هذا كلام فيه خلط وخبط وليس فيه أي تأريخ البتة؛ إنه تخريط وتفشيط وتخليط فالخرّاط كثير الكذب، والتخريط هو الكذب الذي لا يمكن تصديقه. والفشّاط هو الذي يروي قصصًا كاذبة عن نفسه. أما التخليط فهو كلامُ مَن خالط عقله لوثة. وفي هذا المضمار تحفل مطموراتنا ومحفوظاتنا بمؤلفات هذيانية لا تثير الدهشة بقدر ما تثير السخرية، وأشهرها كتاب القزويني "آثار البلاد وأخبار العباد". وهذا الكتاب يُعتبر من "المراجع الفواجع" الذي يعج بالكتابات الخرافية والحكايات الغرائبية، فهو يروي على سبيل المثال، قصة مدينة إرم ذات العماد وبنائها بالذهب والفضة، وحكاية مدينة النحاس في صحراء سجلماسة التي وُضع فيها حجر من المغناطيس يجذب إليه كل مَن يقترب من المدينة. ولم يقف أحد على أي أثر لهذه المدينة الخرافية، ونفى ابن خلدون أن تكون تلك المدينة موجودة أصلًا.
ولم يتورع القزويني عن الاسترسال في مخاريقه، فقال عن الحسين بن منصور الحلاج إنه كان يركب الأسد، ويتخذ الحيّة سوطًا بيده، ويمد يده إلى الهواء فيعيدها مملوءة بالدراهم. وهذا المؤرخ كاذب وخائب في ما كَتَبَ وفي ما نُقل عنه، خصوصًا أن الخليفة العباسي المقتدر بالله قدر على الحلاج بسهولة، وأعدمه ولم يتمكن من تخليص نفسه.
ماركو بولو وجزائر النساء
ثمة هوس في عبادة النصوص القديمة وتصديقها والتسليم بما ورد فيها من غير أي تبصر. ولعل أحد أسباب ذلك هو كثرة ترداد الشيوخ لها في المنابر والمجالس. ويروي إبن الأثير في كتابه "الكامل في التاريخ" (بيروت: دار صادر، 1965) أن خالد بن الوليد سار من العراق إلى الشام إنفاذًا لأمر الخليفة أبو بكر في ثمانمئة فارس، وقيل في ستمئة فارس، وقيل في خمسمئة فارس، وقيل في تسعة آلاف، وقيل في ستة آلاف. ولما وصل إلى ماء قراقر على الطريق بين السماوة والشام، أمر قادة جيشه بتعطيش الإبل المسنّة، ثم سقايتها "عَلَلًا بعد نهل" (أي شربتان: الأولى نَهَل والثانية عَلَل) حتى ترتوي، ثم صرّوا آذان الإبل وشدّوا مشافرها كي لا تجتر. وبعد يوم وليلة شقّوا بطون عشرة من الإبل، ومزجوا ماءً في كروشها بما كان في الألبان، وسقوا الخيل، وتابعوا المسير. ويبدو أن ابن الأثير لا يدرك أن ما في بطون الإبل لن يبقى ماءً بل يتحول مع عصائر البطن إلى كتل من القذارة اللزجة المقززة. وعلى غرار القزويني وابن كثير خرط إبن بطوطة في رحلته المسماة "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار" حكايات خيالية جعلت إبن خلدون يسميها "أكاذيب إبن بطوطة". مثل طائر الرخ الذي اعتقد إبن بطوطة أنه جبل في البحر، ولم يتبين الحقيقة إلا حين ارتفع الجبل في الهواء عند طلوع الشمس. وعلى غرار إبن بطوطة الذي أوكل إلى أديب من أهل فاس يدعى محمد بن الجزّي الكلبي كتابة تفصيلات رحلته، كلّف ماركو بولو روائيًا من بيزا يدعى روستيشيلّو أن يصوغ له كتابه "وصف العالم أو عجائب الدنيا" بعد أن أملى عليه ما جرى له في رحلته المشهورة إلى الصين، فحشاها بقصص خرافية عن البحر والنساء. وقبل ثلاثين سنة أصدرت الباحثة البريطانية فرانسيز وود، وهي رئيسة قسم التاريخ الصيني في المكتبة العامة في لندن، كتابًا اعتبرت فيه ماركو بولو كذّابًا، وبيّنت أنه لم يصل إلى الصين، بل لم يتوغل في آسيا أبعد من القسطنطينية، ومعظم ما ورد في كتابه إنما هو مرويات سمعها من تجار عائدين من الصين. ودليلها أنه لم يأتِ على ذكر سور الصين ولا حتى الشاي ولا الكتابة على الورق، بل ترك العنان لمخيلته، أو لمخيلة روستيشيلو، كي تبتدع حكايات عن جزر النساء ووحوش البحر.
نيرون لم يحرق روما
الرواية الشائعة تقول إن الإمبراطور الروماني نيرون أحرق روما في سنة 64 ميلادية، وراح ينظر من إحدى التلال إلى النار وهي تلتهم بيوت عاصمته، فيما كان يترنم بأشعار هوميروس، ويعزف على القيثارة، ثم ألقى باللائمة على القدّيسين بطرس وبولس وأعدمهما.
وارتبط اسم نيرون بالطغيان والفجور لأنه قتل زوجته الأولى أوكتافيا، ثم قتل زوجته الثانية بوبيا بركلها حتى الموت وهي حامل، وقتل أمّه أغريبينا التي كانت تزوجت، بعد وفاة زوجها والد نيرون، الإمبراطور كلوديوس، الذي عادت وقتلته بالسم كي تضمن وصول ابنها إلى الحكم. وكان نيرون أرغم حتى معلمه سينيكا على الانتحار. أما حكاية حرق روما فهي حكاية مخترعة كتبها كاسيوس ديو بعد نحو 150 سنة على واقعة الحريق.
نعم، احترقت روما في عهد نيرون. لكن، هل هو مَن أحرقها حقًا؟ لقد تبين أن نيرون لم يكن في روما حين اندلع الحريق، بل في مدينة أنتيوم وهي مسقطه. ولما علم أن روما تحترق هُرع عائدًا إلى عاصمته، وأمر فورًا بإيواء الذين احترقت منازلهم، وقدم أموالًا إلى جميع مَن سارع إلى إعادة إعمار المدينة، وأصدر لاحقًا كراسًا يتضمن قواعد ملزمة للشعب للوقاية من الحرائق، ولم يكن يشاهد الحريق من تلال المدينة، ولم يترنم بأشعار هوميروس، ولا بأنغام القيثارة. وجرى التأكد من أن النيران اندلعت جراء حرارة فصل الصيف، وأتت على تسعة أحياء من أصل أربعة عشر حيًّا كان يتألف منها مركز المدينة. وهذا ما ذكره المؤرخ تاسيوس صاحب كتاب "التواريخ" بعد نحو خمسين عامًا على حادثة الحريق، وبعد نحو ستة وأربعين عامًا على موت نيرون (68 ميلادية) مطعونًا في حلقه وعنقه. ومن باب المقايسة فحسب، فإن الإمبراطور قسطنطين الثالث أمر بقتل ابنه البكر خريسبوس، وقتل زوجته الثانية فاوستا. فلماذا صار نيرون طاغية وقسطنطين إمبراطورًا عظيمًا؟ وفي هذا الميدان من المقايسة يبدو نيرون طفلًا جميلًا يلهو بالنار مقارنة بنتنياهو وغالانت وهليفي وسموتريتش وبن غفير وجدعون ساعر الذين أحرقوا غزة وصور والنبطية وبعلبك بسكانها.