ما لم يتم إنجازه في تلك العقود الحالكة من تاريخ البشرية في مناطق السلطنة العثمانية، شكّل عائقًا دمويًا هائلًا في وجه محاولات التحديث على كل المستويات في تلك البلاد الناشئة عن انهيار السلطنة. كما لو أن تلك البلاد لم تفعل سوى ارتكاب الإبادات بالتقسيط، لأنها لم تنجح في ارتكابها دفعة واحدة.
لقد ولدت هذه الدول بعيد انتهاء تلك الحروب الدامية في أوروبا. وهي ولدت أيضًا، في غمرة الإدراك الأوروبي الساطع، بأن الحروب المتناسلة من بعضها في تلك القارة منهكة إلى درجة أن الأسلم أن نسلم الضحايا رايات النصر. انتهت حروب أوروبا الكبرى في منتصف القرن الماضي بإعلاء شأن الضحية على نحو حاسم. منذ ذلك الحين، أصبح الندم والخوف من المغامرة هما ما يسيّران السياسة ويحكمان المزاج العام. أوروبا التي كانت في تلك اللحظة قد أتخمت بدماء أهلها، لم تعد قادرة على شرب المزيد من الدم. وكانت هذه التخمة بمثابة حقنًا لدماء المستقبل، من جهة أولى، وعائقًا أمام محاولات تطوير أنظمتها ودساتيرها في سبيل أن تصبح الأمم الأوروبية المنتظمة في دول متجانسة، متسعة ومرحبة بالمختلف والمتحدر من أصول أخرى.
ومن سوء حظ البلاد المولودة من رحم السلطنة العثمانية، أنها جرّبت حظوظها في التحديث وقيم الحداثة والدولة الأمة، في الوقت الذي بدأت فيه علامات الخلل في التجانس في أوروبا نفسها تتضح للجميع، وترتفع مع هذا الاتضاح، أصوات قوى شعبوية متعصبة تطالب بعودة أوروبا للأوروبيين.
كما لو أن تاريخ هذه الدول الناشئة قد سُفح مرتين. مرة لأنها لم تصنع تجانسها في وقت كانت فيه الإبادات أمرًا شائعًا ومقبولًا ومفهومًا، ومرة لأنها عانقت أملها بصناعة مجتمعات متنوعة ومتسامحة في الوقت الذي بدأت فيه نذر الكراهية تلوح في أفق البلاد التي حثت على التسامح وإعلاء قيمة الإنسان وإحلال المواطنة محل الإيمان.
سورية...
سورية بين هذه الدول المولودة من انحلال السلطنة، قد تكون أكثرها تنوعًا وتعقيدًا، وهي بلا شك أكثرها تجريبًا للخطط والأفكار والوسائل التي تمكنها من بناء دولة جامعة. لكن اجتهاد السوريين هذا لم يحل دون تأثر هذا البلد بأحكام عالمية ومحلية تفوق قدرة أهله على معالجتها. لقد ولدت فكرة الدولة الديمقراطية في هذه البلاد نخبوية. منذ بدايات القرن الماضي، كانت نخب هذا البلد تفترض أن الترقي إلى مرتبة المواطنة تشترط التمتع بصفات لا تملكها عامة الناس. المواطن في هذا البلد يولد ابنًا لطائفة أو عائلة أو قبيلة، لكنه يترقى تعليمًا وتثقيفًا ليصبح في ما بعد مواطنًا. المواطنة بهذا المعنى لم تكن مرة معطى يكتسبه السوري بالولادة. عليه أن يترقى في العلم والمعرفة ليصبح مواطنًا. ولم تخل هذه المسارات التي قطعتها هذه النخب من تعالٍ على عامة الناس. لقد تأسست الأحزاب في هذه المنطقة بوصفها تريد تعليم المجتمع ليصبح ناضجًا ومستعدًا لما تقتضيه الحداثة. وهم في هذا السلوك ما كانوا مختلفين كثيرًا عن نظرائهم الأوروبيين. هذه الحداثة ارتكبت من المجازر في دولها ما لم ترتكبه الإمبراطوريات السابقة، بدءًا من محارق النازيين وصولًا لإبادات الستالينيين. لقد قتل الحداثيون باسم الدولة الأمة والمجتمع المتجانس من نجوا من حروب الكنيسة في القرون الوسطى، إذ لو كانت الكنيسة قد أتمت هذه المهمة بدلًا منهم، لما كانوا وجدوا جماعات يحتاجون لإبادتها.
ولد الشرق الأوسط من رحم هذه المعطيات المتشابكة والمعقدة. النخب العلمانية التي تحكمت بمصائره لم تنجح في إحلال المواطنة محل الإيمان. العوائق كانت اجتماعية وطائفية وعرقية، أولًا وفي الأساس. وكانت اقتصادية في المقام الثاني، والذي لا يقل أهمية عن المقام الأول. لم يكن خافيًا على أي متفحص في طبيعة نشوء الدولة الأمة، أن هذه الدول تحتاج لاستقرارها أن تتحول الانقسامات الاجتماعية- السياسية من انقسامات أهلية إلى انقسامات حديثة. طبقات وفئات اجتماعية يحدد معالمها المستوى الاقتصادي أولًا. وتتقرر أهميتها بمقدار الحاجة إليها، هكذا يمكن للطبقة العاملة أن تكون مؤثرة في السياسة حين تكون الحاجة إليها ملحة اقتصاديًا، وحين يكون نسيجها الاجتماعي مؤسّسًا وضروريًا للمجتمع برمته. وما أن تنحسر أدوار الطبقة العاملة بسبب التقدّم التقني والعلمي والصناعي، حتى تضمحل من تلقائها ويصبح دورها في السياسة وصنع القرار هامشيًا، لتحل محلها طبقات أو فئات أخرى أصبحت ذات أهمية للاجتماع والاقتصاد على حد سواء. باختصار، لا تستقر الدولة الأمة إن لم تكن قواها الاجتماعية علمانية المنبت والمنشأ والمآل.
هذا الشرط لم يكن متحققًا في البلاد التي نشأت من رحم السلطنة العثمانية، ولم يكن قابلًا للتحقق لسببين على الأقل: الأول يتعلق بكون المجتمعات المتجاورة في تلك الدول الناشئة كانت متجانسة في مناطقها، وتقيم على حدود مجتمعات متجانسة أيضًا، لكن هذا التجانس طائفي وإثني في الدرجة الأولى، ما يمنع تشكّل فئة المواطنين ويمنع الحواضر الكبرى من التشكّل كمدن حديثة. فتبقى الحواضر عبارة عن أحياء متجانسة يلتقي أهلها في السوق المتنوعة، ويفترقون في الأحياء المتجانسة، ولا تنجح في التحول إلى مدن حديثة تكاد تكون صفتها الأهم، أنها تجمع أهلها بوصفهم أفرادًا مجهولين، ويؤلف في ما بينهم خضوعهم للقانون نفسه الذي لا يفرق بين فرد وآخر.
القوى التي تسلمت زمام الأمور في سورية وتلك المرشحة لأن تشاركها في تأسيس السلطات الجديدة، هي قوى أهلية بامتياز (Getty) |
ولأن الجيوش هي المؤسسات الوحيدة التي كانت تنمو وفق التقسيمات العلمانية شكّلت هذه الجيوش السلطات الأطول عمرًا في هذه الدول.
ليس خافيًا أن دول الجيوش التي نشأت في الشرق الأوسط وسورية منها، استنفدت كل ميزاتها وأنفقت كل رأسمالها منذ عقود. نظام بشار الأسد كان يعيش على انعدام البدائل. لم يكن ثمة في الأفق بديلًا يحل المعضلة التي تضرب عميقًا جذور هذه الدول الناشئة. وكانت هذه الأنظمة التي لم تعد تملك أجوبة على أي من معضلاتها تتغذى، لبقائها، على قيد الحياة من فشلها في نقل من حكمتهم بالقمع والعنف، من خانة الأهل إلى خانة المواطنين. المعادلة كانت قائمة على الشكل التالي: لقد تسلمنا الحكم لنحوّل الأهل إلى مواطنين، لكننا فشلنا في ذلك فشلًا ذريعًا، وعليه، وخوفًا من أن يعود الأهل إلى الحكم يجدر بالعالم كله أن يحافظ على بقائنا ويتغاضى عن جرائمنا بحق من لم ننجح في هندسة اجتماعهم واقتصادهم ليرتقوا من مرتبة الأهل إلى مرتبة المواطنين.
اليوم سورية تعاني من إهمال مديد لمجتمعها الأهلي على كل المستويات، ومن تعفن قاتل في نخبها التي حكمتها طوال هذه العقود. نخب لا تملك أجوبة لأبسط مشكلاتها وأكثرها وضوحًا، ومجتمعات أهلية تدار بالقمع، بحجة أنها أهلية ولا تليق بالعصر الحديث.
خلاصة ما تقدم تفيد ما يلي: لم يعد لدى النخب العلمانية، التي تحولت إلى طوائف وتأثرت وأثرت في سياسات هذه الطوائف، الكثير لكي تقدمه وتقترحه حيال مستقبل سورية. القوى التي تسلمت زمام الأمور في سورية وتلك المرشحة لأن تشاركها في تأسيس السلطات الجديدة، هي قوى أهلية بامتياز. لديها الكثير مما تخشاه من القوى الأخرى المضطرة للتعايش معها، ولديها الكثير من المشتركات التي تجعلها قابلة لتحقيق تعايش حقيقي بين جميع مكونات الدولة السورية. وأغلب الظن أن الدستور الجديد والقوانين التي ستنبثق عن السلطات الجديدة ستراعي هذه التشكيلات أولًا. وستعمل على إبراز المشترك بين هذه القوى لتجعله الحجة الأبرز لبقاء سورية تحت كنف دولة متعدّدة المنابت والتوجهات. وأجزم أن النصر السهل الذي حققته هذه القوى على نظام بشار الأسد الوحشي، لم يكن مردّه حجم التضحيات السورية التي قدّمت على مذبح تحرّرها من هذا الطاغية، بل التجربة القصيرة في إدارة قسم من البلاد، ومراعاة مكوناتها والسماح لها بالتعبير عن هواجسها وممارسة طقوسها في جو من الأمان والتسامح، في المنطقة التي كانت تديرها فصائل المعارضة المسلحة في شمال سورية منذ نحو عقد من الزمن. خلال هذه الفترة الزمنية من حكم هذه الفصائل المسلحة نجحت في أقصاء ما ليس مناسبًا لها من قيم الحداثة، وتبنّي ما يتناسب مع طبيعة الموزاييك السوري، المتشكّل من طوائف وأديان وشعوب. الحال، لم يعد ثمة وصفة جاهزة يمكن استيرادها من الكتب أو من قاعات الجامعات قادرة على تثبيت التعايش الأهلي بين المكونات السورية. ووجد السوريون أنفسهم في موقع من يسعى لتجريب كل الصيغ الممكنة والمتاحة التي تملكها هذه الجماعات لترسيخ السلم في ما بينها، والتعاون لمواجهة التحديات الهائلة التي يمثلها مستقبل سورية.
السبب الأهم لجنوح مكونات الشعب السوري نحو مراعاة بعضها بعضًا، يمكن تلخيصه بحجم الكلفة الهائلة بشريًا واجتماعيًا واقتصاديًا التي تكبّدها الشعب السوري خلال العقود الماضية، وبالأخص في الفترة التي أعقبت ثورة 2011. هذه الكلفة هي ما يعصم السوريين اليوم وإلى أمد طويل نسبيًا من الخوض في مغامرات فرض أي طرف هيمنته على الأطراف الأخرى بالقوة المسلحة، أو محاولة الهيمنة على ما يقع خارج الحدود السورية، كما كانت عليه الحال خلال حكم الأحزاب العقائدية لسورية في العقود السابقة. وإذا شئنا أن نضع عنوانًا لسياسة المرحلة المقبلة في سورية فقد يكون العنوان الأنسب هو التواضع، وهذا ما يرشح من تصريحات القادة الجدد في البلاد: "الشعب السوري منهك، ولا طاقة له بعد على خوض الحروب. لا مكان للانتقام في سورية الجديدة. ليس من حق أي قوة أن تفرض على المجتمع طريقة عيشه وزيه أو تغيير عاداته وتقاليده". وعليه فإن نقطة الثقل الأبرز في مستقبل سورية، على ما يتضح من مسالك القوى المنتصرة، ستكون الرغبة في العيش بسلام ومن دون خوف الجماعات السورية من بعضها بعضا، أو محاولة فرض معتقدات الطرف الأقوى على الأطراف الأخرى. في الخلاصة: سورية اليوم تخرج من حروب الحداثة إلى سلم الجماعات.
لكن سلم الجماعات ليس مضمونًا بطبيعة الحال. التحدّيات التي تحفّ بهذا السلم هائلة، وقد يكون التطور التقني والتغيرات الهائلة في مجال الاقتصاد التي فرضتها العولمة أبرز التحديات. ذلك أن ما قد تنجح فيه هذه الجماعات في سورية هو إقامة اقتصاد كفاف أهلي، وهذا شبه مضمون. لكن صناعة نموذج للمنطقة والنجاح في تحقيق رخاء وازدهار تحوطه الكثير من الشكوك. فالتقنيات الحديثة تحض الأفراد حضًا على أن يكونوا أنفسهم، لا جماعاتهم، وأن يختاروا بملء إراداتهم، وبحسب أهوائهم وتحصيلهم الثقافي، الجماعات التي يودون الانتماء إليها. وهذا الجنوح الشائع يهدّد دولًا راسخة في استقرارها، والأرجح أنه في سورية سيجعل من كل محاولة لتجميد البلد داخل إطارات جماعاته المكونة له، سببا للاضطراب.
هل تنجح القوى الجديدة في المواءمة بين تقليد الجماعات وضرورات العولمة؟ الأرجح أن عملًا كثيرًا وشاقًا سيكون مطلوبًا من السوريين جميعًا لتحقيق نجاح على هذا المستوى. لكن الثابت أن سورية اليوم تقع في الدرجة الصفر، وأن انتقالها إلى درجة أعلى في المعاصرة يحتاج منها إلى أن تبذل جهودًا مضنية، وأن تبتكر أفكارًا وحلولًا لا تملك الكتب المرصوفة في المكتبات أجوبة لها.
لكن الخلاصة الثابتة التي يمكن إطلاقها حيال ما جرى في سورية وسيجري في المقبل من الأيام، تتعلق بعجز النخب العلمانية عن مواكبة هذه التطورات. ولأول مرة في تاريخ هذه المنطقة الحديث، لا يملك العلمانيون أجوبة على أي من الأسئلة التي تطرحها الأوضاع السورية بقوة على السوريين سوى الأجوبة نفسها التي تم تبنيها من قبل وأدت، في ما أدت إليه، إلى جولات عنف لم تبق من حداثة سورية الكثير.