تعتبر السينما مع صنوها التلفزيون من أقوى أنواع القوى الناعمة للتأثير في آراء الشعوب، ولربما جوهر هذه القوة الناعمة للسينما والتلفزيون تفسّرها مقولة: "صورة واحدة تساوي ألف كلمة" والتي ظهرت في السنين الأولى للقرن العشرين، حيث أبانت بشكل قطعي عن سلطة الصورة في عصرنا، أكان الأمر بشكل إيجابي أم سلبي، على غيرها من وسائل البيان البشري كالنطق والكتابة، والأهم على الناظرين إليها، فما تكرّسه الصورة الثابتة أو المتحرّكة ينحفر عميقًا في شعور ولا شعور الإنسان.
قال كونفوشيوس: "سماع الشيء لمئات المرّات، ليس أفضل من رؤيته". ونستطيع أن نلعب بكلام كونفوشيوس، بأن نستبدل كلمة (سماع) بكلمة متصادية معها، أي (القراءة) فلن يحدث فرق، فالرؤية/ الصورة ستظل أقوى من السماع والقراءة. إنّ أهمية الرؤية بالعين التي تكلّم عنها كونفوشيوس، تسمح لنا بأن نعطي للصورة ذات الأهمية، ونستطيع أن نستدلّ على هذا التشابه بين الرؤية العينية والصورة، ممّا تحويه اللغة من صور، كونها وعاء الفكر، والتي تأتي على شكل تشبيه أو استعارة أو كناية، تعبيرًا عن مفاهيم حسيّة أو معنوية، وبهذه الصور الفكرية يتحصّل الفهم والإدراك أكثر بكثير مما لو قدمت الأفكار عبر كلام مجرد محض، فكثيرًا ما لجأ الفلاسفة ورجال الدين وغيرهم من المشتغلين بالكلمة إلى الصور الفكرية واللغوية لتبيان مقاصدهم وتوضيحها؛ لذلك ذهب القديس يوحنا الدمشقي إلى مدح الأيقونة/ الصورة، حيث كان متبصرًا لتأثيرها الحقيقي في المتطلّع إليها من المؤمنين، فقد جاء كلامه إثر الحرب على الأيقونات التي قام بها الإمبراطور البيزنطي في القرن الثامن ميلادي، حيث عدّ القديس يوحنا الصورة وسيلة إيضاح مناسبة ومؤثرة لأمور الدين بالنسبة للأميين والبسطاء، ولا يجوز منعها.
كان للصورة عبر تاريخها، سواء كانت محرّمة أو مخصوصة بالأشخاص المقدّسين، ومن بعدهم السياسيين وصولًا إلى الناس العاديين، تأثيرها الحاسم على التصوّرات التي يتبنّاها الناس عن شخص ما أو عقيدة ما أو حادث ما. يذكر ريجيس دوبريه في كتابه (حياة الصورة وموتها) بأنّ تمثالًا من الشمع أي صورة مجسّمة كانت تُقام مقام الإمبراطور الميت، حيث تقدّم لهذا التمثال الشمعي المراسيم التعظيمية المناسبة لشخص الإمبراطور من عزاء ووداع إلى حين حرق الجثة، دلالة على أنّ الصورة تقوم مقام من تمثّله.
وإذا انتقلنا إلى دراسة تأثير الصورة، أكانت معنوية أو محسوسة، على أصحاب الإعاقة في وسائل الإعلام من سينما وتلفزيون، سنرى أنّها أكثر خطورة من الكلمة بشكلها المنطوق أو المكتوب، فالصورة لها إمكانية تبنّي وتكثيف وتثبيت معتقدات المشاهدين عن موضوع ما، أو تحطيم هذه المعتقدات وإعادة بنائها بأسهل الطرق.
لقد استعارت السينما والتلفزيون بداية، صورة الإعاقة السلبية التي تتواجد في تصورات ومفاهيم المجتمع بعجرها وبجرها، بل تكاد تكون حذو النعل بالنعل، وإذا كان من دليل حاسم على هذا الأمر، فلا بد من ذكر أنّ من أوائل أفلام الأخوين لوميير فيلم قصير بعنوان (المُقعَد الكاذب، 1897) فالفيلم يصوّر صاحب إعاقة يستجدي الناس العطاء، وعندما يقترب منه الشرطي ليتأكّد من إعاقته ينتصب المقعد ويجري بعيدًا وهو بكامل صحته. نستطيع قراءة معطيات هذا الفيلم القصير من بدايات السينما بعدّة طرق منها أنّ هناك من ينتحل صفة الإعاقة ليتسوّل من الناس الرأفة والشفقة، ممثّلة ببعض القطع النقدية، لكنّ القراءة السطحية للصورة المقدّمة في فيلم لوميير ستنحو إلى اعتبار الإعاقة هي سبب التسوّل، ولن ينظر إلى الخداع الذي قام به الرجل؛ ويدعم هذا التفسير أنّ كلمة (handicap/ المعوّق) ترجع إلى مصطلح: القبعة في اليد، والذي يعني التسوّل. ومن هنا تأتي خطورة الصورة ثابتة أو متحرّكة، فيما تعرضه، فهي تخاطب مباشرة قناعات وطبائع المشاهدين المكرّسة اجتماعيًا وسياسيًا، من دون أيّة محاولة لنقدها، ففي القرار الذي اتخذته النازية بتحييد أصحاب الإعاقة من المجتمع الألماني استخدمت أفلامًا سينمائية تصوّر أصحاب إعاقات شديدة، وما يترتب على ذلك من معاناة للشخص المعوّق ولأولئك الذين يعتنون به، إلى جانب التكلفة الاقتصادية الكبيرة للعناية بالمعوّقين، وكل ذلك لإيجاد الحجة المقنّعة بالصالح العام للمجتمع من أجل تعقيمهم جنسيًا، ومن ثم قتلهم.
قد لا تتبين أهمية الصورة الممثّل لها في السينما والتلفزيون بالنسبة للإعاقة، لأنّ هناك الكثير من الأفلام والمسلسلات قدمت جوانب عديدة للإعاقة، طبعًا لم تظهرها كما ينبغي، لأنّ صفة الإعاقة لم تكن تتحدّث عن نفسها، وإنّما كانت تلعب دورًا نمطيًا، كأن يصوّر المعوّق بريئًا كطفل كما فيلم (Rain Man/ رجل المطر، 1988) مع أن الفيلم مقتبس عن الأميركي كيم بيك المصاب بالتوحّد ويملك قدرات استثنائية، إلّا أنّ الفيلم أظهر شخصيته ببراءة منقطعة النظير، ممّا أفقدها واقعيتها، أو أن تعرض السينما والتلفزيون شخصية المعوّق كملهِم.
وهذا ما استنكره عالم الإعاقة بول لونجمور، وقالت عنه إحدى الناشطات في حقوق الإعاقة، إنّ تقديم المعوّق كشخصية ملهمة أشبه بــ(الإباحية الملهمة)، لأنّ المعوّق يصبح مجرد وسيلة لا غاية بذاته. وما نقصده أن تبيّن الخطورة التي تحملها صورة الإعاقة في السينما والتلفزيون من الممكن تضليلها وتأطيرها بالعواطف والتمنّيات، لأنّها إذا ذهبت باتجاه تصوير الواقع كما هو، فإنّها تجبر المجتمع على فتح عيونه على المناطق المظلمة منه، والتي يخفيها بأساليب كثيرة. يعدّ فيلم (Titicut Follies- حماقات تيتيكت، 1967) للمخرج فريدريك وايزمان من أوائل الأفلام الوثائقية التي رفعت مخرز الحقيقة في وجه عين المجتمع المغمضة، فقد صور المعاملة القاسية والضرب والتنمر على المساجين المجانين من قبل حراس مشفى (بريدجوتر الحكومي للمجرمين المجانين) في ولاية ماساتشوستس الأميركية. وأمام هذا المضمون الحقيقي للفيلم مُنع عرضه بأمر من المحكمة في أميركا. وقد كانت هذه المرّة الأولى التي يمنع فيها فيلم لأسباب لا تتعلّق بالتابوهات الثلاثة: الدين والسياسة والجنس، وإنّما لأنّه تناول قضية الإعاقة بمنظور واقعي، فمنع عرضه، وقرّرت المحكمة حرق نسخه، لأنّه بحسب وجهة نظر المحكمة كان ينتهك حقوق الناس! استأنف المخرج الحكم بالمنع، فمنحت المحكمة العليا الإذن بالعرض لمجموعة محدّدة من المشاهدين لأغراض تعليمية: "كالقضاة والمشرعين والأطباء والمحامين وعلماء الاجتماع والعاملين الاجتماعيين والأطباء النفسيين والطلاب في هذه المجالات أو المجالات ذات الصلة والمنظمات التي تتعامل مع المشاكل الاجتماعية للرعاية الاحتجازية والضعف العقلي". لكنّ الفيلم انتظر طويلًا حتى سُمح له بالعرض الجماهيري في عام 1991 وبقرار من المحكمة العليا الأميركية. لم يحدث هذا السماح إلّا بعد أن مات أكثر نزلاء ذلك المشفى!
صوّر فيلم (Titicut Follies- حماقات تيتيكت، 1967) المعاملة القاسية والضرب والتنمر على المساجين المجانين من قبل حراس مشفى |
بدأت الأفلام الوثائقية عن أصحاب الإعاقة تشق طريقها إلى الجمهور والجوائز بعد فيلم فريدريك وايزمان، فقد نال فيلم (I'll Find a Way/ سأجد طريقة، 1977) للمخرج بيفيرلي شافر جائزة أفضل أوسكار عن فيلم وثائقي قصير. يصوّر بيفيرلي طفلة تدعى ناديا لديها إعاقة وتأمل ناديا أن تلتحق بمدرسة عادية على الرغم من أنّها تعلم أن الأطفال الآخرين سيضايقونها، لكنّها أجابت عن هذا الأمر (بأنّها ستجد طريقة). لقد كانت ميزة هذا الفيلم، بأنّه صوّر شخصية ناديا، لا ما نتخيله نحن عنها.
ولقد حصل فيلم (King Gimp/ الملك جيمب) على جائزة الأوسكار لعام 2000 فقد كان عن الفنان دان كيبلينجر الذي يعاني من شلل دماغي، ولا يملك سيطرة على أطرافه، ولا يستطيع الكلام، وكانت فرشاة الرسم تثبت بخوذة على رأسه. التقى مخرجا الفيلم (سوزان هداري وويليام وايتفورد) دان عندما كان صغيرًا وأنتجا خلال ثلاثة عشر عامًا الكثير من ساعات التصوير، استخلصا منها 39 دقيقة لتكون مدّة الفيلم. شارك دان بالتصوّرات عن الصيغة النهائية للفيلم، وخاصة لمنع أن ينمّط ضمن خانة البطولة أو المأساوية، وعندما أعلن فوز الفيلم قفز دان من كرسيه تعبيرًا عن فرحة النصر.
يقال بأنّه في غرفة التحرير والمونتاج تصنع الحقائق، وذلك بعمليات القص واللصق والحذف والدمج، وتهدر في الوقت نفسه الحقائق بذات العمليات. في تلك الأفلام الوثائقية التي عرضنا لها استبعدت غرفة التحرير والمونتاج من يد المتكلّم الآخر، وأعطيت لأصحاب الإعاقة، ليكونوا ذاتهم بعيدًا عن القص واللصق والحذف والدمج. هذه الأفلام طرحت على صناع الصورة حقيقة أنّ استبعاد أصحاب الإعاقة عند التعرّض لحالتهم واستبدالهم بممثلين أصحاء لن يكون في صالحهم، ولذلك بدأنا نرى أفلامًا ومسرحيات ومسلسلات يأخذ فيها أصحاب الإعاقة أدوارهم كما في سلسلة (Blind Love/ الحب الأعمى) الذي يصور أربعة من فاقدي البصر في سعيهم نحو الحبّ، لكن هذا لا يعني أن أفلامًا صورت حياة المبدعين كهيلين كيلر أو ستيفن هوكينغ، عالم الفيزياء النظرية وعلم الكون، ليست إيجابية، لكن لنتصوّر لو كان من أخذ دور هيلين كلير ممثلة لها حالتها، كذلك الأمر عن هوكينع، فكم سيكون الأمر رائعًا. أخيرًا بدأت مقولة سقراط: "تكلم كي أراك" تأخذ معناها الحقيقي في صناعة صورة المعوّق الحقيقية، ولا بد أن الأمر سيتطور جدًا وتصبح صورة المعوّق تساوي الحياة بأبعادها كافة.
*كاتب سوري.