وحقق الأسواني قفزته الشهيرة بعد نشر روايته "عمارة يعقوبيان" (2002)، والتي نشرت بعد روايته الأولى "أوراق عصام عبد العاطي" (1990) بـ 12 عامًا، وتحويلها إلى فيلم سينمائي من بطولة النجم عادل إمام، حيث حققت الرواية، والفيلم، أرقامًا عالية في المبيعات والانتشار. ودفعت العديد من دور النشر، في أوروبا وآسيا وأميركا، إلى ترجمة عمله الذي يتطرّق فيه إلى تحطّم المجتمع المصري بعد الثورة على عهد آخر ملوك مصر (فاروق الأول)، وتشبيه ذلك الزمن، الذي جاء بعده، بأنه "زمن المسخ".
في روايته الجديدة "الأشجار تمشي في الإسكندريّة" (دار نوفل، 2024) يعود الأسواني إلى جزئيّة مهمة في زمن الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وهي جزئيّة أوضاع المصريين من أصول أجنبيّة وموقف السلطة الحاكمة منهم وطرق استغلالهم، في الظروف السياسية المستجدّة، والتخلّص منهم "على أهون سبب". ومن خلال هذه العودة، وهذه الجزئية الصغيرة، يُصفّي صاحب رواية "شيكاغو" (2007) حسابات كبيرة ومستمرّة مع ذلك "النظام الأمني والمخابراتي"، وصولًا إلى تصفية الحسابات مع جمال عبد الناصر نفسه، وتحطيم تلك الأيقونة، التي "لا يمكن المساس بها" أو "محاسبتها" ليس في مصر وحدها، بل حتى في العالم العربي، إذ ما زال مؤمم قناة السويس ومؤلّف أحلام الوحدة العربيّة، يملك تلك الكاريزما والهالة المقدّسة والفضفاضة.
مطعم أرتينوس وجدرانه
ألّف الأسواني هيكلًا جيدًا لروايته، وجمع العديد من الشخصيات المصريّة وذات الأصول المصرية، وجعلهم يتناقشون ويتعرّضون لمواقف تشرح تلك الديكتاتوريّة التي تتحكم في حياتهم ولقمة عيشهم، خاصة مع "التأميم ونهب أموالهم"، وتوزّع عليهم "صكوك الوطنيّة" من عدمها.
الرواية تبدأ من يوم 10 أيلول/ سبتمبر 1964 من خلال وصف "مطعم أرتينوس" في الإسكندريّة، والفخامة التي يعتمدها جورج أرتينوس في معاملة زبائنه الذين يحجزون أماكن لهم قبل حضورهم، لتذوق الأطباق اليونانيّة. ووصف تعامله، ومن بعده تعامل ابنته ليدا، مع طاقم العمال لديه، بوصفه مدرسة في كيفية االتعامل مع زبائنه المميزين.
يبدو المطعم مثل مصر نفسها، كما كان المصنع يُمثّل مصر في روايته "جمهوريّة كأن" (2018)، وقد مرّت عليهما الأنظمة السياسية المختلفة. فقد كانت هناك "صورة ضخمة بإطار ذهبي لجلالة الملك المعظّم فاروق الأول الذي أسبغ عطفه السامي على العاملين في أرتينوس في عام 1947، ومنحهم شرف زيارته الملكيّة". وفي عام 1952 تخلّص أرتينوس من تلك الصورة ووضع بدلًا عنها "صورة بذات الحجم، لأعضاء مجلس قيادة الثورة بالزي العسكريّ والجماهير تحيط بهم". وعندما "انفرد عبد الناصر بالسلطة" وصار رئيسًا لمصر كان جورج أرتينوس قد توفي، وبناء على نصيحة بعض الزبائن، أزالت ابنته ليدا صورة أعضاء محلس قيادة الثورة، وعلقت مكانها "صورة بالحجم الطبيعي للرئيس عبد الناصر وحده في إطار مذهّب فخم كلّفتها جنيهًا كاملًا".
شلّة الكوكاس
كارلو ساباتيني (مصري من أصول إيطاليّة) كان يستلم من ليدا إدارة المطعم من 6 مساء حتى يغلق المطعم أبوابه رسميًا في منتصف الليل. بعد إغلاق أبواب المطعم يصعد كارلو إلى البار الصغير في الطابق العلوي للمطعم، ويستقبل شلة الكوكاس، وهم مجموعة صغيرة من الأصدقاء، عباس القوصي المحامي وزوجته نهى الشواربي وليدا أرتينوس (مصرية يونانيّة) والفنان التشكيلي أنس الصيرفي وتوني كازان (مصري يوناني) وشانتال لوميتر (مصرية فرنسية) والتي، بسبب علاقاتها الواسعة كمالكة لمكتبة بلزاك، أفلتت من قرار ترحيل الفرنسيين المقيمين في مصر، والذي طبقته الحكومة المصرية بسبب اشتراك فرنسا في العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956، ليكملوا سهرتهم براحة وحميميّة الأصحاب.
لقب الكوكاس أطلقه عليهم، من باب الدعابة، صديقهم القنصل الأميركي، ومعناها "اجتماع دوريّ لمجموعة من الناس لهم اهتمامات سياسية مشتركة".
في كل ليلة، تقريبًا، يصعد هؤلاء الأصدقاء، الذين يعرفون بعضهم البعض منذ الطفولة، إلى الطابق الأعلى، ويتابعون سهراتهم ونقاشاتهم حتى مطلع الصباح.
وجد الأسواني هذا الحل في اجتماع الأصدقاء، المصريين والأجانب من أصول مصرية، وحوارهم حول الأوضاع في مصر، من أجل شرح معاناة المصرين والأجانب من قبضة الأمن المصري التي صنعها عبد الناصر، ابتداء من فشل التنظيمات الثلاث، هيئة التحرير والاتحاد الاشتراكي والاتحاد القومي، التي أنشأها عبد الناصر لتأسيس وتمتين الحزب الحاكم الوحيد، ليبتلع أكبر كمية من الشعب كأعضاء في الحزب، بسبب الانتهازيين الذين يلتحقون بأي تنظيم تنشئه السلطة، ليس حبًا بالثورة أو لدعم استمرار السلطة، بل لتحقيق قفزاتهم وثرواتهم الشخصية. وصولًا إلى تهديد الأمن الأجانب المقيمين في مصر بالتعاون الكامل مع الأمن المصري، أو سجنهم أوإعدامهم بتهمة التجسس أو ترحيلهم على الأقل!
الرواية تعتمد، في فصول كثيرة منها، على الحوار الذي يُقّربها إلى فضاء المسرح، وهذا الحوار كان الحل الأمثل للأسواني من أجل تبادل آراء ونقاشات وأفكار كثيرة ومختلفة من قبل شخصيات مختلفة، ومناقشتها من قبل أكثر من طرف، وبعضها جاء مباشرًا وساذجًا في بعض الأحيان، وذلك من أجل عرض طبقات مختلفة من الآراء المؤيدة أو المعارضة لعبد الناصر، وكذلك الآراء المجحفة بحق الشعب المصري أو الداعمة له. كأن يقول أحدهم: "الخضوع طبيعة في الشعب المصري. لو كان اللواء (محمد) نجيب انتصر في صراعه مع عبد الناصر لكان المصريون هتفوا بحياة نجيب ولعنوا عبد الناصر". فيصيح أنس مداعبًا: "لن أقبل أي إساءة للشعب المصري"، وهكذا ردًا على سؤال: لماذا لم يعترض المصريون على اعتقال محمد نجيب، الذي كان يتمتع بشعبية أسطورية؟ بينما خرجوا، بتكليف من الأمن، للهتاف "تسقط الأحزاب... تسقط الديمقراطية... يعيش جمال عبد الناصر".
سياسة ورواة
هذا التأليف من قبل الكاتب يذهب لتحليل الأمور من زاوية الوصول إلى نتيجة تؤكد بأن جمال عبد الناصر كان "كارثة" ليس فقط على الفردوس الملكي السابق وطبقته المخمليّة الثرية، بل على الشعب المصري بكل مكوّناته. حيث نسمع أقوال المصريين من أصول أجنبيّة حول شعورهم الوطنيّ الذي لعب عليه الأمن المصري، والحكومة المصرية من خلال التأميم مثلًا. فيقول أحدهم "أنا عشت عمري وأنا أؤمن بأنني مصري. لم أفكر لحظة في أنني أجنبي. كل النجاح الذي حققته في الصناعة كنتُ فخورًا به باعتباري مصريًا". فيردّ عليه الآخر المصري بالولادة: "الديكتاتور لا بدّ أن يحتكر الوطنيّة ويُشكك في وطنية الآخرين". وصولًا إلى المقولة الأساسيّة "لماذ يُصرّ النظام على معاملتنا كأجانب؟".
يستخدم الأسواني شخصيات وأماكن وأحداث حقيقيّة ليبدو الأمر وكأن العمل رواية تسجيلية أو توثيقية في زمن الأخطبوط الأمني الذي تدخل في كل شيء شخصيّ للناس من أجل ترسيخ دعائمه على حسابهم، بينما هناك "تأليف" واسع لتمرير وجهة نظر تبدو أحادية الجانب مهما حاول علاء الأسواني تجميلها بالحياد، أو بأن الشخصيات التي تقولها تقولها لأنها عاشت ذلك الضغط الأمني والوطني لترسيخ دعائم النظام وتشكيلاته الأمنية، على حساب الحياة الشخصية العادية، وبأن هذه الكارثة طاولت مصر كلها، وليس الإسكندرية فقط، التي تدور فيها أحداث الرواية في 374 صفحة.
يتعدد الرواة في هذا العمل، من الراوي العالم إلى مذكرات إحدى الشخصيات. والمذكرات لا تكتب الماضي فحسب؛ بل تتابع إضاءة ما يتركه الراوي العالم في بعض الأماكن، وهو حل سرديّ كلاسيكيّ مفهوم، نجح فيه علاء الأسواني. كما أنه اعتمد على شخصيات مختلفة، مثل المحامي والمثقف والبارمان والراقصة والفتوة والمخبر والاقتصادي والحزبي والنقابي والضابط المتنوّر، ليُقدّم قصصًا مختلفة عن أحوال أهالي الاسكندريّة في أجواء الحرب والتأميم والانقلاب والجاسوسية والاستغلال والتسلّق والفقر والقمار، محللًا ومفكّكا الحياة والأحلام الجديدة والقاسية التي جاء بها جمال عبد الناصر ورفاقه. إنها رواية سياسية واجتماعية، تبدو كلاسيكيّة وواقعية لشدّة التأليف الذي يُريد أن ينزل منزلة الرويّ والحقيقة، وستلقى ترحيبًا وترجمة في أماكن، ومنعًا وهجومًا في أماكن أخرى.