}

رحلة البحث في مواجهة الأحوال العربية ضمن عالم متغير

كمال عبد اللطيف كمال عبد اللطيف 2 يوليه 2022

(1)

تعود بداية اهتمامي بأسئلة وقضايا الفكر العربي المعاصر إلى بداية السبعينيات، عندما سجلت أطروحتي الجامعية الأولى حول الفكر السياسي لسلامة موسى، متوخيًا من وراء هذا العمل المساهمة في بناء تصوره لمشروع النهضة العربي. ومنذ ذلك الحين، لم تنقطع علاقتي بأسئلة النهضة العربية في تجلياتها وتحولاتها المتواصلة، وإلى يومنا هذا. وقد أنجزت أطروحتي عن الخطاب الإصلاحي لسلامة موسى في صيف 1979، ونشرتها في دار الفارابي سنة 1981 تحت عنوان "سلامة موسى وإشكالية النهضة".
واصلت الاشتغال، بعد ذلك، على متون الفكر الإصلاحي العربي في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، محاولًا تركيب أبحاث تُعنى بخطاب النهضة العربية في مختلف تجلياته. وقد أثمرت محاولاتي المتواصلة في العقد الثامن من القرن العشرين، مصنفين يتممان بطريقتهما الخاصة نوعية المقاربة، التي ركَّبت عند قراءتي لنصوص سلامة موسى. أقصد بذلك نص "التأويل والمفارقة" الصادر سنة 1987، ونص "مفاهيم ملتبسة في الفكر العربي المعاصر"، وقد صدر سنة 1992. في النص الأول، وضعت عنوانًا فرعيًا رسمت فيه أفقًا محددًا في النظر، يتعلق الأمر بمحاولة إنجاز تأصيل فلسفي للنظر السياسي العربي. واتجهت في النص الثاني نحو بناء جوانب من محتوى عينة من المفاهيم المتداولة في الفكر العربي المعاصر، بهدف محاصرة صور الخلط والغموض، التي تقلص من إمكانية إنتاجية النظر وتأصيله في ثقافتنا المعاصرة. وفي العملين معًا، اتجهت للكشف عن مفارقات الخطاب الإصلاحي في فكرنا، مستهدفًا بلورة منطلقات نظرية واضحة، تمكننا من تجاوز بعض مظاهر القصور، المهيمنة على كثير من تجليات فكرنا السياسي. فهل تجاوزت في المصنفين المذكورين النتائج التي بنيت في قراءتي لخطاب سلامة موسى؟
لا أستطيع ادعاء ذلك، لكن الأمر المؤكد، في سياق ما أنجزت من أعمال، هو أنني اخترت طريقًا آخر في المقاربة، ذلك أن مقاربتي لنصوص سلامة موسى كانت مشحونة تحت تأثير عوامل سياسية مُحدَّدة، بمنطق البحث في سُبُلِ إبراز دور الفكر في صناعة التاريخ، ولهذا السبب اعتنيت في العمل المذكور، بما أطلقت عليه في خاتمة الكتاب الجبهة الثقافية النقدية، التي عمل سلامة موسى على تعزيزها بجهوده في التنوير، ودفاعه المستميت عن ضرورة الاستفادة من مكاسب ومزايا الفكر المعاصر. أما في المصنفين الأخيرين، فقد حصرت مهمتي في تعيين المفارقات، التي تشل فكرنا وتُقلص من درجات إنتاجيته، بحكم تغييب آليات التأصيل التي يفترض فيها إمكانية المساهمة في تركيب مرجعيات في النظر، يكون في إمكانها إسناد مشروع الإصلاح في ثقافتنا، والعمل في الآن نفسه على التخلص من منطق الاستعارة والنقل لحساب منطق الإبداع، وبناء الأسئلة والتوجهات التي تتجه لاستيعاب مطالب الذات، في ضوء البناء المبدع لجدليات الخصوصي والكوني، داخل التاريخ الإنساني العام والمشترك.





وفي غمرة انشغالي بمتون ومدونات الفكر العربي درسًا وتدريسًا، في الجامعة المغربية منذ سنة 1977 إلى سنة 2015، عدت إلى أصول المرجعية السياسية الليبرالية، كما تبلورت في الفلسفة السياسية الحديثة، وداخل سياق النهضة الحديثة في أوروبا، من دون إغفال صور تمثلها في فكرنا المعاصر، فقرأت بعض أعمال ماكيافيلي، وهوبز، ولوك، كما عدت إلى بعض أعمال سبينوزا، وروسو، ومونتسكيو. وبجوار المرجعيات التي ذكرت، قمت خلال ثمانينيات القرن الماضي بمعاينة جوانب من الفكر السياسي الإسلامي، وتوقفت على وجه الخصوص أمام نصوص الآداب السلطانية، كما قرأت بعض نصوص فلاسفة وفقهاء الإسلام، بهدف ترتيب نوعية التأويل التي مورست على لغة السياسة في الفكر الإسلامي. وشَكَّل هاجس البحث في سر استعانة مفكري النهضة بمفردات ابن خلدون، والماوردي، ثم الشاطبي، الحافز المحرك لعنايتي المتواصلة بخطاب ومفردات السياسة كما أنتجها الفكر الإسلامي في عصورنا الوسطى. فقد تبينت لجوء مصلحي النهضة إلى تبني كثير من مصطلحات الخطاب السياسي الإسلامي، لتقديم تصوّرات مرتبطة بفلسفة السياسة الحديثة، الأمر الذي كانت له نتائج عديدة في منظومة الخطاب، وفي منطق التأويل المنجز. وقد أثمرت جهودي في مضمار ما ذكرت مصنفات أخرى، أبرزها نص "في تشريح أصول الاستبداد" (1999)، وقد قرأت فيه خطاب الآداب السلطانية.



وفي السياق نفسه، أصدرت نص "الحداثة والتاريخ" (1999)، ونص "التفكير في العلمانية" (2000)، ثم "أسئلة النهضة العربية، الحداثة، التاريخ، التواصل" (2003)، وحرصت في هذه النصوص على تعيين حدود التأويل ودرجات التأصيل التي واكبت وتواكب فكرنا المعاصر. كما حاولت تطوير حدوس وفرضيات أسئلة نص التأويل والمفارقة. وسّعت فضاء الأسئلة وفضاء النصوص المختارة قصد إحاطة أكثر شمولًا، وتعيين أكثر دقة، وذلك بالصورة التي تسمح بمتابعة أسئلة التحول الجارية في الفكر والواقع العربيين.





وإذا كنت في نص "سلامة موسى وإشكالية النهضة" قد نظرت إلى أعمال عبد الله العروي باعتبارها امتدادًا متطورًا لجبهة التنوير الثقافي، الذي ساهم سلامة موسى مع مجايليه، من أمثال لطفي السيد، وطه حسين، على سبيل التمثيل، في وضع لبناتها الأولى، فإن أعمالي الأخيرة قد اتجهت للتأكيد على أهمية أعمال كل من عبد الله العروي، ومحمد أركون، وهشام جعيط، وناصيف نصار، ومحمد عابد الجابري، وغيرهم، في النزوع نحو تأصيل النظر في الفكر العربي. وقد تمثل التأصيل المذكور في الجهود النقدية التي بذلت من طرف من ذكرنا أسماءهم، وهم يبنون أطروحات محددة في مواجهة أسئلة النهضة. كما برز في صور الوعي بالذات، التي أصبحت بؤرة مؤسسة لأعمالهم. وفي سياق الاهتمام المذكور، أنجزت مصنفين عن مشروع كل من العروي والجابري، الأول بعنوان "درس العروي" (2000)، والثاني "نقد العقل أم عقل التوافق؟" (2002)، وهو يستوعب قراءة في أعمال الجابري.

 

(2)

اكتشفت في غمرة انشغالي بتدريس الفكر العربي المعاصر، وتدريس الفلسفة السياسية الحديثة، وبفضل جهود أجيال من الطلبة الذين واكبوا أعمالي خلال ما يقرب من أربعة عقود من الزمن، أن جهود رواد الفكر العربي لا تبني تصورات خطية محددة، وقد أتاحت لي قراءتي المتواصلة لأسئلة النهضة العربية، إدراك حالات من التراجع والتردد لا يمكن تفسيرها بمنطق النظر المجرد، قدر ما ينبغي الانتباه في موضوعها أيضًا إلى روافع التاريخ، التي تصنعها الوسائط والدعائم داخل المجتمع، وتصنع لها ما لا يسمح بالتراجع والتردد والمخاتلة. ولهذا السبب، واصلت التوقف النقدي على بعض تمظهرات الخطاب النهضوي، وخاصة في أدبيات الإسلام السياسي، التي توظف الموروث الديني والموروث التاريخي للتحصن بتصوّر معين للتاريخ وللتقدم، لا علاقة له بمكاسب الفكر والتاريخ المعاصرين.



أنجزت في العقد الأول من القرن الجديد، مصنفًا جديدًا بعنوان "أسئلة الحداثة في الفكر العربي، من إدراك الفارق إلى وعي الذات" (2007)، عدت في أبحاثه إلى مفاهيم الحرية والعقلانية والتنوير، متوخيًا تركيب ما يمكن اعتباره تحولات مركزية في الوعي العربي. لقد عدت إلى قراءة متون الفكر العربي استنادًا إلى ثلاث محطات افتراضية، محطة إدراك الفارق، ثم محطة المقايسة، وأخيرًا محطة وعي الذات، ومن إدراك الفارق في لحظة بدايات تشكل الفكر النهضوي إلى لحظة وعي الذات، حيث بُنِيَت كثير من جهود الفكر العربي، وذلك في إطار ما أصبح يُعرف بالنهضة الثانية، نقف على التصورات الأكثر مطابقة لذاتنا المتحولة في التاريخ، نقف على الصيرورة الجارية في الفكر العربي، حيث تندرج  أعمال سلامة موسى في لحظة وسطى أطلقنا عليها اسم لحظة المقايسة والمماثلة، وهي اللحظة التي تهيء الطريق نحو وعي الذات بذاتها، الوعي الذي تزداد أواصر ارتباطه بالواقع بقدر تمثله لذاته، في تنوعها وتنوع مرجعياتها داخل فضاء التاريخ الأرحب والأكبر، فضاء التاريخ الحديث والمعاصر، حيث لم يعد في إمكان أحد أن يضع نفسه خارج مقتضيات التاريخ الكوني الجارف في جريانه وتموجه الصاخبين..





عُدت في كتاب "أسئلة الحداثة في الفكر العربي" إلى نصوص سلامة موسى، كما عدت إلى نصوص فرح أنطون، ولطفي السيد، وطه حسين، إلا أنني توقفت في الوقت نفسه، أمام نصوص هشام جعيط، وعبد الله العروي، وناصيف نصار، وفهمي جدعان، وشَكَّلَت هواجس التأصيل المتمثل في بناء وعي مطابق لذاته، الخلفيات المُوجِّهة لعمليات تفكيري في نصوص الفكر العربي الحديث والمعاصر. وقد أنجزت هذا العمل في سياق يروم إعادة مواجهة إشكالاتنا بعدة جديدة في النظر، عُدَّة قادرة على القطع مع خيارات الفكر المغلق، والنظر المُستكين إلى قيم أزمنة خلت. وخلال مختلف المراحل التي اعتنيت فيها بأسئلة النهضة العربية، كنت أكتشف باستمرار أهمية مواصلة البحث في هذه الأسئلة، فأمام المتغيرات الجديدة والتحديات الجديدة، التي تواجه المجتمع العربي والفكر العربي، نفترض ضرورة مواصلة الجهد الفكري، المستند إلى منظومات الفكر التاريخي النقدي، وإلى مكاسب الدرس المنهجي المعاصر في تنوعه وتعدده، بهدف مزيد من توطين قِيَّم التواصل وقِيَّم المنزع النقدي في فكرنا المعاصر.
نُواصل في السنوات الأخيرة اهتمامنا بأسئلة النهضة العربية، وذلك بمواكبتنا لمختلف التحولات الجارية في عالمنا وفي العالم، نُعيد قراءة النصوص والوقائع، ونتابع مظاهر التحول التي تصنع اليوم في حياتنا وقائع مركَّبة، حيث أصبحت شبكات الفضاءات الافتراضية تشتبك مع الواقع في معارك مختلطة.. لم نتوقف عن الكتابة والبحث، وأصدرنا مؤلفًا بعنوان "المعرفي، والإيديولوجي والشبكي، تقاطعات ورهانات"، كما أصدرنا مصنفًا عن "الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة" (2013).. وبموازاة التحولات الحاصلة في أغلب المجتمعات العربية بعد انفجارات 2011، والتي شملت العديد من البلدان العربية، واصلت الدفاع عن الحداثة والأنوار في ثقافتنا، فأصدرت نصًا بعنوان "في الثقافة والسياسة وما بينهما" (2020). كما أصدرت نصًا آخر بعنوان "في الحداثة والتنوير والشبكات" (2021)، وفيهما معًا، أواصل مواجهة أسئلة التأخر التاريخي والثقافي في المجتمعات العربية، وأتطلع إلى مزيد من الانخراط والبحث في مواجهة الأحوال العربية في عالم متغير..
مرت اليوم أزيد من أربعة عقود على تحرير وصدور كتابنا الأول "خطاب سلامة موسى". وعندما أتأمل نصوصه ومواقفه، أتبين أن قوة خطابه تتمثل في جرأته ودفاعه عن مبدأ التعلم من تجارب الآخرين. صحيح أن مشروعه أصبح يدرج ضمن ما أطلقت عليه لحظة المقايسة، أو المماثلة، إلا أن عودة التقليد بصورة مكثفة في الحاضر العربي، يجعلني أتبيّن من جديد أهمية مشروعه، وأزداد اقتناعًا بأهمية تعزيز دوائر الوعي النقدي المسلح بمقدمات الفكر التاريخي في ثقافتنا، لعلنا نتمكن من مواصلة بناء الدعائم النظرية، التي يمكن أن تساهم في وقف مسلسل العودات التي لا تعي أهمية القطيعة والتجاوز في بناء لحظات التاريخ، ولا تعي أهمية الوعي المتجدد في تطوير الذات وإعادة بنائها. وضمن هذا الأفق، تظل الحاجة ماسة إلى أهمية تطوير هذا الخطاب، بمزيد من الإلحاح على الاستيعاب النقدي لمقدمات الحداثة والتاريخ.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.