}

فيلما "الموصل" و"أوروبا".. العراق من أرض الجحيم لأرض الأحلام

محمد بنعزيز محمد بنعزيز 22 سبتمبر 2021
آراء فيلما "الموصل" و"أوروبا".. العراق من أرض الجحيم لأرض الأحلام
"أوروبا"- فيلم بكاميرا مهاجرة
يحيل عنوانا فيلمين تخييليين عن العراق على مكانين: "الموصل" و"أوروبا". هكذا يتحدّد الفضاء الجغرافي الذي تتحرك فيه الشخصيات. "الموصل" 2020 من إخراج الأميركي ماتيو مايكل كارنهان، و"أوروبا" 2021 من إخراج العراقي المهاجر حيدر رشيد، والذي عرض في فقرة "نصف شهر المخرجين" في مهرجان كان 2021.  

فيلمان يقدمان نظرة عن العراق اليوم؛ حرب وهجرة، من أرض الجحيم إلى أرض الأحلام. سبب ونتيجة. الموصل واقع، وأوروبا حلم بعيد.

 

أرض الأحلام

في فيلم "أوروبا" شاب هارب من الشرق الأوسط في مواجهة قسوة الجغرافيا وحبائل صيادي المهاجرين في الغابات بين حدود تركيا وأوروبا. تطارد الكاميرا الشاب من الخلف كعدو، كاميرا على بعد نصف متر من رأسه، لذا تصير كل حركة مهما كانت صغيرة قريبة ومزعجة لعين المتفرج. قرب يمنع ظهور أي أفق للشخصية. فيلم صامت تقريبًا، يعبر جسد الممثل وسلوكه عن وضعه. مهاجر عراقي يرتدي قميص اللاعب المصري محمد صلاح، مهاجر عراقي مؤمن يقاتل بأظافره وأسنانه للوصول إلى الغرب العلماني الكافر.

في الفيلم لقطات مشهدية طويلة تزيد من مصداقية الحدث. تضمن طريقة التصوير انتقال التوتر من شخصية المهاجر إلى المشاهد. في الرحلة من أرض الجحيم إلى أرض الأحلام، ظهر معنى عميق في الثلث الثالث من الفيلم، عنف البشر أشد من عنف الطبيعة.

كانت تلك نهاية رهيبة أنقذت الفيلم، نهاية أثبتت للمتفرج أن مصير اللاجئ قد يكون أسوأ من الوضع الذي تركه خلفه في بلده.      

أثناء المشاهدة بدا أن الواقعية القصوى أكثر قابلية للتصديق. تم تصوير الفيلم بحيث يشعر المتفرج بأن شخصية المهاجر تكاد تخرج إليه من الشاشة ليمسكها.

صور الفيلم في منطقة عبور – ترانزيت – لمهاجرين يفرون من الشرق الأوسط. لا يظهر ما يهرب منه الشاب العراقي في الفيلم الوثائقي لكن طريقة هروبه وحجم الإصرار تشي بما تركه خلفه.

بدا لي الفيلم كأنه وثائقي، في تعليق نبهني ناقد سينمائي إلى أن الفيلم تخييلي. عدت لمشاهدة جنريك النهاية ووجدت فريق الممثلين. فعلًا، الفيلم تمثيل لا توثيق.

ملصق فيلم "موصل" 



أرض الجحيم اليومي

لماذا تبدو الأفلام التخييلية عن العراق كأنها وثائقية؟

لأن عنف الواقع هناك يفوق الخيال. شخصيًا لا أتوقع فيلمًا تخييليًا عن العراق لأن مفارقات الواقع تتجاوز كل انزياحات الخيال. ففي فيلم "الموصل" مثلًا: عقيد إيراني يقاتل في العراق بسلاح أميركي ويحتاج لأن يدخن، لذا يقايض علب الذخيرة بعلب السجائر. ويتاجر بالأسرى العراقيين.

هنا على الجدران شعار دولة الإسلام باقية وتتمدد، على جدران الموصل تهديد داعشي: "سنفتح روما"، في المدينة مخازن سلاح وأوكار ميليشيات. الحصول على الرصاص أسهل من الحصول على الخبز. الدم يسيل والأوضاع تتغير، دولة الإسلام تتبدد، خراب، خراب، خراب... نكتشف المدينة من خلال رحلة عربة عسكرية، لكل جهة في المدينة ناسها، رغم الموت فالطائفية تشتغل. 

خراب، خراب، بعد حرب إيران وحرب الكويت وحرب جورج بوش وحرب داعش وحروب الحشد الشعبي والطوائف والميليشيات التي تنتشر داخل المدن. كل ميليشيا تمارس العنف، ليس في العراق دولة لتحتكر ممارسة العنف. لذلك يسخر العقيد الإيراني من الطريقة التي يدير بها العراقيون بلدهم، بلد مفبرك في اتفاقيات سايكس- بيكو.

فيلم مصور بكاميرا محمولة في جلّ اللقطات، جنود عراقيون يمشطون آخر جيوب تواجد داعش، جثث، طنين ذباب كبير، خراب فادح حقيقي. السينما تساهم في حرب الموصل ضد داعش، الكاميرا تشارك في حرب شوارع. 

كاميرا محمولة تعكس دوار الخوف والتوتر من الموت الذي يتسكع في المكان، كاميرا تتتبع مقاتلين يمشون في مواقع مكشوفة ومنخفضة كأنهم في نزهة في الموصل، لا يصيبهم رصاص ويتابعون طريقهم حتى تحقيق الهدف. من يعرف مشاهد الحرب لحظة اقتحام كمين القناص الفيتنامي في فيلم كوبريك "فول ميتال جاكيت" Full Metal Jacket 1987 سيشعر بسذاجة مشاهد الحرب في فيلم "الموصل". يبدو أن مخرج الفيلم لا يعرف الحرب في بلد عاش حروبا متصلة حتى صارت لأطفاله معرفة عميقة بها.

في فيلم "الموصل" حركة دائمة وشخصيات عديدة في فضاء متنوع ملائم لجمهور نتفليكس، بينما فيلم "أوروبا" شخصية واحدة تقريبًا وهذا يلائم ذوق أعضاء لجان تحكيم المهرجانات.

إن "أوروبا" فيلم بكاميرا مهاجرة.  يستطيع الروائي أن يهاجر ويكتب عن بلده من خياله عن بلده عن بعد، في السينما تحتاج الكاميرا لتصوير البلد عن قرب، من عين المكان.
 

لقطة من فيلم "أوروبا" 


العراق بعين مثقف مهاجر

أكتب عن العراق من بعد، من مقهى في كازابلانكا على شاطئ المحيط الأطلسي. بغداد بعيدة. بمقارنة أخبار العراق في وسائل الإعلام مع ما يكتبه الأدباء العراقيون تشكل لديّ انطباع غريب بأن ما يكتبه العراقيون، في معظمهم، بعيد عما يجري في بلادهم. من يقرأ المجلات العراقية والشامية في الربع الأخير من القرن العشرين يظن العراق مثل فرنسا. ومن يقرأ رواية "عالم بلا خرائط" التي كتبها جبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف، لا يعثر على أثر لطبوغرافية المكان المزدحم بالطوائف في الرواية.   

في صيف 2014 عندما كانت داعش على أبواب بغداد سألت مثقفًا عراقيًا مقيمًا في المغرب:

كيف يبدو لك العراق اليوم؟ أجاب: العراق سفينة تغرق. أبدًا لن أعود إلى بغداد. أنا لا أضمن أمني في البيت والطريق والمقهى.

سؤال: هل توقعت أن تصبح داعش على أبواب بغداد؟

- لا

- ولماذا لم تتوقعوا أنتم مثقفو العراق غرق البلد؟ لماذا لم تنقذوا سفينتكم؟

قال: هناك طامة أكبر منا. كل مثقف يستطيع نقد سفينته وسفينة غيره. لكن الإنقاذ يتطلب وسائل. وأضاف: حداثتنا منقوصة.. هي حداثة كلمات. الشخصية العراقية تؤمن بالوقف. هناك وقف شيعي ووقف وسني... يؤمن العراقي بالوقف والإرث. 

سألته: إذا كان للوقف كل هذه الأهمية، لماذا تكتشفونه الآن فقط؟ لماذا لم أجد مصطلح الوقف في عشرات المجلات العراقية التي قرأتها؟ عندما أقرأ لكتاب عراقيين يتحدثون عن الديمقراطية والحداثة بل وما بعد الحداثة. وقد فهم الجميع أن العراق أكثر علمانية من ألمانيا. فانظر ما يجري الآن. هل يتكلم الكتاب العراقيون عما يجري في العراق أم عما في رؤوسهم؟

قلت: "إذا كانت لدي ساعة لحل مشكلة سأقضي 55 دقيقة للتفكير في المشكلة، و5 دقائق للتفكير في حلها"، هذا ما يقوله أينشتاين، لكن يبدو أن المثقفين يفعلون العكس، يقضون جل الوقت في اقتراح أكياس حلول لمشكلة ينكرونها أو لا يعرفونها أصلًا.

قال: يبدو أن هذه هي مشكلة المثقف، إنه يتشدق كثيرًا. يزعم المثقف أنه هو الدليل وهو الشيخ وهو الأستاذ. المثقف العراقي مثقف وقفي.

- ما هو الوقف؟ وما هي خصائص المثقف الوقفي؟

قال: مثقف محبوس على جهة معينة. مشكلة المثقف العراقي أنه بحاجة إلى مظلة. مشكلة المثقف العراقي أنه انتقل من العشيرة إلى الحزب إلى الجيش الشعبي ثم إلى العسكر ورجع الآن إلى الطائفة، وهو يحتاج إلى مظلة.

ما علامات الوقفية عند شاعر مثلًا؟

أجاب: شاعر قصيدة النثر لا يقبل إلا قصيدة النثر. إنه محبوس داخلها. لا يسمع الموسيقى، لا يهتم بالتشكيل والفلسفة... لا تعدّد. على المثقف إصلاح منظومته القيمية أولًا. حين يكون قبليًا طائفيًا عرقيًا لن يخرج للحداثة والمساواة والديمقراطية.

وإذا لم يتحقق هذا؟

أجاب المثقف العراقي: أتمنى تكليف شركة كورية بتسيير البلد.

بمناسبة تحرير هذا المقال الآن اتصلت بذلك المثقف العراقي وسألته:

أما زلت تعتقد بضرورة تكليف شركة كورية جنوبية لتسيير العراق كي تعود إليه؟

قال: نعم.

سألته: هل أذكر اسمك في النص أم أحتفظ بلقب بمثقف عراقي؟

أجاب: سمني مثقف عراقي أحسن.

برأيي أنه مع كل هذا الخوف لن يستطيع مبدع عراقي مقيم في بغداد أن يعبّر بحرية، والأمل معقود على أقلام وأفلام المهاجرين لامتلاك الشجاعة التي لا يملكها مثقف وقفي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.