}

الطائفية كهزات ارتدادية للزلزال السوري

نبيل سليمان 30 ديسمبر 2024
آراء الطائفية كهزات ارتدادية للزلزال السوري
احتفال بـ"علم الثورة السورية" بعد صلاة الجمعة في اللاذقية(13/12/2024/الأناضول)

تواتر وصف سقوط النظام في سورية بالزلزال على نحو لافت. ففي صحف الشرق الأوسط، والقدس العربي، والنيويورك تايمز و.. وبخاصة في العربي الجديد، وصف حازم صاغية، وجواد العناني، وراشد عيسى، وحسن مدن، وحسن نافعة، ونيكولا كريستوفر، وعيسى الشعيبي، وكمال عبد اللطيف، وعلى أنوزلا، وغسان شربل و... وصفوا ذلك السقوط بالزلزال، بينما قال القائد العام للإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع في حوار مع جريدة الشرق الأوسط في 19/ 12/ 2024: "الثورة السورية انتهت مع سقوط النظام".
ولئن كان للحديث عن الزلزال السوري مقام آخر، فالحديث هنا هو للهزات الارتدادية التي وقعت مساء الأربعاء 25/ 12/ 2024 في اللاذقية، وجبلة، وطرطوس، وحمص، وصولًا إلى حي المزة 86 في دمشق.
كان المساء يتبلل بالرذاذ عندما دخلت مائسة ومنذر ــ ابنتي وزوجها ــ يسبقهما القلق: لماذا؟ لأن شبابًا يتوسطون دوّار الزراعة ــ على بعد 400 م من منزلي ــ ويهتفون للخصيبي، بينما يتحلق المتفرجون حول الدوار.
لماذا الخصيبي: سألت.
ليس لي من وسائل التواصل (اللااجتماعي)، ولا من السوشيال ميديا إلا الواتس، فأنّى لي، إذًا، أن أسمع، أو أرى، الفيديو الذي جلجل وقلقل، وسرعان ما صار ردّةً اهتزازية، وأخرج أسوأ ما أثقل.
هو اعتداء، إذًا، على ضريح الحسين بن حمدان الخصيبي. اعتداء على المؤسس الذي يمّم إلى حلب قادمًا من العراق، أو من مصر، على رأي خير الدين الزركلي في مصنّفه "الأعلام". هو اعتداء على من اتصل بسيف الدولة الحمداني والمتنبي، وبات له في حلب جامع الشيخ بيرق، أو يبرق. لكن الفيديو من عمر تحرير حلب، فلماذا الآن؟
بينما الأسئلة تتدافر، كانت الردة الاهتزازية تتطاول وتتعاظم: من دوّار الزراعة في مدخل اللاذقية، إلى شارع الجمهورية، إلى ساحة الحمّام، إلى...
ها هنا أتوقف عن العدّ، لأن الرصاص صرع الشاب جعفر حسن عيسى، من قرية البودي، القرية التي فيها قبور من سبقوني من أسرتي، وفيها منزلي الذي اعتدى عليه الشبيحة في 10/ 7/ 2011، وكتبوا على البوابة: (هذا منزل العرعور) جزاءً وفاقًا على ما يعلم من أمروهم من مواقفي من النظام منذ 1963، وليس فقط بعد 2011.
وحده جعفر حسن عيسى كان ضحية الهزة الارتدادية العلوية في اللاذقية، بينما كانت تلك الهزة تتلاشى، والتعزيزات العسكرية تسرع إلى المدينة، والأمر بحظر التجول يسابق هزة أخرى في مدينة جبلة، وهزة أكبر في طرطوس، وهزة أكبر في حمص و... أعوذ بالله من شرّ غاسقٍ إذا وقب، والغاسق هنا هو الليل إذا أظلم.
منذ صبيحة الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، حتى مساء الأربعاء، الخامس والعشرين منه وأنا ألهج حتى في نومي: هذا هو العرس الذي لا ينتهي في ساحة لا تنتهي/ هذا هو العرس السوري. وكنت أرى محمود درويش يبتسم غامزًا، لأنني بدلت قوله (هذا هو العرس الفلسطيني).
كانت الليلة السابقة، ليلة الثلاثاء، الرابع والعشرين من شهر العرس، قد أضاءتها شموس عيد الميلاد، حتى إذا أحرق الأوزبكيان شجرة الميلاد في السقيلبية، كادت هزة ارتدادية أن تكون في تلك المدينة التي دخلتُها أول مرة في ضحى الخامس والعشرين من شهر تموز/ يوليو عام 1968 قادمًا من مصياف مشيًا بالبوط العسكري (37 كم) متزنرًا بالكلاشينكوف والبطانية الملفوفة، متوركًا مطرة الماء ــ من الورك ــ أثناء دورة تدريبية على العمل الفدائي.




بعد ليلة الهزات الارتدادية الطائفية، العلوية والسنية، بليلة، أي في ليلة السادس والعشرين من شهر العرس، سيسبقني رامي عبد الرحمن (المرصد السوري لحقوق الإنسان) على شاشة العربية، في تقدير الحكمة والحزن اللذين واجهت بهما الإدارة السورية الجديدة حريق السقيلبية بالقبض على الأوزبكيين من كتيبة البخاري الطلابية الموالية لطالبان، وبالاعتذار من أهل السقيلبية. وسيسبق رامي عبد الرحمن بالسؤال: لماذا لم يواجَه حريق فيديو الخصيبي بالطريقة نفسها منذ يومه الأول؟ وسأضيف متسائلًا: أما كان ذلك سيسحب البساط من تحت أقدام المتربصين أيًا كانوا، من إيران إلى أوكار فلول النظام أينما كانوا، وبأي لبوس ظهروا؟
لكن ما كان قد كان، والأخلاط تختلط ساعةً فساعةً، ويومًا فيومًا، وهذا الشيخ الدكتور دريد قادرو يهدر ملء شاشة تلفزيون سوريا محذرًا من الفتنة الطائفية ونذيرًا، ومبشرًا بالوحدة والتوحد الوطني. وللشيخ خالد كمال رجع النشيد، والشيخان من اللاذقية، الثاني سنّي، والأول علوي يذكّر بخاله الشيخ بدر غزال الذي اختطف وقُتِل في 26/ 8/ 2013. ومن نشيد الشيخين إلى بيان من حمص، وبيان من اللاذقية، في جمعة الحِداد 27/ 12/ 2024، والبيانان منسوبان لعلويين يحذرون من الفتنة والطائفية. لكن ما هو أمضى ما نقل تلفزيون الخبر عن مجلس العزاء الذي أقامته نساء من ريف جبلة، لضحايا صيدنايا، وضحايا كل صيدنايا في سورية، والرسالة التي أرسلتها هذه المجموعة إلى ذوي الضحايا في أرجاء سورية، والأخلاط تختلط كأنما هي رجع هزّة/ هزات ارتدادية، فتصدح مكبرات الصوت: ارفع راسك فوق/ إنت سوري حرّ، ومن روايتك "ليل العالم" (2016) يأتي الصدح: ارفع راسك يا بو الشهيد، ويأتي الصداح: مجاريحْ عجّل نصرك يا الله، والدعاء مستجاب ولو بعد حين امتد حتى الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024.
لكن الطائفية تعاجل الفرح والنصر بما يضاعف القلق، فتفتح الدفاتر العتيقة عملًا بحكمة العوام، وتقرأ ما كتبتَ منذ سنوات تحت عنوان "المثقف والطائفية" في كتابك "في التباب ونقضه"، الذي صدر عام 2019 في القاهرة، ومُنع من التداول في سورية التي كان الكابوس الأسدي قد تطاول عليها خمسة عقود، أو قلْ: كان الكابوس البعثي قد تطاول عليها ستة عقود إلا قليلًا.
في ما كتبتَ، عرّيتَ أستار المثقف الطائفي، من المثقف العلوي الذي يزاود على نظيره السنّي، فيخوّن الطائفة العلوية من بابها إلى محرابها، إلى المثقف السنّي الذي داهن الرايات السود. وفي السعي إلى تفكيك ظاهرة المثقف الطائفي بخاصة، والطائفية بعامة، ناديتَ ما كتب عزمي بشارة عن الطائفة والطائفية والطوائف المتخيلة، ليصح الحديث عن الطائفية كمتخيل اجتماعي. وعلى هدي من ذلك، يأتي الحديث عن الصدع الطائفي السوري، كما الصدع الإثني، وربما كان أوجع وأكبر ما في هذا الصدع هو ما يتعلق بالعلوية. لا تنسَ الدرزية، والإسماعيلية، والإيزيدية. هل نسيت المسيحية؟
إلى الصدع الآن أنادي رواية "شارع الخيزران" (2014) لحسن صقر، الذي رحل في مطلع العام. وقد كانت اللاذقية فضاء الرواية، وفيها دوّى صوت الشيخ "أنا سنّي، وأشعر بالولاء للإمام علي. لا أحمل هوية مغلقة". وفي الرواية يدوّي صوت الأستاذ عبد الجليل من روّاد حزب البعث، فينعي حزبه الذي عجز عن أن يوحّد حي الرمل الشمالي العلوي مع حيّ الرمل الجنوبي السنّي، في المدينة التي طالما دوّى فيها الصوت السوري، ليس فقط غير الطائفي، بل ضد الطائفية، منذ العهد بعبد السلام جود، وبدوي الجبل، ونبيهة حداد، وإلياس مرقص، وعبد الله عبد، و... إلى هاني الراهب، وليلى نصير، وبو علي ياسين، ومنذر مصري، وسواهم من الشعراء والكتّاب والفنانين.
مع أولاء، ومع نظرائهم في أرجاء سورية، تتصدى سورية للهزات الارتدادية الطائفية وغير الطائفية، بينما تتفجر الأسئلة عن مؤتمر وطني وإعلان دستوري والخوف المضاعف، من شقّه المشرش والمتخلّق مثلًا بالزوج والأستاذ والفقر والمخابرات و... إلى شقّه الجديد المتخلّق بهذا المجهول القادم من إدلب، أو المتنكّر بصخب التمجيد والتهليل. وهي أيضًا الأسئلة المتفجرة عن نُذُر الثأر والانتقام والاستعلاء والاستفزاز، أو عن العربدة الإسرائيلية في حَضَر، وجباتا الخشب، والقنيطرة، والتلول الحمر، وسد المنطرة، وعين الحمرا و... وكل الجولان الذي أوكلت إسرائيل حمايته للأسد الأب فالابن منذ عام 1973؛ وكذا هي الأسئلة عن تجنيس المقاتلين غير السوريين، من الإيغوريين، إلى المصريين، وصولًا إلى المواطن الذي لا طائفة له إلا سورية، لذلك تراه يجأر: حذار من الديكتاتورفوبيا، أو الإسلاموفوبيا، ومن كل فوبيا.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.