالطة أقرانه، وخاصة الفتيات، في وقت كانت الحدود صارمة بين الجنسين. وأي اقتراب من الطرف الآخر تثار حوله شبهات مغرضة. كان السارد الطفل يتلصص على الشلة (أخوه إسماعيل، وابن خالته، وأبناء الجيران) التي كانت تجتمع على سطح العمارة حتى يختلي إليها الجو لممارسة هوايتها، والتنفيس عن همومها، والتحرش بالفتيات اللاتي يلتئمن على السطوح المجاورة، أو يطللن من نوافذ العمارات المحاذية. كان قائد الشلة الوسيم المانع يلوح بقميصه للفت انتباههن، ويرسم بيديه أشكالًا لاستمالتهن والتجاوب عاطفيًا معه. ولا تكون هذه المغامرات عمومًا في غفلة من الآباء الذين كانوا يحرصون على استقامة بناتهم، واستبعاد الشبهات عنهن. وهو ما جعل المعطي يرغي ويزبد يومًا احتجاجًا على تصرفهم الأرعن حيال بناته، وسعيًا إلى تأليب الجيران عليهم، وحث آبائهم على معاقبتهم ونهيهم عن معاودة التصرف المخل بالحياء العام.




استيقظت في نفسية الطفل الرغبات الجنسية التي كانت عسيرة ومتمنعة بسبب السياج الأخلاقي المضروب على الجنسين. وكانت الأغاني والروايات الرومانسية تزيدها تأججًا بحثًا عن توأم الروح المناسب. ومن بين شيطنة التلاميذ وقتئذ أنهم كانوا يتحينون الفرص في غفلة من الأستاذ وهو منهمك في الكتابة على السبورة للانسحاب من الباب الخلفي للفصل حرصًا على الذهاب إلى ثانوية أم البنين للقاء التلميذات في أوقات الاستراحة، أو في الساعات البينية. كان التواصل بين الجنسين يتم عن بعد مما كان يؤجج زند اللوعة والاشتياق. وكان الطفل في عداد الزمرة التي كانت تكسر المصابيح، أو تعطل الكهرباء، حتى يضطر الأستاذ إلى إخراجهم من الفصل. وهو ما كان يتيح لهم الفرص لتعقب الفتيات في جنح الدجى قصد معانقتهن، أو تقبيلهن مكرهات. وكان مصيرهم في اليوم الموالي هو استدعاؤهم إلى الإدارة لمعاقبتهم، وتوبيخهم على تصرفاتهم البلهاء والطائشة.
يتضح، من خلال استرجاع وقائع الطفولة، أن ما يبرز في ذاكرة السارد يرتبط أساسًا بصدمات نفسية، أو بشعائر المرور الحاسمة. قد يتعذر لبواعث متعددة نقل واقعة كما حدثت فعلًا، لكن ما يهم من بعثها من مراقدها هو نقل الأحاسيس التي لازمتها في أثناء حدوثها، وما فتئ أثرها مستقرًا في الطوية. وما يؤكد هشاشة الواقعة في حد ذاتها هو "تعدد الرواية (لا توجد رواية واحدة عن الحدث عينه)، وتنوع الطبقات التلفظية (تعدد الأصوات)، وتعدد الاعترافات (كل سر معلن يمثل نواة لأسرار جديدة)"(9). وإن تعرضت الواقعة للتشكيك لعدم استمرارها على هيئتها الأصلية بفعل عوامل التعرية، تظل مع ذلك محافظة على الآثار الدالة عليها. إذا كان المُرمِّم يحرص على وضع الموتيفات والقطع في مواضعها، وصبغها بالمواد نفسها (المراهنة على احتمال الوقوع اقتداء بنموذج خارجي)، فإن السارد ـ لطبيعة المواد المعتمدة ـ يلح على استرجاع ما رافق الجِداريَّة المتآكلة من أحاسيس ومشاعر إبان تشكيلها (تمثيل الشفافية الداخلية).



وأيًا كان مسعى الحقيقة مفروضًا، فإن قانون الجنس يراهن أساسًا على الصدق. اشتق لفظ الصدق في اللغة الفرنسية من الأصل اللاتيني (Sincerus) الذي يفيد تمثيلًا خالصًا لا تشوبه أية شائبة (عسل أصلي وخالص). و تفيد لغة صحة القول ومطابقته للواقع، وتترادف مع الصفاء والنقاوة تجسيدًا لخلو الكلام من شيء مختلط، أو مختلق (الكذب). وإذا كان الصدق يلزم المؤلف بإخضاع حركة الكتابة للحركة الذاتية الداخلية، فهو رهين أيضًا بتصديق المتلقي ما يبث إليه، والتجاوب معه كما لو وقع فعلًا.




للسارد الراشد رهان مضاعف: تصنع صوت الطفل الذي كانه في فترة مبكرة من عمره، ثم المراهنة على الدقة والأمانة والصدق لاستعادة الأحاسيس المنفلتة والمفتقدة وإن ما فتئت آثاره راسخة ومستدامة في الوجدان. فهي موجودة بالقوة، وتحتاج إلى وسائط (وفي مقدمتها اللغة) حتى تغدو ـ بالنسبة إلى القارئ ـ شفافة وجلية، وموحية إليه بالعبر المناسبة. وهذا ما جعل السارد ينهي كل مغامرة من مغامراته برهاب ما زال مستوطنًا في وعيه ولا شعوره: رهاب الماء، ورهاب سقوط أصيص من عمارة ما، ورهاب ولوج ملعب الحسن الثاني، ورهاب العودة إلى حامة مولاي يعقوب، ورهاب التجنيد.. وإن كان ـ بهذا الصنيع ـ يكاشف القارئ بهشاشة النفس، فهو يسعى ـ في الآن نفسه ـ إلى فهم ذاته، ومداراة جراحه النفسية وتضميدها، والتخلص من ضروب الرهاب التي تمنعه من أن يعيش حياة سوية ومطمئنة.
يتحول الخوف إلى رهاب خاص (Phobie spécifique) إزاء بعض الأشياء، أو الحيوانات، أو وضعيات معينة؛ مما يسبب ألمًا في نفسية الشخص، أو يؤثر سلبًا في نمط حياته ووجوده. يمكن أن يصاب به في أية فترة من عمره، لكن أغلب الاضطرابات الرهابية متوارثة عن مرحلة الطفولة التي تصنع فيها شخصية الإنسان، وتحدد معالمها الكبرى مبكرًا. وهو ما عايناه في محكي طفولة عبد اللطيف محفوظ؛ إذ كلما صادف الوضعيات الخاصة يتذكر اللحظات الأليمة التي واجهها في طفولته. وهكذا يتحاشى مثلًا المرور بمحاذاة عمارة توجسًا من سقوط أصيص على رأسه، ويتفادى السباحة حتى لا يقع في الورطة الخطيرة التي كادت أن تودي بحياته في البركة الاصطناعية. يعود السارد إلى منابع الخوف لمعاودة تأمل ما وقع، وتمثيله فنيًا، والسعي إلى مقاومة آثاره والتخلص منها. وهكذا تؤدي الكتابة وظيفة علاجية (المُنظِّف الشعوري الذاتي L’autonettoyant émotion) لمساعدة الفئات الهشة على استرجاع ثقتها بنفسها، ومواكبة وتيرة الحياة الطبيعية، وتحسين جودة حياتها. وبمقتضى ذلك، لم يعد الأدب ـ عمومًا ـ مقرونًا بالتسلية والترفيه، بل أضحى يؤدي وظائف هامة لمساعدة الإنسان على فهم ذاته والآخرين، ومقاومة كل ما يؤثر سلبًا على نفسيته، أو يحبط هممه، واستلهام التجارب الناجحة، واستدفاع التجارب المخفقة.


3 ـ انتقائية الذاكرة
وإن استأثر الزمن الداخلي (الشفافية الداخلية) باهتمام السارد، لم يغفل التواريخ (الإرساء التاريخي) لموْضَعَة الأحداث وتأطيرها في فترة زمنية محددة وحاسمة من تاريخ المغرب المعاصر. تخللت الأحداث مفارقات زمنية لصعوبة استرجاع ما وقع بطريقة كرونولوجية، ولوثبات الذاكرة بالإحالة إلى ما وقع في الطفولة (معظم الأحداث وقعت في مدينة فاس)، أو في ما بعد عندما أضحى الطفل شابًا (الاستفادة من محاضرة الأستاذ محمد برادة عن التطهير في جامعة محمد الخامس). وترتبط التواريخ جلها بفترة متقدمة من حياة الطفل، عندما أصبح واعيًا لوجوده، ومتطلعًا إلى اكتشاف معالم العالم الخارجي وفضاءاته برفقة أصدقاء الحي، أو المدرسة، ومستعملًا مناوراته وحيله لمواجهة الأخطار والصعاب التي تعترض سبيله، والتلصص على ما يقع خارج الستار من مغامرات ومكائد. ومن بين التواريخ التي يذكرها حصوله على الشهادة الابتدائية عام 1971، ثم يعود إلى عام 1970 عندما كان تلميذًا بالمتوسط الأول بمدرسة "الدوح"، ثم يرتد إلى عام 1969 لاستحضار قدوم خالته بصحبة ابنيها بوشتى والمانع من الدار البيضاء إلى فاس لزيارة أسرته وقضاء أيام معدودات بين ظهرانيها، ثم يثب إلى عام 1972 لسرد رحيل الأسرة إلى زنقة "بنذلجة" التي قضى فيها خمس سنوات، وكانت ـ بالنسبة إليه ـ أروع سنوات الطفولة.




إن الذاكرة الصناعية (ومن جملتها الكتابة) لا تستطيع، أيًا كانت حافظتها وحذقها، أن تساير وتيرة الذاكرة الطبيعية. لكن الذاكرة الأولى أكثر صمودًا ومقاومة للزمن من الثانية، لأنها تبقى ماثلة وشاخصة إلى الأبد. قد تتغير معالم البركة المائية الاصطناعية، وقد تطمس من الوجود، لكنها تظل محافظة على معالمها في حضن الكتابة. علاوة على ذلك قد تنسى كثيرًا من الأحداث الجسام مع توالي السنين، ومن جملتها وباء كورونا، أو كوفيد ـ 19، الذي يشغل الناس اليوم بسبب تداعياته السلبية على جودة حياتهم. وبعد أن يظهر اللقاح وتنفرج الأمور يصبح هذا الوباء في خبر كان، كما وقع لأوبئة فتاكة سابقة. ومن ثم تبرز أهمية الكتابة في تخليد اللحظات الحاسمة، وتذكير الأجيال القادمة بها.
اضطلع السارد ـ في هذا المنحى ـ بتمثيل الذاكرة الشعبية التي تستمد نسغها وعبقها من الأحياء العريقة في مدينة فاس، وتجلي كيف كان الجيران يتآزرون في ما بينهم، خاصة عندما يتعرض أحد منهم إلى مكروه ما، ويتعايشون في عمارة واحدة كأسرة واحدة، ويتقاسمون همومهم وعاداتهم وتطلعاتهم المشتركة، ويتفاهمون مع الكاري بإخلاء منزله عند الاقتضاء من دون مشاكل تذكر (طلب والد المطرب عبد الوهاب الدكالي من أب الطفل أن يسلم إليه مفاتيح المنزل المُكترى حتى تقطن فيه أسرة أرملة أحد أبنائه الذي وافاه الأجل).
لا تُحدد معالم الذاكرة، بل توصف، وهذا ما يمنحها طابعًا استعاريًا (تقابل العناصر المختلفة وتجاورها)، ويضفي عليها بعدًا جماليًا (إعادة تمثيل الماضي بطريقة فنية)، وينمي خطابًا واصفًا عنها (عوائق التذكر ومفارقاته). وهذا ما نعاين تجلياته ـ بتفاوت ـ في "رهاب متعدد". يعي السارد شعرية الذاكرة باقتناص اللحظات والأحاسيس الهاربة، وتشكيل فسيفساء متناسقة من القطع المتنافرة والمتباعدة، واستيضاح ما جرى بوعي وتعليل جديدين. وما يراهن عليه السارد هو أن يكون صادقًا في ما سرده حتى يحدث الأثر المرغوب فيه في نفسية المتلقي، ويعطي له صورة مجملة عن الطفل الذي كانه، ويسعفه على استيعاب شعائر الذاكرة الجماعية وهمومها وتطلعاتها، ويأخذ فكرة عن اهتمام الناس بالأخبار الطرية التي يتلقونها من إذاعات مختلفة، ويحرصون على تمييز ما يطابق منها الواقع وما يخالفه (تابع المغاربة عن كثب الأخبار المتضاربة عن الانقلاب العسكري في يوم السبت 10 يوليو/ تموز 1971 إلى أن حسم الملك الحسن الثاني الشك من اليقين بإلقاء خطابه ليلًا على أمواج إذاعة طنجة).
عندما يدلي الكاتب بدلوه في بئر الطفولة، لا يعرف ما الذي سيصعد إليه. أماء زلال، أم طين عكر؟ وأيًا كانت طبيعة محتوى الدلو، تمثل الطفولة البئر الأولى التي لا غنى عنها؛ إذ يعود الإنسان إليها كل مرة. "فهو بهذا يرد ينبوعًا دائم الفيض في السرائر الإنسانية"(10). يصدر هذا التشبيه الموحي عن أحد الكتاب الذين خبروا الكتابة عن الطفولة، وأدركوا مصاعبها ومزالقها في سعيهم إلى استخراج التجارب التي تجمعت في قعر البئر. لم يخرج عبد اللطيف محفوظ خاوي الوفاض؛ إذ استطاع أن يستقي تجارب شتى تمتزج فيها الذكرى بالحلم، وتتواشج فيها مجريات اليومي بالاستيهامات، وتتداخل فيها الكثافة الوجودية وبواكير الأحاسيس الجنسية. وهي ـ عمومًا ـ تسلط الضوء على التربية التي تلقاها الطفل في الأحياء العتيقة والشعبية في مدينة فاس، وعلى الصدمات النفسية التي أورثته خوفًا متواصلًا من وضعيات محددة، وعلى الحياة السياسية العامة التي كادت أن تدخل المغرب في نفق مظلم لولا ألطاف الله.



الهوامش:
1 ـ عبد اللطيف محفوظ، رهاب متعدد، سيرة طفولة، منشورات فاصلة، ط1، يناير 2019.
2 -Philippe Lejeune, «l’enfance fantôme» in Les brouillons de soi, éd. Seuil, 1998,p.49.
3 -Ibid.,48.
4 -Ibid.,p.48
5 -Ibid.,p.49.
6 -Ibid.,p.63.
7 ـ السطر السابع من قصيدة "قوس قزح/ The Rainbow 1802".
8 -voir Philippe Lejeune, «l’enfance fantôme» in Les brouillons de soi, op. cit.,p49.
9 -Guillaume Artous-Bouvet , «Le supplément de fiction : Derrida et L’autobiographie»in littérature, n°162, 2011, p.102.
10 ـ جبرا إبراهيم جبرا، البئر الأولى، دار الآداب، بيروت، ط2،2016، ص15.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.