}

الكتاب الواحد والكتاب المتعدد.. مديح الهوامش الخصبة للثقافة

فريد الزاهي 5 مايو 2022
آراء الكتاب الواحد والكتاب المتعدد.. مديح الهوامش الخصبة للثقافة
(gettyimages)



ثمة كتب بحجم المخدّات، تُقرأ من غير أن تترك أثرًا كبيرًا في النفس والفكر، يستجذب عنوانها وفهرسها العين فتسرح فيها كما في صحراء رملية، فلا يجد فيها المرء موْردًا. إنها كتب تستعيد موضوعها منذ القدم لتطل على الحاضر إطلالة باهتة. تجد فيها ملخصات عن أفكار أغلب من قرأتَ لهم ومَن لم تقرأ لهم، وتتصادى فيها النظريات والتصورات، وكأنها الوصية الأخيرة لمؤلفها. هي كتب منظمة الأبواب متسلسلة الموضوع، متناضدة الأفكار، تطرق موضوعها من جميع الجوانب، بطريقة موسوعية ومنظمة، وكأنها تبتغي أن تستنزفه استنزافًا، غير أنها لا تضيف لما تستعيده شيئًا، لا تحليلًا ولا تركيبًا ولا إضافة. وهي تأخذ من مكتبتك حيزًا كبيرًا، غير أنك وأنت تصادفها تمر عليها مرور الكرام، فيما يتجه نظرك لكتاب صغير بحجم الكف، تعيد قراءته للمرة الثالثة أو الرابعة ولا تكل ولا تمل من ذلك لأنه يثير فيك الدهشة دومًا ويلهم فكرك ومخيلتك. ثمة كتب مبنية كالصرح الهائل تطبعها الضحالة ولا عمق لها، وثمة مقالات أو حوارات أو شذرات تخلخل فكرنا ورؤيتنا وتصيبنا بدهشة لا نفيق منها إلا بعد حين.

أفلاطون ضد أرسطو

ما الذي يجعل قراءة محاورات أفلاطون أقرب إلى النفس من قراءة كتب أرسطو، وقراءة كتب نيتشه أمتع من قراءة كتب هيجل أو كانط، مع أننا لا يمكننا أن ننفي عن أحدهما صفة الفيلسوف؟ فنحن لا يمكننا أن نعتبر كتب كانط وهيجل جليسنا (livre de chevet كما يقول التعبير الفرنسي)، فيما قد تصاحبنا كتب نيتشه في حلّنا وترحالنا. تدخلنا قراءة أفلاطون أو نيتشه (على سبيل المثال لا الحصر) في ضرب من الوجد والمتعة المضاعفة، بأسلوب المؤلف وفحواه في الآن نفسه، وبطريقته في التعبير عن أفكار عميقة، في شذرات لماعة، قد لا تتطلب من القارئ أن يكون فيلسوفًا أو منطقيًا لكي يتفاعل معها.

الأمر نفسه نعيشه حين نقرأ موريس ميرلو بونتي وليفيناس وموريس بلانشو، فهذه القراءة تزج بنا في صلب حياتنا وعلاقاتنا وتطرح السؤال على إدراكنا لأنفسنا وللعالم. أما حين نقرأ فريج أو فتغنشتاين فإننا نخال أنفسنا في مناظرة تعليمية يتحكم فيها التحليل المنطقي إلى حد يتطلب منا التعلم والانتباه والتركيز والتسلح بالرياضيات والتجريد اللامتناهي. لعل هذا ما يفسر كون علم الاجتماع انقسم إلى وجهتين: اتجاه كمي يعود لأوغست كونت، واتجاه كيفي يعود إلى دوركهايم، استطاع أن يستنطق الظواهر الإنسانية الأشد عمقا، من قبيل الدين والمقدس، ويكون أصلا في الأنثربولوجيا والأنثربولوجيا الثقافية التي تمنح شرعية للرمزي في الحياة الاجتماعية. بل، قريبا منا، ذلك هو ما يفسر أن فيلسوفا أفريقيا هو سليمان بشير دياني، وبعد أن نشر أطروحته عن فلسفة فريج الوضعية المنطقية، انزاح تدريجيًا عن معطياتها ليدرس الفلسفة الإسلامية وغيرها من قضايا أفريقيا الراهنية وبلغة لا نكاد فيها أحيانًا نستشف مرجعياته الأولى. فغدا بذلك أحد الفلاسفة الأفارقة الأكثر إبداعًا.

لقد كان أرسطو وراء السكولائية، وكانت السكولائية مصدرًا للنزعة الأكاديمية التي أضحت تفرخ اليوم دكاترة من كل حدب وصوب، ينتجون تآليف يجترون فيها ما جاء بها الآخرون، ويتبوؤون بها المناصب وينالون الجوائز. وما إن يمر وقت قصير حتى يغدون كالفقاعات التي لا تصمد أمام رياح التاريخ.

جاك دريدا وصفاء فتحي



وكم من مقال يغني عن كتاب

لا أخفي أحدًا أني قارئ انتقائي. وأحَبُّ الكتب إلى قلبي تلك التي أجد فيها أكثر من كتاب. فقراءة كتب محاضرات هايدغر ومقالاته أحب إلى نفسي من قراءة كتاب "الوجود والزمن"، إذ إن كل مقالة ومحاضرة أشبه بكتاب في عمقها. وكتب جاك دريدا في أغلبها مقالات تؤسس لاقتصاد جديد في الكتابة والقراءة تجعل الإفادة منها أكبر وأكثر شسوعا وتتصل بقضايا أكثر تعددا وغنى. والأمر نفسه لدى الخطيبي، الذي يقودنا في كتاباته في قضايا عديدة يجمعها في كتاب وباقتضاب شديد. المقالية essayism شكل من الأشكال التي سيكتشفها القارئ العربي مع مقالات مشيل دو مونتيني (في ترجمتنا الكاملة لها)، والتي ستجعله بالتأكيد يفضل الإيجاز والإيحاء والحرية التي تدفعه للتحليق بطلاقة في سماوات الفكر والتاريخ.

ليست المقالة حكرًا على الفكر الغربي، فأغلب مصنفات العرب القدماء لا تخرج عن هذه الحرية الخطابية، التي تحاكي بشكل ما الحرية الخطابية للقرآن نفسه. فأمهات كتبنا عبارة عن "مقالات" أو شذرات وفصول وأبواب لا رابط بينها أحيانا. "الأغاني" للأصفهاني و"العقد الفريد" لابن عبد ربه و"كتاب الحيوان" للجاحظ و"الفتوحات المكية" لابن عربي، وغيرها، عبارة عن جولات مقتضبة يمتزج فيها الحكي بالتحليل بالأخبار بالتجربة الذاتية. وهي حرية في الكتابة تمنح الحرية للقارئ كي يختار مواطن القراءة بحرية أكبر... واجتماعها في مصنف واحد لا يسلب من كل فصل أو باب استقلاليته النسبية. أليس كتاب "فصوص الحكم" من قبيل هذا؟ وكلمة "فصّ" نفسها، أليست أقرب في هذا المضمار إلى مفهوم المقالة؟

إن هذا الضرب من الكتابة لا يشكل فقط اختيارًا خطابيًا وإنما أيضًا اختيارًا أسلوبيًا. إنه أقرب إلى ما سمي في أواسط القرن الماضي بالكتابة الشذرية fragmentaire  التي تروم حرية القول والفكر. وهي كتابة مناهضة للسكولائية وللنزعة الأكاديمية ولصلابة الأنواع الأدبية في الكتابة، لا فقط بشكلها المقتضب وإنما بحريتها التي يمكن أن تتناول كافة المواضيع وبعمق باهر. إنه اختيار يناهض الكتابة الموسوعية في كليتها، والكتابة الأكاديمية في طبيعتها الجامدة والجاهزة.

الحوارات شذرات للإضاءة والكشف

حين يقرأ الواحد منا لجاك دريدا، قد يشكو من استغلاقه على الفهم، ومن استطراداته المتشابكة ومن منظوريته المعقدة. لكن يكفي أن يستمع لحواراته الإذاعية أو يشاهد الفيلم التسجيلي الذي أنجزته عنه المصرية صفاء فتحي، لكي يجد نفسه أمام شخص واضح حتى وهو ينسّب كل شيء، يحكي بطلاقة عن الفكر كما عن الحياة، ويجيب بوضوح أكبر ويكشف عن أمور ذاتية وشخصية أحيانًا تضيء عتمة الكثير من مواقفه وأفكاره. حين يكون المحاور صحافيًا أو أديبًا متمكنًا من مهنته، يستخرج من الكاتب أمورًا مدهشة أحيانًا. الحوارات الصحافية والتلفزيونية مجال يختطف الكاتب والمفكر من رصانة علاقته بالكتابة، ومن قدرته على الشطب والحذف والتراجع. ففي حضن هذا "الكلام الحي" (كما يقول بول ريكور) "يكتب" المؤلف بصوته ونبرته وتأتأته وتردده فكرًا يسكنه ويمنحه لنا في عفويته المباشرة. الحوارات أيضًا تكون سجالية سواء كانت إذاعية أو تلفزيونية أو مطبوعة. فحين كان مشيل فوكو في بداياته الفكرية، كان الحوار الإذاعي مع رايمون آرون عام 1967 مجالًا لتأكيد تحولات المنظومة الفكرية الجديدة التي كان يمثلها فوكو بشكل مميز. كما لنا في حوار برنارد بيفو مع محمد شكري (في برنامج "أبّوسطروف"، 1980) أعمق مثال على ذلك. فهذا الأخير أبدى تمكنًا باللغة الفرنسية لم يكن معروفًا عنه، وطلاقة أدخلته للعالمية سنة بعد ترجمة الطاهر بنجلون لروايته "الخبز الحافي" للفرنسية.

ثمة كتّاب ومفكرون مبدعون لا يحسنون التواصل الشفهي ولا يتقنون الارتجال. هؤلاء (ومن بينهم، على سبيل المثال دومًا، الفيلسوف الفرنسي جاك رانْسيير والمفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي)، يمارسون الحوار كتابة. وهم في ذلك، ينصاعون لقواعد الحوار، لأنهم يكونون أمام أسئلة وردود تستنطق فيهم مكنون فكرهم. وفي هذا السياق، يمكن أن نعتبر أن الحوارات التي أجريت مع الخطيبي، كانت موطنًا للكثير من التوضيحات التي تسلط الضوء على شخصيته كما على فكره. فهي تقوده أحيانًا إلى الإفصاح عن أمور ومواقف لم تتح له كتاباته الإفصاح عنها. والكتاب الحواري الذي أنجزه معه قبيل وفاته حسن وهبي (والذي لم يترجم بعد للغة العربية) يكشف لنا عن جوانب من حياة وفكر الخطيبي، لا تشير لها إلا لمامًا كتاباته وسيرتاه الذاتية والفكرية. أما المساجلات المكتوبة فإنها في نظرنا أشبه بما عُرف لدى العرب بالموازنة، أي أنها تتيح المقارنة وتكشف عن قوة أو مواطن ضعف المتساجلين. فلقد كانت مساجلات محمد عابد الجابري وحسن حنفي (في أواخر السبعينيات) مجالًا مفتوحًا لتوكيد قوة الجابري الفكرية وتوطين منهجيته العقلانية الحداثية، بالرغم من أن العديد من مواطن فكر حسن حنفي كانت أعمق.

وللأسف الشديد، فإن أرشيف الثقافة العربية وذاكرتها، إن كانا يحتفظان لنا بأغاني أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب في صيغها الأولى، فإنهما لم يوليا الاهتمام للتوثيق السمعي البصري للكلمة الحية لمفكرينا وأدبائنا ومثقفينا، ولا للحفاظ على الحوارات الإذاعية والتلفزيونية التي أنجزت لهم، باعتبارها تشكل جزءًا من ذاكرة هذه الثقافة. صحيح أن علاقة هؤلاء بالكتابة ظلت وطيدة، خاصة وأن الإذاعة والتلفزيون حتى حدود الثمانينيات ظلت أجهزة للسلطة القائمة. لكن، حتى بعد هذا الوقت، لا تتداول مواقع التواصل الاجتماعي وذاكرة اليوتيوب سوى نزر يسير من هذه الذاكرة الخصبة... فلقد ظل الكتاب المصدر الأوحد للمعرفة، والحال أن هذه الهوامش اليقظة للفكر والحوار غالبًا ما تمنحنا صورة جديدة وأقل وثوقية للمفكر والمثقف. إنها لحظات استكشاف تزج بنا أفضل في عوالمهم، وتقربنا أكثر من ذبذبات تفكيرهم. 

  

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.