}

أرخبيلات الإبداع الفني.. هل الفن العربي مُصاب بالنرجسية؟

فريد الزاهي 25 يونيو 2022
آراء أرخبيلات الإبداع الفني.. هل الفن العربي مُصاب بالنرجسية؟
(منير الفاطمي)

في أحد أعداد مجلة "إيسبّري" (Esprit) الفرنسية الشهيرة لسنة 1992، دار نقاش حامي الوطيس بين أهم نقاد الفن بفرنسا آنذاك عن مآلات الفن المعاصر، وعن مآزقه وتشتته الجمالي وغرابته الفاضحة وقطائعه الهوائية، كما عن غموضه والتباساته، وغيرها من القضايا التي يطرحها. فالفنانون سليلو مارسيل دوشان، قد حطموا قواعد الفن كلها، إذ لم تعد اللوحة الكلاسيكية مرجعًا للفن، وصارت المنشآت والمنجزات الفنية تنحو نحو الغرابة، وأضحت ذاتية الفنان من التضخم بحيث أنه أضحى يسبح في عوالم يصعب أحيانًا تقبلها: لانزياحها الراديكالي عن المعروف، أو لمديحها للتفاهة اليومية، أو لعنفها واعتمادها على معطيات جسدية غير مشهودة.

مارسيل دوشان


ومنذ مطالع الألفية الجديدة، صدرت تباعًا العديد من المصنفات كتبها فلاسفة جماليات، ونقاد للفن، وباحثون في الفنون المعاصرة تتحدث عن سراب الفن المعاصر، أو عن الحالة الغازية الضبابية التي يعيشها، كما عن نرجسية الفن المعاصر. لقد تحرر الفن المعاصر من كل إكراه، وغدت حريته مفتوحة بشكل تام، إلى حد أن هارولد روزنبر قال في كتابه "تقليد الجديد": "لكي يكون عمل ما منتميًا للفن المعاصر ليس عليه أن يكون معاصرًا، ولا أن يكون فنًا؛ بل ليس عليه أن يكون عملًا فنيًا (...) فقطعة خشب يُعثر عليها في الشارع تغدو فنًا". لم يعد المتلقي المتوسط، ولا حتى بعض العارفين، يستطيعون أن يحددوا إن كانت منشأة، أو منجزة فنية، أو منحوتة ما، فنًا أو شيئًا آخر غير الفن. وحده الناقد والمتخصص قادر على ذلك. وصاحب الرواق حين يقرر عرض أو تبني تجربة فنية معاصرة يمنحها شرعيتها. فالفن المعاصر غدا يسبح في عالم إبداعي من دون حدود، ومن دون تقاليد، ومن دون محددات. وكل المعطيات الجمالية المتداولة منذ كانط وهيجل وهايدغر، وغيرهم، غدت خاضعة لإعادة النظر، وبات من الضروري بناء جماليات مفارقة وبالغة التباين لهذه الحركية الفنية التي تسير في كافة الاتجاهات، بسرعة لا توازيها سوى السرعة التي تنتج بها الصور الرقمية وتُتداول بين الناس.
لقد غدت هذه النظرة متداولة في الفن الغربي، مع أن الفن المعاصر يعيش فورة كبرى منذ الستينيات، وتمنحه المؤسسات المتحفية والأروقة كامل قيمته، ويخصص له الدعم الكامل ماديًا ووسائطيًا. كيف يمكن تمثل هذه المفارقة؟ وهل يعيش الفن العربي المعاصر هذه النرجسية التي تمنح السلطة للذاتية المطلقة في استبطان العالم وقضاياه.


مشروعية الفن العربي المعاصر

إدمون عمران المليح 


من الأكيد تاريخيًا وفنيًا أن الفن العربي المعاصر بشكل أو بآخر هو في حضن تحولات الفن الغربي وآثاره العالمية. فأعمال محمد القاسمي، ومنى حاطوم، ومنير الفاطمي، وغيرهم، في نهاية التسعينيات، كانت بشكل ما مسايرة لتلك التحولات، واستجابة خصوصية لها. بيد أن ثمة محددات محلية جعلت منه أيضًا، وبشكل مباشر، وليدًا شرعيًا لمحيطه التاريخي والثقافي. فنحن نستطيع أن نجزم بأن اللوحة المسندية كانت دخيلة على تقاليد الثقافة العربية الإسلامية التي كانت فيها الفنون التقليدية مندمجة في الفضاء المعماري المجالي الواقعي. وأنا، وكذلك كثيرون غيري، مثل عبد الكبير الخطيبي، وإدمون عمران المليح، نعد أن هذه الفنون التقليدية ليست صنائع فقط، وإنما إرث جمالي وفني يضمن بعض الاستمرارية في الفن العربي الحديث والمعاصر. وبهذا المعنى، فإن الفن المعاصر، بحريته الفائقة، وبهجنة مواده، وبفضائيته الخاصة، قد حرّر الممارسة الفنية العربية بشكل ما من الممارسة الفنية المسندية، بالرغم من أن هذه الأخيرة استُنبتت لمدة تفوق القرن في أغلب البلدان العربية.




سيقول قائل إن الفن المسندي (اللوحة) قد غدا تقليدًا عربيًا أكيدًا، بالرغم من أنه لا ينتمي لتاريخنا الثقافي والفني. إن هذا التجذر نسبي، لأن صندوق التلفاز استوطن البيوت كلها في ظرف زمني وجيز، مقارنة مع اللوحة، ولأن تحرر البلدان العربية من تاريخ طويل في إنكار التصوير قد جعل الفن التشكيلي العربي الحديث يظل نخبويًا لحدود اليوم، وهو يدين بشكل كبير للسينما والفوتوغرافيا وجماهيريتهما شرعيته الثقافية. ولا أدل على ذلك من أن أغلب محبي الفن من الطبقة الوسطى لا يزالون يفضلون الفنون التشخيصية، ويُبدون استنكارًا معينًا كلما تعلق الأمر بالتجريدية والغنائية التعبيرية. من ثمّ فإن الحرية التي أتى بها الفن العربي المعاصر خرجت من أحضان الحرية التي نادت بها جماعة الفن والحرية في مصر في أواخر الثلاثينيات، كما من حضن ذلك الاحتقان الذي ظل الفنان العربي المعاصر يحس به عقودًا طويلة أمام اللوحة ومحدوديتها، هو الذي اعتاد على رؤية الفن في المساجد والدور العتيقة والمآثر التاريخية، وفن الخط والزواقة في المخطوطات... بهذا المعنى، فتاريخ الفن في العالم العربي تاريخ التحويلات السريعة، إذ ما كادت اللوحة تستوي كإطار للإبداع البصري، حتى بدأت طلائع عاصفة الفن المعاصر تبدو في الأفق.
لقد وجد الفن المعاصر مرتعه بسرعة لأنه مجال للتحرر من اللوحة ومن الفضاء التقليدي للإبداع. أليس الفن المعاصر بفضائيته المفتوحة وهجنة مواده، أكثر تلاؤمًا مع فن الحكواتي والحلقة بجامع الفنا، ومع الطرائق الفنية التي يرصف بها بائعو البهارات والتمور والخفاف التقليدية في المدن العتيقة بفاس ومراكش وعمان والإسكندرية؟ يكفينا أن نأخذ صورًا لهذه المنشآت "الفنية" وننسبها لفنان كي تدخل الفن من بابه الواسع... هل لي أن أزعم أن هذه الحرية والحركية موجودة في اليومي وفي الثقافة والسلوكيات الشعبية الفوضوية والمنظمة والهجينة في المدن العربية؟ لقد فقد الغرب ثقافته الشعبية، كما يقول رولان بارت، بينما هي لا زالت حية في البلدان العربية، وهي تضمن استمرارية الفنون الشعبية في حياتنا وفضائنا الثقافي. ولهذا السبب فإن فنانين معاصرين كثيرين يستلهمون الخط والحرف الشعبية كما العديد من معطيات الذاكرة البصرية.

(أحمد الشرقاوي)


هكذا، فإن القطيعة التي أحدثها الفن الحديث في ثقافتنا البصرية في أواخر القرن التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، استعادها الفن المعاصر بانغماره في ذاكرته البصرية والحياتية، وباستدعاء ما جاء الفن الحديث للقطيعة معه، أعني الواقع اليومي والفنون المجالية التي يدخل الفن الإسلامي ضمنها. صحيح أن استخدام الحرف والعلامة في الفن الحديث، منذ أعمال العراقية مديحة عمر، والمغربي أحمد الشرقاوي، وحركة أوشام في الجزائر (محمد خدة)، قد خلق استمرارية بين الفن الحديث والذاكرة الثقافية العربية والمحلية بغناها وحضورها الملحاح، بيد أن الفنانين المعاصرين أنفسهم سوف يستعيدون بدورهم هذه الذاكرة ملبسينها أحيانًا أبعادًا سياسية وأنثربولوجية واضحة.


أرخبيلات الفن المعاصر العربي

(محمد القاسمي)


هذا الاختلاف البين بين تاريخ الفن الحديث والمعاصر في البلاد العربية، وتاريخه في الغرب، لا ينفي مع ذلك الترابط والتواشج معه. لكن، مع كل تلك الاختلافات التي تمنح للفن العربي المعاصر خصوصيته، ثمة خصوصيات أخرى تجعله ينزاح عن رديفه في الغرب. إنه عبارة عن ممارسات لا تقارب العنف الجسدي (البودي آرت)، ولا البورنوغرافيا، ولا العبث (إلا أقله)، ولا التافه (إلا أحيانًا)، ولا الفراغ (إلا في ما ندر)... فهذه الخواص التي بنى عليها الفن المعاصر الغربي قطيعته مع تقاليده الجمالية لا تزال غريبة عن الممارسات الفنية العربية، وإن كان العديد من الفنانين الشباب يدخلونها عن وعي، أو عن غير وعي منهم. ثمة حدود يمارسها الفن المعاصر في البلدان العربية على نفسه (سياسية وفكرية وميتافيزيقية) تجعل حريته مرهونة بطرائق التعبير واختيار الموضوعات.




بيد أن ما يتلاقى فيه الفن المعاصر بالغرب، كما في بلداننا، هو طابعه الأرخبيلي. فإذا كان ممكنًا في السابق الحديث عن حركات وتيارات وتجمعات دلالية فنية وجمالية، فإن النرجسية التي تطبع هذا الفن بالغرب من عقود تجعل كل فنان يدور في حلقته (المفرغة أو المملوءة) بحيث يشكل كل فنان تيارًا في حد ذاته. ولا شك في أن هذا التشرذم هو نتيجة حتمية للهجنة والاشتغال على الشذري، وللمسرحة التركيبية البالغة للعمل الفني.
ثمة في الغرب نقاش دائم حول مآلات هذا الفن وتلقيه وأنماط ممارسته والتنظير له، ما بين مستنكر لانزياحاته البالغة، ومنظر لتحولاته الهوجاء. وبالموازاة مع ذلك، ثمة غاليريهات متخصصة، وكوراتورات، ينذرون عملهم لتنظيم معارضه وعيانيته. أما في العالم العربي، فإن مناطق ازدهاره جديدة (الخليج)، حيث تسهر بينالات، وتظاهرات، يشرف عليها غربيون، أو مستغربون، ويمنحون صورة عن الفن العربي المعاصر تكاد لا تتمايز عن نظيره الغربي، بالرغم من الخصوصيات التي ذكرنا.
ومع هذا الازدهار، الذي يبدو كنقطة الزيت التي تنتشر فوق سطح الماء، في كافة الاتجاهات، نكاد لا نستطيع وضع خريطة لهذا الإنتاج الوافر في بلداننا، ولا بلورة اتجاهات له، فيكتفي النقاد غالبًا بالحديث عن هذا الفنان، أو ذاك. بل إن الجماعات الفنية نفسها اندثرت، ومعها اختفت البيانات والتظاهرات ذات الطابع الثقافي والسياسي. والأدهى من ذلك، لم يعد ثمة نقاش بين الفنانين والنقاد والمهتمين، ولا أحد يجرؤ على التنديد بظواهر مرافقة لهذه الممارسات الفنية الجديدة، ولا طرحها على مائدة النقاش.
إن هذا الصمت الجمالي والنقدي يؤكد عجز ما نسميه "النقد الفني" في العالم العربي على الإمساك بتحولات جارفة تتجاوزه بشكل بالغ، وتجعله يلهث وراء كتابة "نص" عن الفنان أو ذاك، بالكثير من المديح، من غير بلورة لسياقه الفني، ولا لترابطاته الجمالية بما يحيط به، محليًا أو عالميًا. ولعمري، إن هذا ما يغذي نرجسية الفنان العربي، وسباحته لوحده من غير نظر لغيره. فالنرجسية الفنية تبطل التعالقات والتواصلات والتواشجات، كما التفاعلات الفنية والجمالية التي يمكن للفنان أن يمارسها مع الفنانين والعالم.





وهذا بالضبط ما يجعلنا اليوم أحوج إلى نظرة عصفوية تستطيع بلورة نظرة شمولية عن مآلات هذه الممارسات الفنية والحساسيات الجديدة، كما عن موقعه الثقافي في المجال البصري، وعن خصائصه وخصوصياته. فذلك وحده سيمنحنا عيانية جديدة متبصرة وقادرة على فرز الغث من السمين، والتجارب الخصبة من المحاولات الطنانة، والاستغراب الفني من التأصيل الجمالي.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.