(إلى إلياس خوري، مضى وأنا أكتب هذا المقال)
ترامب: "إسرائيل ستزول في غضون عامين"!
تنوّعت الترجمات العربية لتصريح دونالد ترامب، الرئيس الأميركي السابق، ومرشح الحزب الجمهوري الحالي لانتخابات رئاسة الولايات المتحدة القادمة، خلال وجوده في ولاية ويسكونسن شمال وسط البلاد، منذ ما يقارب الأسبوع من الآن: "إذا لم أفز في هذه الانتخابات، فإنّ إسرائيل، مع الرفيقة – فهو يتّهمها بالشيوعية!- كاميلا هاريس على رأس الولايات المتحدة، محكوم عليها بالفشل"، أو "محكوم عليها بالزوال"، أو "ستختفي إسرائيل إذا فازت هاريس برئاسة"! أما خلال المناظرة التي حدثت مساء الثلاثاء منذ عدة أيام فقد وضّحها: "هاريس تكره إسرائيل، فإذا أصبحت رئيسة، إسرائيل لن تكون موجودة في غضون عامين... إسرائيل ستزول"!، هل يعلم أحد كم مليون ناخب أمريكي يصدّق هذا، ما دام مرشّحه يؤكّده؟ أمّا ما ردّت به هاريس: "أنّ اتّهامي بكراهية إسرائيل غير صحيح على الإطلاق، وأنّي دعمت إسرائيل طوال مسيرتي المهنية، وسأعمل على حلّ الدولتين"! فأظنّه يحمل معنى أهمّ وأخطر، لأنّها بهذا الجواب تؤكّد احتمال زوال إسرائيل فيما لو كانت اتّهامات ترامب صحيحة. في الوقت الذي كان في استطاعتها، لو أنّ لديها ذلك الذكاء، الذي يتندّر كثيرون بتدنّي درجته عندها، بتردادها في كلّ مناسبة، وقت يلزم ولا يلزم، تلك العبارة الفلسفية الغامضة التي لا أحد يدرك تمامَا ماذا تعنيه بها: "ما يمكن أن يكون، من دون أن يحمل أعباء ما كان"! أن تقول، بما معناه، إنّ تحذيرات ترامب بإمكانية زوال إسرائيل غير صحيحة أساسًا، فلإسرائيل من أسباب البقاء ما يكفي، فزت أو لم أفز. لكنّها لم تقل! لم يخطر على بالها! وذلك لأنّه... ليس بسبب الغباء، بل لأنّه أمر صحيح. أمر صحيح أنّ إسرائيل يتوقّف وجودها على وجود هذا الرئيس أو ذاك، وعلى الدعم الشامل، الدائم غير المشروط من قبل رؤساء الولايات المتحدة. لذا فهي بهذا السياق مهدّدة حقًّا بالزوال بطريقة أو بأخرى!
غانور: "إسرائيل إلى الهاوية"
هاريس ونتنياهو يصلان إلى اجتماع في المكتب الاحتفالي لنائب الرئيس في مبنى أيزنهاور التنفيذي في واشنطن العاصمة (25/ 7/ 2024/فرانس برس) |
يختم إفرايم غانور مقاله الأخير في صحيفة معاريف بهذا التحذير: "يقف على رأس معسكر النصر الكامل الوزيران إيتمار بن غفير، وبتسلئيل سموتريتش. يرفعان أعلام هذا النصر الوهمي وهما يقودان البلاد إلى الهاوية". ليس غانور الصحافي الإسرائيلي وحده من يردّد العبارة ذاتها ويتوقّع المصير ذاته، فهناك أيضًا جدعون ليفي أوّل من أطلق على حرب إسرائيل في غزّة صفة حرب إبادة، وعميرة هاس، التي تصف إسرائيل بأنّها مجرّد آلة قتل وتدمير، عداك عن مفكرين ومؤرّخين يهود أكثر من أن يحصوا، لا رسالة لهم سوى أن يعبّروا عن قلقهم العميق على مصير إسرائيل!
وماذا يعني حلّ الدولتين بالنسبة للسيد نتنياهو؟
أمّا عن حلّ الدولتين الذي أقرته الأمم المتحدة منذ 1947، وتدعو له أغلب دول العالم، حتّى الداعمة منها لإسرائيل، كالولايات المتحدة الأميركية مثلًا، والذي تقول السيدة كاميلا هاريس إنّها في حال فوزها ستعمل له، كما عمل جميع من سبقوها من الرؤساء الأميركيين، ومن السهل أن نرى ما أنجزوا! فإنّ السيد نتنياهو لم يتوقّف عن التصريح منذ أوّل ظهوره السياسي لليوم، التصريح الذي بنى عليه كلّ حياته السياسية، بأنّه يعني... نهاية إسرائيل! ما يهمني هنا هو ورود العبارة، الفكرة، تأصّل الفكرة!
صلب التمثال هو الأكاذيب
[بولس: ما هذا؟ حشرت نفسك في عنق زجاجة لن تستطيع الخروج منها، مهما حاولت.
منذريوس: أنت تقول، أما أنا فأشعر بأنّي أحلّق بأربعة أجنحة]
أصارحُكم... عندما بدأت الكتابة في هذا الموضوع، بالعنوان أعلاه: (إسرائيل مصنوعة من مواد قابلة للتلاشي)، منذ ما يقارب 5 أشهر، بعد مقالي: (هل حقًا طوفان الأقصى نقطة تحوّل؟)، وكان جوابي: "نعم... والدليل أنّه نقطة تحوّل لي!"، كان في نيّتي، ولا يزال، كتابة سلسلة من المقالات عن القضية الفلسطينية، أضمّنها ذكريات وأفكارًا ومشاعر عاطفية أيضًا، تجمّعت لدي خلال حياتي البالغة ثلاثة أرباع قرن، كسوري وكعربي، وأكثر كإنسان ولدت وعشت في بيئة محدّدة، شغلت خلالها، كما كثيرين ممّن حولي، بقضية فلسطين، وتأثّرت عميقًا بالعواقب الكارثية للوجود الاسرائيلي، كان كلّ ما كتبته حينها يتلخّص في الجواب: "الأكاذيب... الكذب في كلّ شيء... الكذب في الدين، الكذب في التاريخ، الكذب في الجغرافيا، الكذب في الأغاني، الكذب في الأفلام، الكذب في الطعام... الكذب الكذب الكذب، هذه هي المواد التي صنعت منها إسرائيل". وهذا في الحقيقة، مهما فصّلت فيه، قيل كثيرًا من قبل كثيرين كثيرين، ويكاد لا يفيد بشيء. لهذا عند عودتي للكتابة فيه، وجدتني أفضّل تركه والذهاب إلى مجموعة من الأسئلة، آمل أنّي من خلالها أستطيع دعم ادعائي بأنّ مصير الكيان الإسرائيلي على الأمد غير البعيد هو الزوال. قلت: "على الأمد غير البعيد"، لأنّه لا معنى لهذا الادعاء أو سواه إذا قلت على الأمد البعيد! لأنّ مصير كلّ كيان على الأمد البعيد، في النهاية، هو التفكّك والزوال، ليحلّ محلّه كيان آخر، ربّما وريث له، أو لا علاقة له به على الإطلاق.
ماذا يعني كلّ ذلك؟
ترامب ونتنياهو عند الإعلان عن "خطة ترامب للسلام في الشرق الأوسط" في الغرفة الشرقية بالبيت الأبيض في واشنطن العاصمة (28/ 1/ 2020/فرانس برس) |
[بولس: "ما تقوله، سبق وهرف به أناس كثيرون. مجرّد حلم. كلام ينطق به عن هوى!".
منذريوس: "ربما لا، ربما نعم. ما يهمّني، كما في كلّ مرة، هو في أيّ صفّ أقف"].
1 ــ ماذا يعني ألّا تجد إسرائيل بعد 76 سنة من إعلانها كدولة، واعتراف الأمم المتحدة بها في 11/ 5/ 1949، طريقة أفضل لحماية نفسها، سوى بناء جدار! جدار الفصل كما أسمته، بطول 800 كيلومتر، وارتفاع يصل في بعض أجزائه إلى 8 أمتار، حيث لا يكفي حرس الحدود، ولا تكفي أبراج المراقبة، ولا تكفي الرادارات ولا الكاميرات. ماذا يعني أن تكون إسرائيل مطوّقة.
2 ــ ماذا يعني أن تعلن إسرائيل، جزيرة الحضارة والتقدم والديمقراطية، والمضحك أنّ بعض العرب يصدّقونها، في محيط من الهمج والمتخلفين والإرهابيين، أنّها دولة يهودية! وتشترط على كلّ من يعترف بها كدولة أن يقبل بهذا؟ في عالم يحاول أن ينزع عن نفسه كلّ تعصّب، أو صفة عنصرية، دينية، أو عرقية، أو جنسية؟
3 ــ ماذا يعني بعد ثلاثة أرباع قرن أن تكون الصورة المتشكّلة لإسرائيل على هيئة ثكنة عسكرية، ثكنة عسكرية على مساحة دولة، بأبراج حراسة وسياج شائك، وجيش تحرص على أن يكون أقوى جيش في المنطقة، بل أقوى من كلّ جيوش المنطقة؟ أي هيئة طبيعية هذه لدولة؟ طبيعية قلت؟ هذا بالتحديد، لا أحد في العالم، حتّى حكّام إسرائيل وحرّاسها، يستطيعون ادّعاءه!
4 ــ ماذا يعني أن لا تشعر إسرائيل بالأمان إلّا بامتلاكها أكبر وأحدث أنظمة الحماية والدفاع في العالم، ماذا يعني أنّ لدى إسرائيل أعظم قبّة حديدية في العالم؟ يا لها من دولة صالحة للحياة الآمنة الرغيدة. تلعلع فيها صفارات الإنذار كلّ يوم في منطقة ما، مستعمرة كانت أم بلدة أم مدينة، ويهرع سكّان تلك المنطقة المهدّدة إلى الملاجئ، حيث اعتادوا أن يقضوا لياليهم، نعم في إسرائيل ملاجئ كثيرة مجهّزة بكلّ شيء، ليختبئ فيها مئات آلاف الناس المذعورين، لأيّام عديدة! ليس المناطق الحدودية في الشمال والجنوب فحسب، بل في المدن الكبرى، وحتّى تل أبيب، كما حدث عندما سقط قرب مطار بن غوريون صاروخ يمني عابر للقارات، قطع ما يقارب 2000 كيلومتر بزمن قدره 11 دقيقة، من دون أن تستطيع كشفه الرادارات المتطوّرة والقبّة الحديدية معًا. أي أنّه، لليوم، وربّما أكثر من أيّ يوم مضى، إسرائيل بلد مكشوف للأذى.
5 ــ ماذا يعني بعد 76 سنة من الحروب والانتصارات أن تؤخذ إسرائيل على حين غرة، ويقوم عدد محدود من المقاومين بعملية اختراق واقتحام 22 مستوطنة ضمن ما يعرف بغلاف غزة، مكبّدين إسرائيل 1414 قتيلًا، و250 أسيرًا، من عسكريين ومدنيين. والتي شبّهت بطعنة عميقة في خاصرة إسرائيل، لا يزال الدم النازف منها يسيل إلى عمق الوجود الإسرائيلي!
6 ــ ماذا يعني أن تبقى إسرائيل في حالة حرب مستمرّة ما بات يقارب السنة، هي المصمّمة على الانتصار في الحروب القصيرة الخاطفة، التي لا تطول لأكثر من أيام، أليست هذه مادة متلاشية؟ ماذا يعني 349 يومًا لتاريخ 22/ 9/ 2024، من الاستنفار، من التأهب، العسكري والمدني، أرضًا وبحرًا وجوًّا، ومن عمليات قصف المدن، وهدم الأبنية، وقتل البشر يوميًّا، ليصل عدد ضحاياها إلى أكثر من 40 ألف قتيل، نازفة للدم، دم الأطفال والنساء الفلسطينيين، ودم جنودها وشبابها على السواء. اليوم (17/ 9/ 2024) تعلن إسرائيل عن مفتل أربعة جنود في كمين نصبته كتائب القسام في رفح، ليصل عدد ضحايا الجيش الذي لا يقهر إلى 1500 ضابط وجندي، و7200 جريح، أي بمعدّل يزيد عن 4 قتلى و20 جريحًا يوميًا منذ أن بدأت إسرائيل عملية الغزو للقطاع، كما نازفة لصورة إسرائيل في العالم بتحويلها من دولة لضحايا النازية والعنصرية، إلى دولة مصاصي دماء! أي أنّ ضحايا المحرقة أنفسهم قد عادوا إلى الحياة على هيئة زومبي، ورغم أنّهم لا يحتاجون إلى ما يقتاتون به، فإنّهم مدفوعون إلى الافتراس ونهش اللحم الحي!
7 ــ ماذا يعني أنّ إسرائيل اليوم، وبعد 76 سنة، في حرب؟ وعلى كم جبهة؟ غزّة! الضفّة! لبنان، سورية! اليمن! العراق! إيران! تقصف بالطائرات هنا، وبالصواريخ هناك، وبالمسيرات في كلّ مكان، تقتل كلّ يوم بالقنص وبالمتفجرات وبعمليات الإنزال! تتفنّن إسرائيل بطرق القتل. اليوم، وبعملية بلغ فيها التفنّن أقصاه، فجّرت الهواتف اللاسلكية لـ 4000 عنصر من حزب الله، توفي منهم لليوم 14، وهناك 250 في حالة حرجة! وأغلب الإصابات في اليدين والخاصرة والرأس، ويقدر أنّ 500 منهم مهدّد بالعمى. طوبى لها، طوبى لإسرائيل الحياة تحت شعار: (Israel Kill Kill Kill)؟
8 ــ ماذا يعني أن يكون اليمن، والعراق، وإيران، وتركيا، في حالة عداء نشطة مع إسرائيل؟ ماذا يعني أنّ هنالك صواريخ تطلق على إسرائيل وتخترق تحصيناتها الدفاعية من اليمن والعراق وإيران! يعني أنّه بعد 76 سنة من الحروب مع السوريين والمصريين واللبنانيين والأردنيين، والفلسطينيين طبعًا، دخلت على خط المواجهة مع إسرائيل دول أخرى، شعوب أخرى، بعيدة آلاف الكيلومترات، ولكنها قادرة، متى يحلو لها، على إطلاق صواريخها ومسيراتها على الكفن الاسرائيلي! يعني أنّ نظرية دول الطوق انتهت!
9 ــ ماذا تعني تلك العبارة التي ردّدها الإسرائيليون، ومن وقف في صفّ إسرائيل في حرب غزّة: "من حقّ إسرائيل الدفاع عن نفسها"؟ بالتأكيد، تعني بالعمق، أنّ إسرائيل في خطر وجودي! وأنّها بسبب ذلك مضطرّة لشنّ الحرب، وللقتل. ماذا يعني أن يكون الخطاب الإسرائيلي قائمًا على حجة: "القتل القتل، لأنّه هكذا هي الحروب، للأسف"؟ ماذا يعني أن يعلن الإسرائيليون أنّهم يخوضون حربًا مصيرية؟ أن تكون إسرائيل أو لا تكون! فلا يكتفون بفكرة تهديد الوجود، بل يصعّدون، لأنّهم يحتاجون إلى هذا التصعيد، إلى فكرة أنّه لا يمكن لإسرائيل أن تستمرّ في الوجود إذا لم تقضِ قضاء تامًا على حماس، وفتح، وحزب الله، والحوثيين، لو أنّها تطالهم، وكلّ من تراهم أعداء لها.
10 ــ ماذا يعني بعد 76 سنة من الدعاية الإسرائيلية، وامتلاك اليهود الداعمين لإسرائيل أهمّ محطّات التلفزيون، وأهم المجلات والصحف في العالم الغربي، أنّ دولة جنوب أفريقيا، كرمز إنساني عالمي للكفاح والتحرر من العنصرية، تقوم برفع دعوى قضائية ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، تتّهمها بارتكاب جرائم إبادة جماعية في غزة؟ ماذا يعني أن أربع دول أوروبية، جمهورية أيرلندا، وإسبانيا، والنرويج، وسلوفينيا، تعترف في يوم واحد بدولة فلسطين، ومعها تسع دول من جنوب أميركا. بات هنالك ملايين من الناس، منهم فلاسفة مرموقون، وعلماء كبار، وأدباء، وفنّانون، وصحافيّون صنّاع رأي، وطلّاب جامعات في أميركا وأوروبا، يصدّقون بنهاية إسرائيل، بل يصدّقون أنّه كلّما كانت هذه النهاية قريبة، سيكون ذلك أفضل للعالم كلّه، ولليهود أنفسهم!
11 ــ أتعلمون ما معنى المشهد الإسرائيلي اليوم؟ إسرائيل تعود إلى اللحظة الأولى، لحظة إعلان الوجود! تعود إلى نقطة البداية! تعود للحظة الولادة، ولكن هذه المرة لا تأتي على شكل طفل لامرأة ناجية من المحرقة، يشفق عليه العالم، بل على شكل وحش بحراشف وأنياب ومخالب، على شكل آلة قتل، آلة إبادة شاملة! نعم إسرائيل تولد من جديد على شكل قاتل يداه ملطختان بالدم.
12 ــ ماذا يعني كلّ ذلك؟ أنا أسأل وأنا أجيب، يعني أنّ هذا الكيان الفرانكشتايني المصنوع من أوصال مقطوعة لجثامين شعوب شتّى، مصيره إلى التفكّك والانهيار، أي التلاشي على حدّ تعبيري، أي الزوال! لتحل محلّه دولة فلسطين الحرة الديمقراطية، التي تتّسع لكلّ الذين يريدون أن يحيوا فيها، حياة حرّة وكريمة وآمنة، من دون ظلم، ومن دون تمييز، ومن دون احتلال لبيوت الآخرين، ومن دون حروب مع جيرانها الأقربين والأبعدين، عربًا كانوا أم غير عرب، مسلمين ومسيحيين، ويهودًا بالتأكيد، كما كانت فلسطين لسنين طويلة، وكما يومًا سوف تعود... لا ريب.