}

السنباطي يلحّن "راجعين" لجاهين وأم كلثوم تصدح... ماذا تغيّر؟

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 30 نوفمبر 2024
آراء السنباطي يلحّن "راجعين" لجاهين وأم كلثوم تصدح... ماذا تغيّر؟
السنباطي وأم كلثوم

في الوقت الذي تُقتلُ فيه غزّة وحدها، وتستباح أرواحها البريئة أمام كامل عجزنا وصمتنا وتغييرنا قناة الخبر كي يتسنى لنا ابتلاع لقيمات البلادة بلا أدنى مشاعر، فإن للذاكرة، حتى السمكيّة منها، أراشيف، لا تنسى، ولا ترحم، ولا تتركنا نفرّ يوم الزحف على هَوانا وغرائزِ هوانِنا.
في إحدى غرف أرشيفها، تلك الذاكرة المحرجة، ينام منذ عام 1967 شريط قديم، محجوز هناك بين الرفوف المنسية التي علاها الغبار في المبنى القديم (ماسبيرو) للإذاعة المصرية. في الشريط أغنية كتبها ذات حزيران/ يونيو شاعر المحكية المصري صلاح جاهين (1930 ــ 1986)، ولحّنها ذات موجةٍ عروبيةٍ ناصريةٍ طاغيةٍ رياض السنباطي (1906 ــ 1981)، وغنّتها وسط هذه الآفاق والمعطيات جميعها أم كلثوم (1898 ــ 1975). في كلمات الأغنية المدويّة بآمالٍ عراض حول "جيش العروبة"، وحماية الحمى، والهبّة لنجدة فلسطين العرب في مأساتها، إعلانٌ واضحٌ صريحٌ لا لبس فيه: (راجعين بقوة السلاح راجعين نحرّر الحِمى... راجعين كما رجع الصباح من بعد ليلة مظلمة).
في ذلك الزمان البعيد... بل أقصد البعيد جدًّا... بل أقصد الذي مرّت عليه كل مياهنا الآسنة الغارقة في صديدِ عفنٍ يُزكم الأرواح، كانت كلمات تحمل كل هذه المعاني تشعل الجماهير... كانت الحماسة في أوجها... ومصر (كما أخبرونا) تسير على الطريق الصحيح؛ تصنيع عسكري، وتحشيد تعبويّ، وتأسيس أجهزة دولة استخبارية وإدارية، وثورة اقتصادية تحرّرت، يُفترض، بعد تأميم قناة السويس، من التبعية... فما الذي جرى؟
زمانٌ منسيٌّ كان مقرئ قرآن من طراز عبد الباسط عبد الصمد (1927 ــ 1988) يجمع حوله أيام ذلك الزمان أمّة يبلغ تعدادها اليوم 400 مليون عربي في مشرق الأمة ومغاربها... زمان تتزوّج فيه المصرية رضوى عاشور (1946 ــ 2014) الفلسطيني مريد البرغوثي (1944 ــ 2021)، فتصبح فلسطينية أكثر من الفلسطينيين، وتنجز لعيون فلسطين وأهلها إحدى أصدق رواياتها "الطنطورية"، عن رقية، وأمين، وصادق، ومريم، وباقي شخصيات الرواية الطالعة من روح حيفا وما... ما بعدها... الناطقة بروح لام الكنعانية... الملقية تحية الصباح على الفريديس، وعين غزال، وجسر الزرقاء، وكبارة، وإشراقة المجدل، وضريح عز الدين القسّام... فما الذي تغيّر؟
ينادي جاهين "يا شعب يا منصور تعالى بمدفعك... يا شعب يا منصور... يا شعب يا منصور الله معك"... يستنشق عبير برتقال يافا، فإذا به يرى زهوره تشبه فتيان العرب: "تطلع زهور البرتقان... تشبه عيون فتيان العرب... تبص للأرض بحنان... وتبص للجاني بغضب..."... مؤكدًا أنها أيام كان، حتى، نسيم البحر يغضب فيها لعيون فلسطين التي كانت تُدَقّ للفزعةِ من أجلها كل الطبول: "يغضب نسيم البحر والأمواج تثور"... متعهدًا: "يا أرضنا المسجونة سجنك راح يزول... شعبك على الأبواب مسلح بالأمل"... مهدهدًا جرح فلسطين: "كلمة فلسطين زي دقات الطبول... بتدوي وتحمّس وتدفع للعمل"... ليعيد بعدها إعلانه الجامح: "راجعين بقوة السلاح... راجعين في بحر من الدّما"... فما الذي تغيّر؟

ما الذي يجري في أيامنا هذه ويجعل شعوبنا ترى كل هذا الهوان من أنظمتها وتبقى، رغم فداحة ذلك وانفصامه، صامتةً مخروسةً مكبّلة؟


قبل أن تطل أم كلثوم على جمهور حفلها الشهريّ لتنشد يومها "الله معك"، ولحين أن تفعل، يلقي مذيع الحفل كلامًا كبيرًا حالمًا عن حضور الجيوش العربية جميعها، لا ينسى أحدًا منها... جاعلًا الشعوب العربية جميعها شعبًا واحدًا... صفًّا واحدًا... على قلب رجل واحد... ومن دون تردُّد، يصف أميركا بأنها الاستعمار الجديد... ويقول: "تقف الجيوش العربية كلّها تحت قيادة موحّدة مصممةً على درء هذا العار الذي جثم فوق الأرض العربية 19 عامًا... تحيط بالعدو من الشمال، ومن الشرق، ومن الجنوب... لتدافع عن الكرامة العربية، والشرف العربي، والعزّة العربية"... فما الذي جرى؟




صحيح أن هزيمة حزيران كانت، بعد كل ذلك التثوير والتحذير والتحضير، فضيحة بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ، لكن حرب الاستنزاف التي لم تنتظر بعد الخيبة/ النكسة كثيرًا، أعادت، أيامها، بعض المعنى لمشروع جمال عبد الناصر، ولمشروعية التفاف (جماهير الأمّة) حوله؛ عمليات فدائية خلف خطوط العدو... عملية "راس العش"... تفجير المدمّرة إيلات وإغراقها... وهي حرب استنزافية مؤثّرة توّجت بعد ستة أعوام من هزيمة حزيران بتدمير خط بارليف، والعبور العظيم في السادس من تشرين الأول/ أكتوبر 1973... فما الذي تغيّر؟

نزار قباني: أشكو العروبة أم أشكو لك العربا


ولعلّ في قصيدة "رسالة إلى جمال عبد الناصر"، التي كتبها الشاعر السوري نزار قبّاني (1923 ــ 1998) فور سماعه خبر رحيل عبد الناصر، وغنتها أم كلثوم من ألحان السنباطي كالعادة، تعبيرٌ دقيقٌ عميقٌ عمّا كانت تمثّله تلك المرحلة من التاريخ العربي الحديث، ولِما كان يمثّله عبد الناصر: "زعيمنا... حبيبنا... قائدنا... عندي خطابٌ عاجلٌ إليك... من أرض مصر الطيبة... من الملايين التي تيّمها هواك... من الملايين التي تريد أن تراك... عندي خطاب عاجل إليك، لكنني لا أجد الكلام، فالصبر لا صبر له، والنوم لا ينام... الحزن مرسوم على الغيوم... والأشجار والستائر... وأنت سافرت ولم تسافر... فأنت في رائحة الأرض... وفي تفتح الأزاهر"، إلى أن يقول نزار، ويقول رياض، وتقول السيدة: "في أي عصر عشتم؟ نجيبهم... في عهد عبد الناصر"، وقد أقسموا قبل هذه القفلة أن "يحفظوا الميثاق ويحفظوا الثورة". وللقبّاني قصيدة ثانية في رثاء عبد الناصر: "قتلناك يا آخر الأنبياء" ولها فيديو يتضمّن مشاهد من جنازة عبد الناصر المليونية وإلقاء القصيدة بصوت نزار مترافقًا مع موسيقى. هي، إذًا، مرحلة ربما لن تعود بالتفاصيل نفسها التي تمثّلتها أيامها... لها ما لها وعليها ما عليها... والغرب الاستعماريّ على وجه العموم اشتغل على ما لها ونمّى ما عليها... خرّب بُعدها القوميّ الجامع المشتعل بأحلى ما في أمّتنا، وعظّم أسباب الفرقة، ومكّن طغاة الشقاق والنفاق... وكلما جاء رئيس أقل فداحة من غيره إمّا جرى الانقلاب عليه، أو تنحّى هو من تلقاء نفسه، أو ورّطه الغرب بحروب لا طائل من ورائها، ولكل حالة أمثلة لديّ لا طائل من ذكرها.
ما الذي يجري في أيامنا هذه ويجعل شعوبنا ترى كل هذا الهوان من أنظمتها وتبقى، رغم فداحة ذلك وانفصامه، صامتةً مخروسةً مكبّلة؟
ألم تعد كلمة فلسطين مثل دقّات الطبول؟ ألم تعد مأساتها تدفعنا نحو الحدود؟ ومن ذا الذي سوف يحوّل آلامها إلى مدافع تدكّ أركان الجريمة الصهيونية، التي أقرّ العالم، أخيرًا، أنها غير مسبوقة، وأن مقترفيها لا بد أن يُجلبوا (مخفورين) إلى محكمة الجنايات الدولية؟
ما الذي جرى لكل حرٍّ أبيٍّ شريفٍ غَيور؟





واكب السنباطي، وجاهين، وأم كلثوم، وكثيرون غيرهم، المدّ القومي العربيّ، بمختلف تجلياته، وبأحلاها، وأكثرها إنتاجًا لفنونٍ وآدابٍ تعزّزها، وتفخر بها، وتمنحها معانيها وتَباريحها، وتعاين جذورها ومبرّراتها ومعطياتها... مدٌّ تصدح به مصر فيرتدّ صداه في سورية ولبنان وتونس والجزائر وبلاد عربية كثيرة؛ تغنّي أم كلثوم من كلمات محمود حسن إسماعيل، ومرّة ثانية من ألحان السنباطي "بغداد يا قلعة الأسودِ... يا كعبة المجد والخلودِ... يا جبهة الشمس للوجودِ"، فتردّ عليها فيروز من كلمات الأخوين رحباني وألحانهما: "بغداد والشعراءُ والصورُ... ذَهَبُ الزمانِ وضوعُه العَطِرُ... يا ألف ليلة يا مكمُّلة الأعراس يغسل وجهكِ القمرُ"... تغني أم كلثوم من كلمات الكويتي أحمد العدواني (مؤلف النشيد الوطني الكويتي)، ودائمًا من ألحان السنباطي: "يا دارنا يا دار... يا موطن (أو يا منبت) الأحرار... يا نجمة للسنا على جبين المنى... السحر لما دنا غنى لنا الأشعار... التبْر في برها والدرُّ في بحرها... والحب في صدرها نبعٌ من الآثار"... وتغني لعيون مكة والروضة وحمام الحِمى وباب السلام وشعائر الحج من كلمات شاعر المحكية المصرية بيرم التونسي ورياض، كالعادة حاضر: "القلب يعشق كل جميل"، فترد فيروز، وكل لبنان، من كلمات سعيد عقل: "غنيتُ مكةَ أهلَها الصِّيدا.... والعيدُ يملأ أضلُعي عِيدا..."، إلى أن تقول: "يا قارئَ القرآنِ صلِّ لهُمْ... أهلي هناك وطيِّبُ البِيدا".
ولتونس غنت فيروز "إليك من لبنان أغنية صديقة... يا تونس الشقيقة يا وردة البلدان... إليك يا سليلة الملاحم... يا نجمة القصائد القديمة... إليك يا قرطاجة العظيمة"... وتعلن أن: "عمّان في القلب أنت الجمر والجاهُ... في باليَ عودي مُرّي مثلما الآهُ". ولسورية تغني ألف أغنية وقصيدة وسلام... ولشطّ اسكندريّة... وتغني لبيسان والقدس وشوارعها العتيقة ولجسر العودة: "يا جسرًا خشبيّا يسبح فوق النهرِ... ضحك الفجر وحيّا وصَحَت قمم الزهرِ"... فما الذي جرى؟

عن السنباطي...

لحَّن رياض السنباطي 95 لحنًا لأم كلثوم وحدها من بين 539 عملًا موسيقيًا في حياته الفنية


لحّن السنباطي الذي وُلِد في مثل هذا اليوم (30 تشرين الثاني/ نوفمبر) قبل 118 عامًا، وبحسب كتاب فكتور سحاب "السبعة الكبار في الموسيقى العربية"، 95 لحنًا لأم كلثوم وحدها. وبلغ، على وجه العموم، عدد مؤلفاته الغنائية 539 عملًا في الأوبرا العربية، والأوبريت، والاسكتش، والديالوغ، والمونولوغ، والأغنية السينمائية والدينية، والقصيدة، والطقطوقة، والمواليا. وبلغ عدد مؤلفاته الموسيقية 38 قطعة، وعدد شعراء الأغنية الذين لحّن لهم 120 شاعرًا. ولأن الشيء بالشيء يذكر، فإن فكتور سحاب صاحب الكتاب الذي نوّهنا إليه، هو موسيقي فلسطيني من يافا، شقيقه إلياس سحاب موسيقي يقيم في لبنان، وشقيقه الآخر سليم سحاب هو المايسترو المعروف الذي يجري التعامل معه بوصفه موسيقيًا مصريًا، خصوصًا أنه مايسترو "الفرقة القومية للموسيقي العربية" في دار الأوبرا المصرية. أوردتُ ما يتعلق بآل سحاب لأواصل حول شكل الروح العربية قبل سبعين عامًا ماضية، أقل أو أكثر قليلًا، وهي الروح التي كان ثوّارٌ عربٌ من غير بلد عربي يشتركون في ظلالها بتنفيذ عملية فدائية واحدة، ويتشكّل نهر واحد من دم شهدائهم وجرحاهم.
رسّخ السنباطي بإبداعه العبقريّ، وملكاته الاستثنائية، الأغنية العربية، بفصيحها والدارج منها باللهجة المصرية، التي صار يتقنها العرب أجمعين في ذلك الزمن البعيد... وحوّل جذور نصوعنا بكلمات أحمد رامي، وإبراهيم ناجي، وبيرم، وأحمد شوقي، وعبد الوهاب محمد، مؤلّف أغنيات: "شعب العراق الحر ثار"، "حوّلنا مجرى النيل"، و"قوم بإيمان وبروح وضمير"، وكلمات غيرهم، إلى ألحان تطاول الخلود، وتفرض علينا السؤال في كل مرّة نستعيد خلالها ذلك الزمن الذي كان: ما الذي تغيّر؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.