هل الواقع أكثر قسوة من الخيال؟ سؤال تجيب عنه الأفلام الوثائقية بكل شفافية، فهي التي اختارت أن ترصد الواقع وتواجهنا بالحقائق، بالصوت والصورة، وترفع يد العالم عن فمه الصامت، على كل تلك الجرائم التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني، كاشفة زيف شعارات صون حقوق الإنسان والحيوان والمناخ والبيئة.
فالواقع الذي تصوره بعض أفلام وثائقية مثل: حالة عشق، أو قصة طفل، أو حكاية مفتاح، ويوم دراسي، أو معاناة فوق كيلو متر واحد، وحلم عابر، وجلد ناعم، أو سن الغزال، أو خارج التغطية، وغير ذلك من مئات العناوين ليوميات القهر العربي، فهي تنقل معاناة الناس المليئة بالرعب والخوف والرجاء ومقاومة الموت، في حياة لا تلملم مشاعرها كلمات شاعر، أو ترصدها جمل روائي، إذ هي ليست مستوحاة من خيال، ولا تخفف بفيضها من عبء أحمال أهوال المجهول. إنها الحقيقة، مجرد حقيقة، تقذفها الصورة أمام المشاهد، وتواجه مرتكبها، وتتحدى كل وسائل الإعلام التي تغيبها، هي أفلام الواقع، التي توثق الحدث، وقد تفوقت بوحشيتها على الخيال الذي صار أقل رعبًا منها.
تعزّز الأفلام الوثائقية في المهرجانات الدولية حضور الهموم العربية، وبالأخص واقع الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي، بشكلها الحقيقي الذي يلامس حياتهم في مجتمعاتهم. فنحن إزاء قصص تروي تحديات قسوة الظروف المعيشية، وتفضح انتصاراتنا الوهمية، وهزائمنا المستترة، وسريالية صداقاتنا وعداواتنا، الخذلان والمناصرة، وأحيانًا هي تعرّفنا بما لا نعرفه عن أنفسنا، أو نحاول تجنّب معرفته، تكشف لنا عبر شخوصها عن أمراضنا وهواجسنا، أفراحنا وأحزاننا، وعن مواضع الوجع التي نتألم منها، تصارحنا بضعفنا وشجاعتنا، "أبطالها" هم دواخلنا التي نكبح صرخاتها، ضمائرنا المستفزة ومشاعرنا التائهة، هي التاريخ الذي تسطّره يوميات مآس عربية، تحت عين "كاميرا" صادقة وموضوعية.
ما تركته الأفلام الوثائقية الفلسطينية المشاركة في مهرجان القاهرة الدولي، مؤخرًا، من أثر عميق، ليس فقط لنيلها جوائز، أو الاحتفاء بصناعها على المنصة الرئيسية، وإنما لقدرتها على أن تشكل الحدث المركزي لنخبة من الفنانين، يؤكد أنها صارت من الأدوات السينمائية التعبيرية الأكثر تأثيرًا في نشر الوعي وتعريف العالم بالقضايا الإنسانية الهامة، ولا سيما القضية الفلسطينية، فهي من خلال تقديمها لروايات حقيقية وتوثيقها للأحداث والوقائع اليومية إضافة إلى استحضارها التاريخ الحقيقي للمنطقة، وتقديمه بثوبه الثقافي والإنساني، تعدّ إحدى الأدوات الناعمة في مقاومة وصدّ محاولات طمس، أو محو، الهوية الفلسطينية التي تمارسها إسرائيل على مرّ السنين.
وقد مثّلت مهرجانات السينما الدولية والعربية، منصة مهمة لعرض الأفلام الوثائقية الفلسطينية أمام الجمهور العالمي والعربي. وهي ليست مجرّد حدث ثقافي أو فني، بل أيضًا فرصة للتعريف بفلسطين من كل النواحي، أي حكايات البشر وعاداتهم وظروفهم وفنونهم وأغانيهم ومأكلهم وملبسهم، وتاليًا لإيصال صوت الفلسطينيين ومعاناتهم للعالم. وكما شهدنا فإن هذا النوع من المشاركة مكن للفنانين الفلسطينيين من إبراز واقعهم اليومي، وأيضًا تراثهم الثقافي، والفني، الغني الذي سعى الاحتلال الإسرائيلي لتزييفه وتحريفه وسرقته.
لذا يمكن اعتبار المثابرة على المشاركة في المهرجانات مثل مهرجان القاهرة أو غيره من المنصات العالمية ضرورة ومهمة أخلاقية لتسليط الضوء على القصص الحقيقية لشعب يرزح تحت الاحتلال، وهو ما يساعد على تعزيز الرواية الفلسطينية الحقيقية في الأوساط الثقافية والفنية العالمية.
في ظروفهم المأساوية، وبخاصة في ظل الحرب التي يواجهها الفلسطينيون في غزة والضفة الغربية، تدور الكاميرات بين ركام البيوت والمدارس والمستشفيات، وفي الخيام، وعلى أبواب الأفران، وفي ساحات تقديم القوت اليومي، لتقدّم نفسها كوسيلة مقاومة، ترفض الاندثار والتغييب، وكوسيلة فضح لفاشية إسرائيل، لتسهم في تشكيل الوعي العالمي تجاه القضية الفلسطينية، من خلال نشر الحقائق عن الوضع الفلسطيني، بأسلوب يتجاوز السياسة المباشرة، إلى الفن، عبر الصورة الواقعية، التي تلامس القلوب والعقول. فالأفلام الوثائقية الفلسطينية تقدّم الواقع الذي تحاول إسرائيل، عبر تحكّمها بكثير من وسائل الإعلام، حجبه أو منعه من النشر أمام الرأي العام العالمي.
ربما أن هذه الأفلام قد لا تكون نقطة جذب تجاري يتسابق إليها المنتجون ورعاة الفنون، في ظل شيوع الفن لأجل الفن أو لأجل الترفيه والاستهلاك، والتعامل معها كمجرد "بزنس"، لكن دعمها وتمكينها من الحضور عالميًا وتمويل إنتاجها، يمكن أن يمثّل قيمة وطنية تعلي من شأن قيم الإنسانية، والدفاع عن قضايا كبرى، كالحريات وحقوق الإنسان والحفاظ على البيئة، ومنها القضية الفلسطينية، التي تشهد محاولة اغتيال علنية، ما قد يكون حشد المؤيدين لها وسيلة لحلحلة "الحبل" الذي يحاول خنقها، وهي مهمة إنسانية وثقافية ووطنية. وهذه ليست فقط مسؤولية الفنانين الفلسطينيين، بل تقع على عاتق المموّلين العرب قبل غيرهم، فهل يكون مهرجان القاهرة السينمائي إلى جانب غيره من الفعاليات، مفتاح الفرج للدعم المالي لهذا الفن الرفيع، والمترفّع عن الابتذال والخديعة وتزوير الوقائع والحقائق التي تمارسها آلة إعلام إسرائيل ومناصريها؟
من المؤكد أن المهرجانات السينمائية تمثّل فرصة لخلق جسور بين الثقافات، وتفعيل التضامن الدولي الإنساني، والمفترض أن على رأس أولويات رسالته الحفاظ على كرامة الإنسان وحياته، وبدعم مثل هذه الأفلام، يتم التأكيد على أن مجتمع الفن لا يقتصر على "ترف" الثقافة، بل هو أداة قوية في خدمة القضايا الإنسانية.