أمام تراجع سلطة الوثيقة المكتوبة بمختلف أنواعها وألوانها والتي ظلّت المدرسة المنهجية أو الوضعية تعمل على تكريسها مع كل من شارل لانغوا وشارل سينيوبوس، يجد الباحث أو المؤرّخ في العالم العربي نفسه في وضعية صعبة وهو يروم إلى التفكير خارج صندوق الكتابة التاريخيّة التقليدية، مُفكّرًا في تجديد صنعته المعرفية على مستوى البحث التاريخي، بغية اجتراح تصوّر إبستمولوجي نظري جديد يُتيح له على الأقلّ فهم التطوّرات العلمية التي ألمّت بمفهوم الوثيقة على مدار تاريخها. إنّ الكتابة التاريخيّة في حاجةٍ اليوم إلى تجديد ملامحها والبحث لها عن أفق مغاير تتشابك فيه مع معارف وأفكار وقضايا ونظريات ومفاهيم مستمدّة من علوم أخرى، تلعب دورًا حيويًا بالنسبة للتاريخ، إذْ تُزوّد المؤرّخ بمقاربات متنوّعة في النّظر إلى بعض المراحل التي تمُرّ منها البشرية خلال حقبةٍ تاريخية معيّنة. فقد كشف الانفتاح على علم الآثار مثلًا عن تقدّم الكتابة التاريخيّة وتصحيحٍ بعضٍ من الأخطاء الواردة في المراجع والمصادر. ذلك أنّ علم الآثار يمتلك من الوسائل ما يجعله مؤثّرًا في حاضر الكتابة التاريخيّة، إذْ يقوم بضبطها وتجويدها من الناحية المنهجية، بحيث يُتيح لها إمكانية كتابة تاريخ جديد، انطلاقًا من أعمدة وتيجان ونقوش صخرية ومواقع أثرية ومسكوكات وكتابات منقوشة وغيرها من المصادر المادية التي تؤثّر في عملية الكتابة التاريخيّة وتجعلها تنحو صوب التجديد.
أمّا الانفتاح على الفنّ فهو يعطي للمؤرخ إمكانات إضافية للتفكير والتأمّل والبحث عن شكل من الكتابة التاريخيّة التي تقرأ الدول والمجتمعات والشعوب من تاريخها الجمالي وليس من باب السياسة والاقتصاد فقط. مع الأسف، لم يستغل المؤرّخون العرب الوثائق البصريّة ولم يجعلوا منها مادة للتفكير والتأريخ، بل كلّ ما يوجد عبارة عن وثائق سبق للعديد من الباحثين أنْ اشتغلوا عليها ومعلومات كثيرة متراكمة ومترسّبة في النسق الثقافي العربي، فيُعاد توليفها وكتابتها من جديد. فإذا عُدنا إلى تاريخ الفكر الغربي المعاصر سنجد العديد من المفكّرين جعلوا من الفنّ ليس وسيلة للتأريخ وإنّما للتفكير والتأمّل، كما هي الحال مع جيل دولوز وميشيل فوكو وبيير بورديو وناتالي إينيك وجاك أمون وإدغار موران. فكلّ هؤلاء المفكّرين كتبوا مؤلّفات تُعدّ اليوم مرجعية وأساسية في المجال الفنّي، بحكم ما تحظى به من أهمية لدى كوكبة من الباحثين والمفكّرين العرب. هل يتعلّق الأمر ببنيةٍ عربية تقليدية ما يزال تفكيرها مُنصبًّا على الخطاب المكتوب، بوصفه أفقًا بالنسبة لها؟ أم أنّ سوء فهم واستيعاب براديغم التاريخ المعاصر، يجعل العرب يُلخّصون التاريخ في منطلقاته السياسيّة وتجلّياته الاجتماعية وديناميته الاقتصادية وينسون مفاهيمه الجماليّة؟
على هذا الأساس، شكّل البحث عن وثائق جديدة خطوة هامة لدى الباحثين والمؤرخين العرب من أجل الوصول إلى وثائق بصرية تُساعدهم على فهم طبيعة بعض المراحل السياسية المُتّصلة بالزمن المعاصر. خاصّة وأنّ هذه المرحلة ما تزال وثائقها غامضة ويصعب الحصول عليها بسبب الحصار الشديد الذي توليه السُلطة تجاه هذه الوثائق، على الرغم من أنّ العديد من المؤرخين يعتبرون أنّ هذه الوثائق تحتاج إلى وقتٍ طويل حتّى تنضج في ذهنية المؤرّخ وتكتسب شرعية على المستوى المعنى. في حين يُفضّل بعض الباحثين التصادي مع هذه الوثائق بدون ترك أيّ حدود أو سياجات معها، مهما كانت حرارتها من الناحية السياسية ومدى تأثيرها في المجتمع.
يعتبر المؤرّخ الفرنسي مارك فيرو أحد أبرز المؤرخين الفرنسيين الذين راهنوا في مشاريعهم الفكريّة على فكر الصورة (Getty) |
لعبت مدرسة الحوليات والتاريخ الجديد دورًا بارزًا في توطيد معالم حداثة البحث التاريخي وجعل الكتابة التاريخية تنتقل من الطور السياسي صوب الانفتاح على المجال الحضاري الذي يغدو فيه المؤرّخ مُنصتًا لجماليات المعمار وفتنة الموسيقى وشعريّة الصورة السينمائية ورحابة اللوحة المسندية وجماليّاتها. وهو تحولٌ أنطولوجي تبلور بشكل أقوى في الغرب عبر الانفتاح على الأرشيف السينمائي بحكم ما يُتيحه من إمكانات فكريّة بالنسبة للباحث في التاريخ على مستوى التفكير والتأمّل. والحق أنّ الأرشيف السينمائي الغربي في فرنسا وأميركا وألمانيا له ما يُميّزه من ناحية التنظيم وذلك لأنّ الثقافة الغربية تُؤمن بقوّة الأرشيف الذي تعتبره تراثًا وطنيًا ينبغي الحفاظ عليه. ويعتبر المؤرّخ الفرنسي مارك فيرو أحد أبرز المؤرخين الفرنسيين الذين راهنوا في مشاريعهم الفكريّة على فكر الصورة، إيمانًا منه بقيمة هذا المفهوم وما يُمكنه أنْ يلعبه من دورٍ فعّال بالنسبة للمؤرّخ. لكنْ في رهانه على الصورة ظلّ فيرو حريصًا على استشكال نماذج من التاريخ الفرنسي، انطلاقًا من الصورة السينمائية أو الفيلم التاريخي، على أساس أنّ هذا النوع الفيلمي، يُعطي للباحث إمكانية الرجوع إلى بعض الأفلام السينمائية والتعامل معها في كونها وثائق بصريّة تمنحنا بعضًا من المعارف، رغم أنّ السينما في طبيعتها ومُنطلقاتها لا تُقدّم نفسها على أساس أنّها وسيطٌ بصريّ يُقدّم معرفة، لأن أغلب ما يعنيها هو مفهوم التخييل الذي يُعدّ شرطًا أساسيًا وعنصرًا جماليًا لأيّ عملٍ فنّي.
وتظلّ الأرشيفات السينمائية العربية مبعثرة، حيث يجد الباحث في التاريخ نفسه مرغمًا على الحفر في مآسي هذه الصناعة والبحث عن الأفلام والبطائق والبوسترات بطريقة عشوائية، لأنّ أغلب المؤسسات العربيّة لم تنتبه إلى الأرشيف السينمائي إلاّ في اللحظة التي شعرت أنّ هويتها البصريّة باتت مُهدّدة من لدن الاستعمار. وإلى حدّ الآن لم تعمل هذه المؤسسات على شراء أو المطالبة باسترجاع بعض الأشرطة المُصوّرة قديمًا وإعادة ترميمها وتوثيقها وأرشفتها والحفاظ عليها من أجل النقاد والباحثين. إنّ الوعي بقيمة الأرشيفات البصريّة ما يزال ضعيفًا في العالم العربي ولا يوجد إلاّ النزر القليل من هذا الأرشيف الموجود في المؤسسات الغربية والذي يضطر من خلاله الباحث إلى السفر والحصول على ذلك الأرشيف البصري. ورغم أنّ المؤرّخ العربي أعلن منذ سبعينيات القرن العشرين اتخاذه من الحداثة أفقًا للتفكير في تجديد مهنته، إلاّ أنّ المؤلّفات التي تُطالعنا هنا وهناك لا تُقدّم أيّ جديدٍ يُذكر على مُستوى الانفتاح على وثائق تاريخيّة مغايرة تُساعدها على كتابة تاريخ جديد. فما يزال البحث التاريخي المغربي غارقًا في السياسة وأوحالها والانغماس في بعض من الظواهر الاجتماعية التي أشبعت بحثًا، لكنّ الباحثين يرون فيها مادة لإعادة اجترار الكلام وإنتاج خطاب، بقدر ما يتكرّر من بحثٍ إلى آخر، يُصبح الحدث التاريخي بمثابة يقينية عمياء لا تقبل التشكيك في حالة ما جاء باحث آخر واعتمد على وثائق جديدة تُدين وتُحقّق في طبيعة بعض الأحداث السياسيّة ومدى صحّتها من عدمها.
أعتقد أنّ الانفتاح اليوم في زمن الصورة على الأرشيف البصري سيُساعد لا محالة المؤرّخ على تجديد صنعته وتأصيلها من الداخل على المستوى المنهجي، الشيء الذي سينعكس إيجابًا على شكل الكتابة التاريخيّة ويقودها إلى البحث عن زوايا نظر أخرى. فالأرشيف البصري لم يُستغل اليوم وبإمكانه أنْ يُزوّدنا ببعض من الأفلام السينمائية والأشرطة الوثائقية والصُوَر الوثائقية التي تمنحنا بشكلٍ ضمني تاريخًا جديدًا أكثر حقيقة وواقعيّة من ذلك الذي تُقدّمه لنا بعض المصادر والمراجع على اختلاف منطلقاتها المعرفية ومَشاربها الأيديولوجية. ذلك أنّ الصورة مهما طبعها من بعدٍ جمالي، فإنّها تبقى حريصة على توثيق الواقع/ الحدث والتعامل معه على أساس أنّه أولوية بالنسبة لها وليس العكس، كما تتبنى ذلك الأنساق المعرفية.