}

سرديات الحرب اللبنانية ومناخاتها.. هل "بيروت الدمار روائية" فعلًا؟

رباب دبس رباب دبس 22 مارس 2022
آراء سرديات الحرب اللبنانية ومناخاتها.. هل "بيروت الدمار روائية" فعلًا؟
أحد أحياء بيروت خلال الحرب الأهلية اللبنانية (getty images)

 

 

في تسعينيات القرن العشرين الماضي، وبعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، صنّفت الروايات العديدة التي صدرت في الحقبة المذكورة، ضمن ما سميّ بـ "أدب الحرب"، إذ حلّت هذه الأخيرة وما تركته من آثار مدمرة على الحجر والبشر في مدينة بيروت، موضوعًا أساسيًا في كثير منها.

يأتي ما ذكر مدخلًا للبحث عن صور بيروت الأكثر حضورًا في روايات أجيال من الروائيين اللبنانيين، المعايشين منهم للحرب الأهلية اللبنانية، وروايات جيل الشباب الذين عاينوا تداعيات ما بعد تلك الحرب: محمد أبي سمرا (مواليد 1953) في روايتيه: "سكان الصور" (2013، دار ميريت ـ القاهرة)، و"نساء بلا أثر" (2017، رياض الريس للكتب والنشر). علي نصار (مواليد 1967)، في روايته "سيرة مسلم في حانة أرتين" (2017، دار النهضة العربية). فوزي ذبيان (مواليد 1970) في روايته: "بيروت من تحت" (2021، منشورات الجمل). علي السقا (مواليد 1984) في روايته "حي السريان" (2016، دار الفارابي).
 

 محمد أبي سمرا  



"سكان الصور".. الوافدون الذين انتظروا على أطراف المدينة

يرصد الروائي محمد أبي سمرا الذي عايش الحرب الأهلية اللبنانية، مسار عيش وافدين من القرى الريفية إلى مدينة بيروت، وتحديدًا فئة من الذين أقاموا في منطقة الشياح ـ عين الرمانة في الضاحية الجنوبية، في حقبة ستينيات وسبعينيات القرن العشرين المنصرم، الزمن الذي بدأت فيه الأطراف اللبنانية تعدّ العدّة لخوض حروبها الأهلية القادمة، من بينها المنظمات اليسارية التي نشطت في تنظيم دورات تدريبية على السلاح لمنتسبيها من أجل نصرة القضية الفلسطينية آنذاك، وتنظيم اجتماعات ضمن الأحياء لتأطير أهاليها في العمل التطوعي، إلى المشاركة في حملة فتح الأفران التي كانت آنذاك مقفلة ومضربة عن العمل بسبب رفع الحكومة سعر الطحين، والاشتراك في التظاهرات الطلابية التي اندفعت حينذاك إلى الشارع رفضًا لسياسات الحكومة المجحفة التي انعكست سلبًا على الفئات الفقيرة.

الأخبار الآنفة التي كانت تحمل في مظاهرها شبح الاقتتال القادم، تتواتر في رواية أبي سمرا، مع توصيف حياة الوافدين من طوائف مختلفة كانوا يعيشون قبل الحرب الأهلية متجاورين في الأحياء نفسها، وتبرز في هذا التوصيف فروقات أنماط عيش حيواتهم، وهي فروقات اجتماعية أكثر مما هي طبقية. ومنها نمط عيش المسيحيين الذي يشي بالدعة والهدوء والاستقرار والطمأنينة، بينما يغلب على نمط عيش المسلمين القلق والارتباك والغلبة والإحساس الدائم بعدم الرضى، ابتداء من الأعمال ذات المردود القليل الذي لا يفي بمتطلبات العيش، إلى السكن ومعظمه مؤلف من غرفة واحدة متفرعة من إحدى الشقق، إلى اهتزاز الروابط العائلية والنزاعات اليومية التي تدفع بالأبناء إلى الانخراط في صفوف المنظمات الحزبية، والقتال في الحروب التي تخوضها، ومن بينها شخصية "ذيب ابن أبو ذيب" الذي قرر أن يترك المنزل من دون رجعة.

 

"نساء بلا أثر".. تمجيد الوحدة والفردية والانسلاخ عن الجذور

تتقاطع في رواية محمد أبي سمرا هذه مشهديات من الحروب الأهلية اللبنانية على اختلافها، مع سيرة فنانة تشكيلية ذات أصول أرمنية تحمل في الرواية اسم "ماريان"، تعيش متنقلة بين بيروت وجنوب لبنان ولوس أنجلوس في أميركا وفرساي وباريس في فرنسا. والرسامة في استعادتها لحقبات زمنية مختلفة من حياتها في بيروت، توغل في تمجيد الوحدة والفردية والانسلاخ عن الجذور، وهي تفرد صفحات من حياتها الحميمة، وحياة عدد من النساء، من دون مواربة أو إخفاء بل بوضوح يبلغ حد الإبهار.

تتلازم مع استعادة الفنانة "ماريان" لحياتها السابقة في بيروت، صور من الحروب الأهلية التي شهدت عددًا منها: الاقتتال الطائفي بين المناطق الشرقية والغربية، الحرب على المخيمات الفلسطينية، الحروب الداخلية بين الأحزاب اليسارية والتنظيمات الإسلامية التي تنامت في ثمانينيات القرن العشرين بشكل كبير، واغتيال عدد من مثقفي وكوادر الحزب الشيوعي اللبناني.

في تهكم بارز على ما وصلت إليه حال التنظيمات الحزبية، ومنها اليسارية،  نقرأ في الرواية عبارات وتسميات مثل "عذراء الشهداء"، "خلية مثقفي الحزب الشيوعي"، "الحقد الطبقي"، "أناشيد الجوع الشيوعي وأغانيه المتناسلة"، ويتلازم مع عبارات التهكم المذكورة استذكار أحداث تعكس في عمقها تراجع الأيديولوجيا اليسارية أمام الأيديولوجيا الدينية، وبروز الثنائيات العقائدية التي تراوح بين المقدس والمدنس، على المستويين الديني والأخلاقي، ومشهدية إغراق التنظيمات والأحزاب في الشعارات والخطابات التي تمجد الشهادة والاستشهاد والشهداء الذين يصبحون كالعملة في بورصة المزايدين على من يحوز العدد الأكبر منهم، فيما ينصرف العديد من المنضوين في التنظيمات المذكورة في حياتهم السرية إلى المجون والكحول والجنس والحشيش.

علي نصار  


 
"سيرة مسلم في حانة أرتين".. التحولات الثقافية والاجتماعية والسياسية في بيروت

رواية "سيرة مسلم في حانة أرتين" لعلي نصار هي إحدى حكايات بيروت، التي تتلازم مع سيرة الوفود الريفي لأبناء الطائفة الشيعية من قرى الجنوب اللبناني، إلى منطقة النبعة، الأكثر فقرًا آنذاك، ثم مساراتهم السياسية ابتداء من انسلاخهم عن الزعامات التقليدية، من مثل كامل الأسعد، والتحاقهم بالتنظيمات الفدائية الفلسطينية واليسارية كما في أفواج المقاومة اللبنانية "أمل" التي أسسها الإمام موسى الصدر في سبعينيات القرن نفسه.

نقرأ في الرواية عن بيروت وما كانته في عام 1975، ذروة التقاء الشرق بالغرب، ثم ما لبثت الحرب أن دمرتها وغيّرت ديمغرافيتها وأصبحت بيروتات متعددة، فيما انتقل الوافدون الذين كان معظمهم يسكن على تخومها إلى قلبها.

كان عام 1990، الذي أعلن فيه عن انتهاء الحرب الأهلية وما تلاها من عملية إعادة الإعمار، كما ورد في الرواية، بمثابة عملية من عمليات التجميل التي "تشبه العمليات التي يشوهون بها وجوه نجمات الفيديو كليب". بينما تأثيرات الأحداث العالمية، ومن بينها انهيار الاتحاد السوفياتي، وتنامي التنظيمات الدينية، واتفاق الطائف، تترك أثرًا كبيرًا في الساحة الثقافية والسياسية والاجتماعية في بيروت. وتشهد الرواية على عملية الانتقال من الافتتان بتشي غيفارا وخطه الثوري المتقدم في أطراف اليسار إلى الافتتان بالإمبريالية، وإغراق الصحافة الحرة في بورصة الأموال المجهولة المصدر، كذلك نقرأ عن الانتقال من الإلحاد إلى أقصى المظاهر الإيمانية، مع بقاء عدد من المؤمنين أوفياء لشرب الخمور ومشاهدة أفلام البورنو سرًا.
 

 علي السقا  



"حي السريان".. بيروت قبل الحرب وبعدها

لم يعش الروائي علي السقا الحرب الأهلية، الا أنه في روايته هذه، وهي باكورة أعماله، يستدعي عبر ذاكرة شخصيات منها، بيروت بوجهيها قبل الحرب الأهلية، في الزمن الذي كانت أحياؤها تضم خليطًا متعدد الطوائف والجنسيات، وأسواقها مفتوحة لكل الناس والفئات "باعة جوالون وأسواق ومحال ومطاعم وسينما وموقف باصات وسيارات أجرة وبائعات هوى يحملن رخصًا من الدولة. شوارعها وزواريبها كانت مرتعًا لأي كان، حتى للمتسولين الذين يجلسون عند أرصفتها". ومنها ما هو بعد الحرب الأهلية، بعد أن هجرها المسيحيون الذين هم "أحشاء الحي وروحه فصار خاويًا من دونهم... وفي غيابهم، بات الهواء يصفر في بيوتهم، يداعب أثاثها ويلعب بصور أصحابها المعلقة على الجدران"، كما يرد في الرواية.

بيروت في زمن السلم في رواية السقا، تعكس التشوهات الكبيرة التي أصابتها نتيجة عملية إعادة الإعمار، ومنها إمحاء ذاكرة أحياء بكاملها، في الوقت الذي بقي عدد من هذه الأحياء يضم فئات معدمة وفقيرة تجاور الأبراج الإسمنتية الشاهقة التي استملكها تجار ومتمولون أغنياء. أحد هذه الأحياء "حي التنك" الذي يتألف من أكواخ صغيرة مسقوفة بألواح من التنك، يقطن فيها وافدون منذ عشرات السنين، مزيج من الفقراء "شيعة وسنة فضلًا عن أولئك الذين لا هوية لهم"، معظمهم يعملون بائعي خردة وخضار وماسحي أحذية.

تخبر الرواية عن التفلت الأمني في زمن السلم الأهلي، المتمثل في بروز فتوات الأحياء، والزعامات المحلية التي تتخذ من مساعدة الفقراء وسيلة للوصول إلى الندوة البرلمانية، وتبرز كذلك تنامي المد الشيعي الذي يتمثل في المجالس العاشورائية التي تحث الحاضرين على الالتزام بخط المقاومة ونهجها والاستشهاد من أجل المقامات الدينية في الدول الشقيقة، وتوجيه التحايا لهذه الدول التي وقفت في وجه المحتل الصهيوني، فيما تصدح صرخات الحاضرين التي تعكس قوة هذا المدّ وسطوته إلى خارج الحسينيات بعبارات "لبيك يا حسين"..
 

فوزي ذبيان  



"بيروت من تحت".. كسر نمطية شارع الحمرا في بيروت

رواية "بيروت من تحت" لفوزي ذبيان، "ليست تأريخًا للحياة الثقافية أو النضالية في شارع الحمرا… بل هي مساءلة أبطال هذا الشارع ومكرّسيه وكليشيهاته وتلك النوستالجيا المملة، التي ترسم ذاكرته"، كما يقول الراوي في إحدى مقابلاته، أما كسر هذه النمطية فكون هذا الشارع الذي هو منطقة الحمرا تحديدًا، يقع في قلب لبنان الذي لم تكف مؤسساته وإداراته وكل ما فيه عن الانهيار منذ أكثر من عقدين من الزمن، والثقافة جزء من ذلك.

يتخذ ذبيان في روايته صيغة "الأنا" التي تستعمل في كتابة السيرة الذاتية، مع استخدام أدوات بحثية كالتي تعتمدها الأبحاث الأنثروبولوجية. وهو يضيء كذلك على فئة من الشعراء الذين اتخذوا من مقاهي وحانات وصالات في شارع الحمرا منصة لوصولهم إلى عالم النجومية والشهرة، على خلفية صيت الشارع الذي لا زالت صورته القديمة راسخة في مخيلتهم، متخذًا من سلوكياتهم، هفوات ومشهديات وزلات، هي أشبه بالكوميديا السوداء التي بقدر ما توحي بالضحك منها، ترمز إلى الحزن مما وصلت اليه حال الثقافة. من هذه الزلات والمشهديات: اللاتي قررن أن يصبحن كاتبات لا يرغبن في قراءة "الكثير من الروايات"، أما "رئيس المجلس الثقافي العلماني" فإنه اختصار للمؤتمر الذي كان يحضره في القاهرة ومراكش يمزج الكلمتين بواحدة لتصير مؤتمر "قاهراكش". عدا عن الأمسيات الثقافية التي يجب أن يراعى فيها التوزيع الطائفي للشعراء المشاركين في الأمسية كما يوصي كتاب وزارة الثقافة.. "أربعة شعراء، 2 بـ 2". هناك أيضًا "شاعر الخسة" الذي يطمح إلى علاقات خارجية لترجمة أشعاره الذي لم يكن قد كتب منها أي قصيدة.

وشارع الحمرا الذي أراده ذبيان حاضرًا في روايته بمسمياته الحقيقية، "مقهى الروسا الذي كان يسمى الكوستا"، "مقهى الدانكن"، "عقيل إخوان"، "مطعم بربر"، "مكتبة أنطوان"، "مقهى تاء مربوطة"، و"حانة مزيان"، وهي معالم يتردد إليها رواد هذا الشارع الذي يعرف الكل فيه الكل، رواد المقاهي والمطاعم، بائعو الصحف، المتسولون، المارون على الرصيف، الصرافون، أصحاب المحلات، حتى "الكلب البني الأعرج" يعرفه رواد شارع الحمرا الذي شبّهه الراوي بـ"القرية الصغيرة"، تيمنًا بريفيته؛ هذا الشارع الذي شهد قيامة بيروت الثقافية في ستينيات القرن العشرين، هو في رواية "بيروت من تحت" شاهد على اضمحلال بيروت وخرابها.

**********

في الختام، نجد أن سرديات الحرب الأهلية وما خلفته من تحولات ديمغرافية وسياسية واجتماعية ودينية ونفسية وثقافية، لا زالت رابضة في ذاكرة الروائيين اللبنانيين، ومنهم ذوو الاختصاصات السوسيولوجية والأنثروبولوجية والسياسية، وكتاب السير ومعظمهم من الريفيين سواء من عايش الحرب الأهلية منهم منذ بدايتها (محمد أبي سمرا) أو من عايش تداعياتها من جيل الشباب (علي نصار، فوزي ذبيان، علي السقا).

يقودنا ذلك إلى الاستئناس بما كتبه الأستاذ الجامعي والناقد، جورج دورليان، عن بيروت في الرواية إذ اعتبرها "غائبة بوصفها مدينة وتشكيلة اجتماعية، فكل الروايات تقف عند حدود هذه العاصمة العصية، أو تحكي من نزحوا إليها وتوقف نزوحهم عند تخومها، عند أسوارها الخيالية والمادية"، كما وصف دورليان بيروت أيضًا أنها "تستورد أكثر مما تصدر، لا قصة لها، بل تحتضن كل قصص الوافدين إليها، إنها أقرب إلى "نزل إسباني" يحتل غرفه أشخاص من جنسيات مختلفة" ("البحث عن المعنى"، ص ص 56 - 58).

وبيروت التي تظهر في الرواية المكتوبة عنها بأنها بائسة وعنيفة وتنتقل من طور سيء إلى طور أسوأ، هي حبيسة الرؤية النقدية المتشائمة والسلبية لحاضرها وماضيها المتخم بالحروب، بينما نجدها في الشعر وفي الغناء مختلفة تمامًا، فهي فضلًا عن جمالها، حاضرة للمدنية والثقافة وواسطة عقد بين الشرق والغرب وملاذًا للشعراء الكبار. وهو ما أكده الشاعر والكاتب يوسف بزي في أحد مقالاته، أن "بيروت السلم شعرية، وبيروت الدمار روائية"!

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.