}

قصيدة النثر وسؤال البحث الجمالي

عبد الوهاب الملوح 29 نوفمبر 2024
آراء قصيدة النثر وسؤال البحث الجمالي
(Getty)
يقول الفراهيدي: "الشعراء أمراء الكلام، يصرفونه أنى شاؤوا، وجاز لهم فيه ما لا يجوز لغيرهم، من إطلاق المعنى وتقييده، ومن تسهيل اللفظ وتعقيده، ومد مقصوره وقصر ممدوده، والجمع بين لغاته، والتوصيف بين صلاته، واستخراج ما كلت الألسن عن نعته، والأذهان عن فهمه. يبعدون القريب، ويقربون البعيد، يحتج بهم ولا يحتج عليهم، ويصورون الباطل في صورة الحق، والحق في صورة الباطل".
قصيدة التفعيلة التقليدية التي اشتغل عليها السياب والملائكة والبياتي ثم طورها حسب الشيخ جعفر، بما أدخله فيها من بعد من تقنيات التدوير، هي منظومة إيقاعية وعالم في حد ذاته، لا مجال للمقارنة بينها وبين القصيدة بالنثر، بل إن من يحاول المقارنة بينهما لم يفهم أصلًا روح وفلسفة هذه القصيدة. فقصيدة النثر تشتغل في فضاء الإيقاع الخارجي وما يتطلبه من تقنيات، وتعمل على الوصول إلى القارئ عن طريق الصوت بالأساس معولة على المدخرات الصوتية للغة وجرسيتها وتصاديها فيما بين مفرداتها الجناس، بما قد يهز انفعالات المتلقي ويجعله يتفاعل بمشاعره وعواطفه، وحتى إن تمت قراءتها بمنأى عن سماعها، يظل صدى إيقاعها الخارجي قائمًا، فلا بد لها من متلقٍ متسلح لينجو من تأثيراتها الخارجية ويكتشف إبداعاتها المتجددة.
وقصيدة النثر تشتغل في فضاء الإيقاع الداخلي وما يستلزمه من عدة تقنية تأخذ من خصوصية الشعر ذلك اللهب المتقد مندفعًا بضرورة اكتشاف الكون من خلال تشكيل صور تخييلية مختلفة عن السائد، وبما قد تطرحه من أسئلة هي في ظاهرها مباحث جمالية قد ترتكن للغموض؛ غير أنها تبحث فيما هو أعمق من خلال اختراق مسألة الغيب وما خفي من تشكيلات الكائن، سواء على مستوى الذات الفردية أو فيما يتعلق بهذا الوجود ككل، وهي تبحث في أدق تفاصيل الوجود لتزيل الغطاء عما يكتنفه من عبث.




في نفس الوقت، تأخذ قصيدة النثر من خصوصيات النثر ما يتميز به من تقريرية أو معاينة مباشرة للوقائع، بما قد يعزز طموحاتها في البحث عن هذا الواقع بأسلوب جمالي، وتأخذ منه أيضًا تلك البساطة في العبارة؛ الشيء الذي يسهل عليها اعتماد الملفوظ اليومي واستجلاب الكلام الفضلة، على اعتبار أنه من مدونة المعجم اليومي الذي هو أحد أساسيات هذه القصيدة. غير أنه وجب التنويه بأن هناك من يكتب قصيدة التفعيلة بإيقاعية مختلفة عن القصيدة التقليدية إذ يعمد للبحور ذات التفعيلة الواحدة وخاصة تلك التي جرى عليها البتر من أمثال المجزوء والمشطور والمخلوع، إضافة للتدوير من مثل نزيه أبو عفش وسعدي يوسف ومحمود درويش ومريد البرغوثي والوهايبي. وهنا قد يحدث التباس عند المتلقي بين قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر نظرًا للقرب الشديد بين الأولى والثانية.
الكتابة عمومًا وتلك التي تتغيا الشعرية هي وليدة لحظة تمازج بين الإدراك والحدس من أجل اقتناص لحظة ديمومة، ليس في الزمن، ولكن في إدراكنا بالوجود والمسك بالكينونة في داخلنا، هي في وجه من وجوه تجلياتها محاولة لتخريب أسوار الوجود الذي حوصرنا فيه، والتصرف الاحتجاجي ليس بالكلمات فقط، ولكن بطريقة التفكير وأسلوب الحياة الذي نسلكه. إذ لا يختلف اثنان بأن الشعرية لا تقاس بالكلمات، بل بأسلوب الإقامة في هذا الوجود، وما الكلمات إلا توصيف لهذه الإقامة، وفي أقصى الحالات عند الشاعر الجاد الحقيقي هي بحث عن الإقامة الأفضل.
خصيصة القصيدة النثرية المائزة أنها لا تكتمل ولا تتبلور نهائيًا. إنها نص دائمًا في طور التشكل وفي طور البحث وفي طور السؤال، ولا تبحث عن أجوبة نهائية لها، بل إنها تعمق السؤال حول أسلوبها. هي الفجأة والمباغتة غير المنتظرة ولئن سبق أن حددتها سوزان برنار ببعض الاشتراطات، ولكن المقترحات التي قدمها العديد من الشعراء بشأنها إبداعًا وتفكيرًا وتنظيرًا تجاوزت مقاربة صاحبة قصيدة النثر من بودلير إلى زمننا هذا.
جمالية القصيدة النثرية في أنها دائمًا متجددة تنصب فخاخ دهشتها وتنهل من جميع الفنون، سواء المجاورة لها أو البعيدة عنها. تموت في لحظة وتوقف البحث فيها، وجمود الشغف بها باعتبارها آفاقًا مفتوحة على أكثر من مرقى جمالي دائم التدفق من جهة الإيمان بما يتوفر عليه هذا الكون من خزائن جمال لم يتم الكشف عنها إلى الآن.
تظل هذه القصيدة ملاح فضاء يشرد في كل الجهات للكشف بمجساته الحدسية عن مكان الجمال، وهي تعمق الأسئلة ولا تقدم عشاءً جاهزًا للمتلقي يستمتع ويعود إلى عقله فرحًا مسرورًا أو إلى قواعده سالمًا، بل هي تفخخ القارئ بأكثر من سؤال جمالي فكري وجودي؛ وكل هذا في سياق فني ذي بعد جمالي مختلف يكون فيه التحفيز مزيجًا من التخييلي الغرائبي اليومي.
فقصيدة النثر ليست خطابًا شفويًا، إنها نص مكتوب. هناك اتفاق على أن القصيدة تومض من خلال لحظة متفلتة من الزمن؛ في هذه الحالة يسعى شاعر قصيدة التفعيلة إلى دوزنتها إيقاعيًا حسب البحر الذي اختاره، ولذلك يعمل على ترتيبها وتصفيفها وفق مقتضيات البحر، وما يتيحه له من عروض أو زحاف، وهذا ممكن جدًا أن يتم ذهنيًا وشفويًا على اعتبار أن الإيقاع جرسي فيها، ولكن القصيدة النثرية تستدعي التركيز وتتطلب بناء عالم وتشييد كون متكامل في انقطاعاته، ومنسجم في تناقضاته، ومتماسك فيما قد يبدو عليه من تشظيات، وهو ما يتطلب الكتابة وإعادة الكتابة. ناهيك عن أن القصيدة النثرية هي في قدرة كاتبها على إعادة تركيب ما كتبه وما يصطلح عليه السينمائيون بالمونتاج، فهي تكتب عدة مرات قبل أن تنشر. علمًا أن القصيدة النثرية لا تكتمل.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.