"منذ ثلاثين سنة وأنت تحملينني على ظهرك كالجنديّ الجريح، وأنا لم أستطع أن أحملك بضع خطوات إلى قبرك، أزوره مُتثاقلًا، وأعود مُتثاقلًا، لأنّني لم أكن في حياتي كلّها وفيًّا أو مباليًا بحب أو شرف أو بطولة"- بهذه الكلمات وصف الشّاعر محمد الماغوط زوجته سنيّة صالح في كتابه "سيّاف الزهور"، وهي تُصارع مرضًا عضالًا في مستشفى "بول بروس" في "فيل جويف" في فرنسا، قبل وفاتها في 17 آب/ أغسطس 1985 بدمشق. وقد تضمّنت مشاعره الحقيقية تجاه سنيّة التي وصفها بالآلهة الرقيقة والحنون.
وفي عبارة أخرى يقول: "سنيّة هي حبي الوحيد، نقيض الإرهاب والكراهية، عاشت ظروفًا صعبة، لكنّها ظلّت على الدوام أكثر من مدينة، وأكبر من كون، ربما آذاها اسمي، فقد طغى على حضورها، وهو أمر مؤلم".
ربطت سنيّة صالح والماغوط علاقة زواج فيها الكثير من العنف والحنان، وابنتان جميلتان هما شام وسلافة الماغوط، كتبت لهما الأم الشّاعرة خلاصة علاقتها الملتبسة مع الحب والحياة، ونظرة وجوديّة كئيبة، لا تدركها سوى الأرواح العميقة والمنطوية على بحر من التساؤلات الأنثوية والغرائبية في آن.
"شدّي جزعك إلى جزعي/ أدخلي عظامك في نفق عظامي/ ثم اسحبي ما تبقّى من جسدك واعبري/ ستكون أمامك ممّرات طويلة ضيّقة/ والحقيقة تكمن في أشدّها ضيقًا/ حاذري أن تنسي أنك ذاهبة لتصرخي/ وترفضي لا لتنحني"- هكذا وقفت سنيّة لتخاطب الله عبر ابنتيها في "مليون امرأة هي أمّك"، كانت نفسها الشّاعرة التي لم تطرق باب الشّعر لتستفيد منه. وتقول في قصيدة مرهفة لابنتهما: "سلافة تهزّ شجرة الغيوم/ فتسقط الدموع كلّها"...
هي المتوارية خلف باب بيتها، تحلم من بعيد، وتكتب للبعيد، وتهمس على الورق قصائد بإمكانها أن تطير.
تقول الناقدة خالدة سعيد في مقدّمتها لأعمال أختها الكاملة: "سنيّة طلبت من الحب ما طلبت من الشّعر. طلبت من الحب أن يكون ثأرها من العالم وحصانها السحريّ للنجاة. وكان للماغوط بدوره محنته وثاراته من العالم. ولم تكن حياتهما معًا شعرية دائمًا على الرغم من التواطؤ الشعريّ الذي استمرّ بينهما".
هي التي ساعدت الماغوط، الذي كان مغضوبًا عليه بسبب مقالاته الساخرة، ولازمته في عزلته وأمّنت له الحب والسجائر والطعام، وربما أكثر المواد سحرًا وهو الشّعر.
ويمكننا التأكيد على فرادة سنيّة ولغتها الخاصة، وابتكارها لعالمها الشعريّ، حيث تبدو الحداثة جليّة بين طيّات دواوينها الأربعة: "حبر الإعدام، الزمان الضيّق، قصائد، ذكر الورد"، وكذلك في محاولاتها القصصية.
تحاول صالح، في جميع كتاباتها، السباحة في الأعماق، بعيدًا عن المألوف والمتاح، هي التي عاشت في زمن لا يشبهها، وزاولت مهنة بعيدة كل البعد عن أحلامها الشّعرية البعيدة المنال.
حاولت الشّاعرة مقاومة الموت من خلال القصيدة، وإنكار الألم الجسديّ وإيجاد تفسير آخر للأشياء، خاصة وقد رافقتها مشاعر الخيبة في تكوين العالم ككل وهويّة الإنسان، وتآكل الوجود كمفهوم ساقط من أوجاعها النفسية والجسدية المتفاقمة عبر مراحل حياتها الضبابية والصعبة على حد سواء، "فكان الشّعر الضوء السّري الذي، بقدر ما يكشف هول الصراع في التجربة، يقدم المعاني الخلاصية"، و"أيّتها اللؤلؤة،/ نمت في جوفي عصورًا/ استمعتِ إلى ضجيج الأحشاء وهدير الدماء/ حجبتك طويلًا/ ريثما يُنهي التّاريخ حزنه/ ريثما يُنهي المحاربون العظماء حروبهم/ والجلّادون جلد ضحاياهم/ ريثما يأتي عصرٌ من نور/ فيخرج واحدنا من جوف الآخر".
"وُلدتُ لأبوين عائدين من دفن ابنهما الذكر الوحيد"- هذا ما كتبه الشّاعرة سنيّة صالح التي ولدت في بلدة مصياف بسورية يوم 14 نيسان/ أبريل 1935، في مذكراتها التي صدرت بعد موتها. تحمل هذه العبارة الكثير من الموت والحزن الدفينين، وتحمل وجع الفتاة الصّغيرة بسبب صمم أمّها الذي أثّر على طفولتها، خاصة وأنّها لم تتجاوز الثالثة من عمرها، لذلك مالت بعد موت والدتها إلى الانزواء والصمت. اختزنت الذكريات وأحجمت عن التّعبير الشفهيّ، ولجأت إلى الشّعر لتُهندس حياتها الدّاخلية، حيث كان للذكورية بطشها وبراثنها التي تركت ندوبًا داخلية وتداعيات نفسية تجلّت على الورق.
ففي شعرها الكثير من المفارقات المليئة بالطفولة والشّعر والملائكة والدمى الكونية، والكثير الكثير من الحزن المتخفي في خيالاتها الوجودية حول المصير والتعب من المجهول، وهوية الحياة الداكنة، وضبابية المطلق.
حضّرت في شعرها عوالم غير مرئية ومفردات من علم الكيمياء والفيزياء والأساطير والطب والآلات، إلى جانب الحسّ المرهف والذكريات وملموسية العالم الواقعيّ بما فيه من لحظات اعتيادية وخيالات خارجة عن السيطرة.
فكيف أصبحت سنيّة صالح شاعرة؟ بعد أن كانت تخربش نصوصًا على هامش كتبها المدرسية انتبهت الشاعرة إلى ما تكتب بعد وصولها إلى لبنان ودراستها في الجونيور كولدج، فقدّمت قصيدة "جسد السماء" لمسابقة جريدة "النهار" في عام 1961، لتفوز بالجائزة التي فاجأتها وكرّستها شاعرة في سياق تستحقه وجديرة به، وكانت اللجنة مؤلفة آنذاك من كل من شوقي أبي شقرا، صلاح ستيتية، فؤاد رفقة، أدونيس وأنسي الحاج.
"جسد النساء مظلم وحزين/ فليكُن الليل آخرَ المطاف/ الإضاءة وهميةٌ ومؤقتة/ وأكثر حساسية أجنحة الصمت/ لا صوت لي ولا أغاني/ خلعتُ صوتي على وطن الرياح والشّجر/ الظلالُ أكثر تعانقًا من الأهداب/ وما من أغنية تضيء ظلمات الأعماق/ لكن الأصداء تدقُّ صدر الليل فأنام في صدري...".
قال أنسي الحاج يومها: "قصيدة ‘جسد السماء‘، قصيدة نثرية ونزعتها نزعة شخصيّة، وتكنيكها مناخي أكثر ممّا هو عضويّ، فحين تقرؤها تنفلش في نفسك صورًا وتوترات ولا تحسبك هي في نفسها. على الرّغم من غموضها تتّوصل إلى هذه النتيجة... وبعض الكلمات ذات الدلالة المباشرة تساعد كثيرًا على إيضاح القصيدة، بل إيضاح الشّاعرة في نفس القارئ، فننتظر إذًا وننتظر الشّاعرة. من يأتي؟ من يخصب اليباس ويُنير الظلمة ويهدم الحواجز بين الحلم واليقظة، والصمت والنهار؟ من يشعل جسد السماء؟".
وفي حديثها الأول بعد الجائزة قالت صالح:
"ليس لديّ أيّ طموح من أيّ نوع كان. أنا أعجز من أن أُغيّر العالم أو أجمّله أو أهدمه أو أبنيه. أحسّ أنّني كمن يتكلم في الحلم. ماذا يؤثر في العالم الكلام في الحلم؟ فقط أسترخي وأترك زحام العالم تدافعني كشيء صغير جدًا ولا وجود له. إنما أحتفظ لنفسي بحرية الحلم والثرثرة".
يذكّرنا كلام الشاعرة هنا بالمسّ وعلاقة الشعر بالخلفية الماورائية للعالم الموازي، وبناء القصيدة الأوليّ القادم من أبعاد خفية يعجز عن تحليلها النقاد، فهي الدادائية الأولى أو ما شكّله السورياليون وما أثبتته نظرية التحليل النفسي عن تداعيات الأحلام وعوالم الاستبطان الداخليّ، حيث يبدو ما هو غير مألوف قابل للتأمل والاستسلام.
وربما هذه هي الصيغة الأولى التي تولد منها القصائد، قبل المنطق والترتيب والصقل، أي بالفطرة والحدس والتماهي مع المجهول.
لقد بدأت سنيّة صالح شاعرة، لتُقدم فيما بعد قصائد مأهولة بنساء متعبات، شعراء ومهرجين وجياد من الثلج. وما بين الحلم والواقع رسمت قصائدها صوت المرأة الملثم بالتقاليد والسياط الخفية. وفيه من الطفولة والأمومة ما يفوق الحزن والفوران اللغويّ.
تصف خالدة سعيد شعرها قائلة:
"هو شعرٌ لا يشبه أحدًا وليس منضويًا في تيار. شعرٌ لحزن متوحش ينبجس من الجوهر الأنثويّ الخالق المطعون المسحوق عبر التاريخ. شعر هو صيحة جسد الأنثى نبع الحياة، الجسد الذي عبر فوقه الأباطرة والبطاركة، الآباء، الأزواج، الغزاة، المحاربون والنخّاسون... هذا الشّعر بقدر ما ينشد حكاية المغدورين يتقدّم كصيحة للجسد الذي انتهى بين المباضع وأسرّة المشافي. والشّعر هنا فخ الأمل، فخ التوهم بولادة جديدة. لذلك لا نجد هنا شاعرية الجملة والالتماعة أو المفاجأة. لا وجود للجمال النظيف المثاليّ، ولا كلمات بمثابة لآلئ جاهزة للنظم. لا زهور في شعرها ولا عطور، لا مروج ولا عيون فاتنة، لا مشاهد لنزهة العين، وحتى لا غزل، الكلمة هنا بريّة قادمة من عالم الصراخ والجروح. من عالم المباضع والثورات ومتاهات التشرد".
سنيّة صالح أثبتت نفسها رائدة من رواد قصيدة النثر، وعايشت مجلة "شعر" وحظيت بتصفيق النخبة. رحلت باكرًا تاركة قصائد وقصصًا قصيرة، ومذكرات تعبّر عن امرأة تقصّ حياتها من خلف جدار. شاعرة أرهقتها الذكريات والحوارات الخفيّة مع الذات التي تُنشد مساحة تدعى الحرية، كانت تبحث عنها على أرض الواقع لكنها لم تعثر عليها سوى في الكتابة والموت، لتردّد بعذوبة بالغة: "لأن الفصول أبدًا هاربة/ لن يحملني زورقٌ للرجوع".