}

المؤسسة الدينية والميكيافيلية

رشا عمران رشا عمران 16 أبريل 2022
آراء المؤسسة الدينية والميكيافيلية
مظاهرة أمام الجامع الأموي في دمشق نصرة لدرعا(25/3/2011/فرانس برس)


لم تكن مشكلة  العرب عمومًا، والسوريين خصوصًا، يومًا، مع الاستبداد السياسي فقط، إذ لطالما تحالفت المؤسسة السياسية الحاكمة مع المؤسسة الدينية التابعة والخاضعة لها لقهر الشعوب وإبقائها مخدرة ومشغولة بغيبيات سخيفة تبعدها عن كل ما يمكنه أن يكون ذا فعالية حقيقية في بناء المجتمع، أو التغيير الاجتماعي التنويري فيه، أو التغيير السياسي اللازم ليسبق أي عملية تغيير كبرى، خصوصًا أن السيطرة التي تفرضها أنظمة الاستبداد على كل مفاصل حياة البشر سوف تعيق محاولات النخب الفكرية، أو السياسية المعارضة، التنظير لعملية التنوير المجتمعي، أو الشغل على بناء أجيال متخففة من الإرث الديني المجتمعي، وقادرة على الاندماج مع الحضارات الإنسانية المتنوعة، وقادرة أيضًا على قبول الاختلافات والمتغيرات التي تحصل في العالم، خصوصًا منها تلك المتعلقة بالجندري، والعبور الجنسي، والمثلية، وغيرها، من شكل العائلة التقليدي التي تعارفت عليه المجتمعات في التاريخ الحديث، والذي كان للمؤسسة الدينية عبر التاريخ دورها الصارم في تكريسها، ووضع أسس العلاقات الاجتماعية التي استمرت في العالم الغربي إلى وقت قريب، قبل أن تنسف الليبرالية الاجتماعية، والحريات الجنسية، كل تلك الأسس، واضعة آلياتها لعلاقات اجتماعية جديدة سنت الدول المتقدمة قوانين جديدة لجعلها شرعية، رغم الرفض المتواصل من اليمين الغربي لها.




والحال أن هذا التغيير في شكل العلاقات الاجتماعية في الغرب ما كان ليحدث لو أن الكنيسة لاتزال تسيطر على المجتمع، ولو أن الأوروبيين لم يقدموا تضحيات مهولة عبر مئات السنين قبل الوصول إلى العلمانية، وتحويل الكنيسة إلى مجرد دار عبادة لمن يشاء، وتحويل التعاليم الكنسية البسيطة إلى طقوس تمارس في مناسبات محددة، أما القرارات والفرمانات والأوامر التي لطالما كانت تكرس للتمييز والكراهية والاتهام بالهرطقة فقد أصبح مكانها أرفف المتاحف والكاتدرائيات الكبرى، وصفحات التاريخ، يتذكرها المتعصبون والمتطرفون، ويستخدمها السياسيون حين يريدون تبني خطاب شعبوي يستثير الغرائز في حملاتهم الانتخابية.
تسيطر المؤسسة الدينية الإسلامية والمسيحية العربية على مفاصل حياة البشر، وتتدخل في أدق تفاصيل العيش، خصوصًا المؤسسة الإسلامية التي ما زالت تتحكم بملايين من العرب، وعززت لديهم مظلوميات متعددة تشيطن الآخر، خصوصًا إذا ما كانت قيم هذا الآخر تتنافى مع ما تنتهجه أنظمة الاستبداد من سلوكيات ومسارات تمعن في تكريس التمييز والقمع والتجهيل والتفقير، والتي لطالما وجدت المؤسسة الدينية الفتاوى المناسبة لتبريرها وتكريسها وتحريم الخروج عليها، في أكبر خديعة تمارس ضد الشعوب العربية تحت اسم الدين والإيمان بالله، والخشية على الدين من مؤامرات تستهدفه وتستهدف وجود معتنقيه.

صورة التقطت تحت إشراف أمني سوري تظهر "معهد الأسد لتحفيظ القرآن الكريم" في المسجد العمري في درعا بعد سيطرة جيش النظام عليه(24/ 3/ 2011/فرانس برس)


مع بداية الربيع العربي، حين انطلق شباب العرب في ثورات شعبية واحتجاجية بالغة الأهمية، كانت الجوامع والمساجد هي أمكنة مناسبة للتجمع والخروج في المظاهرات. ذلك أن الأنظمة كانت قد عمدت منذ تأسيسها إلى منع التجمعات في الأماكن العامة والخاصة. ففي سورية، مثلًا، كان من يريد إقامة حفلة زفاف كبيرة يحتاج إلى موافقة أمنية. طبعًا، التجمعات الأخرى كان الحصول على موافقات لها أقرب إلى المعجزة، والاستثناء الوحيد كان الجوامع والمساجد.




لهذا وجد الداعون إلى المظاهرات أن الخروج من الجوامع قد يكون حلًا مناسبًا واحتياليًا على أجهزة الأنظمة، وهو ما جعل كثيرًا من الشباب العلمانيين والملحدين والمنتمين إلى طوائف ومذاهب لا تذهب عادة إلى الجامع يعتمدون المساجد كنقطة انطلاق للمظاهرات. في البداية، كان الوجدان الشعبي لمن آمنوا بالثورة متناسبًا مع هذه الظاهرة الرومانسية الوطنية: أن يدخل الجامع الملحد والعلماني والمسيحي مع المسلم المؤمن، وأن يتشاركوا جميعًا الصلاة من أجل هدف واحد، وهو ما جعل بعض أئمة المؤسسات الدينية الإسلامية، تحديدًا، يشاركون الشباب احتجاجاتهم، ويعلنون مواقف مؤيدة للثورات، وللربيع العربي. وفي سورية، اضطر بعضهم إلى الهرب خشية الاعتقال، أو التصفية. كان يمكن للأمر أن يبقى بهذا الجمال والحس الوطني العالي لولا أن المؤسسة الدينية المتصفة بالميكيافيلية، ما جعل من أئمتها المنحازين إلى الثورات يسعون إلى تبني ثورات مضادة تسحب صفة الشعبية عن ثورات الربيع العربي، وتحولها إلى ثورات إسلامية دينية وطائفية تدعم عملية الجهاد الجيني المسلح ضد الأنظمة، وهو الأمر الذي أعطى لتلك الأنظمة مشروعية مهمة لتبرير إجرامها ضد شعوبها، فهي تحارب جهاديين متطرفين، متمثلين في تنظيمات راديكالية معظمها تمت مأسسته وتبنيه من قبل رجال المؤسسة الدينية المعارضة، ساحبين معهم إلى الثورات المضادة شرائح كبيرة جدًا من المجتمعات العربية، الشرائح نفسها التي نكلت بها الأنظمة قبل الربيع العربي، وسلمتها إلى المؤسسة الدينية لتبقيها راضية بفقرها وجهلها وعجزها.
كان يمكن للربيع العربي أن يكون فرصة مناسبة لبداية التنوير، وترافق التغيير المجتمعي مع التغيير السياسي لولا أن المؤسسة الدينية شعرت أنها سوف تخسر كثيرًا من مكتسباتها، فعملت على المساهمة في نسف مبادئ الثورات، وتجريم وتحريم الديمقراطية، وإطلاق فتاوى تساهم في تكريس التخلف والتمييز ضد المرأة، وفتاوى تحرم المساس بالنص الديني، سواء أكان نصًا إلهيًا، أم حديثًا شريفًا، أم فتوى أفتاها أحد أئمة الماضي الذي اتضح أنه ما زال مستمرًا حتى اللحظة، وأن كثيرًا من المسلمين يعيشون فيه متجاهلين الحاضر تمامًا بكل متغيراته.
كانت الخديعة الكبرى هي في استئجار مثقفين ونخب للترويج للثورات المضادة، وللترويج للمؤامرة المفترضة على المسلمين، ما كرس لدى العامة مظلوميات لا تنتهي استطاعت أنظمة الاستبداد اللعب عليها بذكاء شديد لم يملكه معارضوها. تجلت هذه المظلوميات في تبني خطاب الجهاد، وفي نظرية المؤامرة على الدين الحنيف من قبل الغرب والعلمانيين وأصحاب المذاهب الأخرى، وتجلت في تكفير كل من يناقش أو يتحدث في الشأن الديني منتقدًا ظاهرة اجتماعية كرستها نصوص دينية يومًا. أعادت هذه المظلوميات سردية قمع حرية الرأي والتفكير والنقد، تلك السردية التي كانت سببًا مهمًا لثورات الربيع العربي. فتحت يافطة المساس بالعقيدة، أو بالدين، يمكن للمؤسسة الدينية التي أعادت تموضعها بعمق أكثر في الوعي الشعبي الجمعي والفردي أن تمنع، أو تقصي، أو تحاكم، كل ما تراه لا يتناسب معها. وللأسف، تكرست هذه الظاهرة إلى حد أننا بتنا نشهد الآن حتى مؤسسات إعلامية وثقافية تدعي حياديتها تجاه الإشكالات الاجتماعية والدينية، وتدعي حرصها على الحريات، وتحمل شعار حرية الرأي، منعًا لكل ما يناقش شأنًا دينيًا، أو يربط ظاهرة اجتماعية متخلفة بالدين، والأدهى أن تكون هذه المؤسسة مثلًا مؤسسة ثورية، حينها علينا أن نفكر جيدًا بمفردة الثورة: ما هي الثورة، وعلى ماذا بالتحديد ثار هؤلاء إن كانوا سينتهجون منهج أنظمة الاستبداد وحلفائها في المؤسسة الدينية الرسمية، والتي يفترض أن الثورات استهدفت سلوكها في قمع حرية الرأي.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.