}

محاولة فهم آليات إنتاج الخوف الجماعي لتعزيز الاستبداد

سوسن جميل حسن سوسن جميل حسن 1 يناير 2025
آراء محاولة فهم آليات إنتاج الخوف الجماعي لتعزيز الاستبداد
(يوسف عبدلكي)


من المألوف أن سقوط الديكتاتوريات يخلّف وراءه فوضى كبيرة، وإذا كان الخوف هو دافع كبير للفوضى والاضطرابات، فهو أيضًا كان عاملًا رئيسًا في تمكين الناس من الالتفاف والتوحد في الولاء للديكتاتور. هذه ظاهرة مهمة من المفيد أخذها بجدية في دراسة ظاهرة الجماهير وردّات أفعالها وسلوكها في الحالتين.

تعتمد السلطة المستبدة، إن كانت سياسية أم دينية أم اجتماعية، على موضوع الخوف في فرض سيطرتها على المجال العام، تختلق رموزًا لآليات المخاوف الاجتماعية والسياسية وتكرسها كعناوين للتهديدات بانعدام الأمن، أو الخطر الوجودي الذي يتربّص بالجماعة الواقعة تحت سيطرتها. بهذا تعمل الديكتاتورية على المجتمع بتشكيله على أساس فئات ومجموعات تضمر التوجس بعضها تجاه بعض، وتنمّي فكرها وثقافتها التي تتمايز فيها عن غيرها، حتى في المفاهيم المشتركة بين الناس جميعًا، فيصبح حتى الموت والحياة من المفاهيم المختلف عليها وفقًا لسياق ثقافي، ووفقًا لمعتقدات خاصة بكل جماعة.

والخوف هو عاطفة نشعر بها في وجود خطر أو تهديد، حالة فردية في الأساس، ثم تصبح حالة جمعية عندما ترتبط بالمعتقدات والأفكار الجامعة، تعبّر عن نفسها وتترجم سلوكًا على مستويات مختلفة، فهناك الخوف الارتكاسي الذي يظهر كردّة فعل أولى في لحظات التهديد، أو استشعار الخطر، الذي قد لا يكون موجودًا بالفعل، إنما لحظة التغيير هي التي تؤججه، فيشعر الشخص أو الجماعة بخطر داهم يهدّد الوجود، وهناك الخوف الاستباقي، أو الرعب، أو القلق، أو الضيق، والذي يرتبط أكثر بالجزء المعرفي والعمليات الاجتماعية. يمكن أن يتدخل الخوف أيضًا في عملية معرفية لوضع استراتيجيات تقلل من الأخطار، أو لضمان مستوى معين من الأمان في مواجهة التهديد أو الخطر.  

يدرك المستبد أو الطاغية أن الخوف يحتاج إلى تعزيز، وأن آلية المراقبة والقمع لا تعمل إلا بمشاركة المجتمع، هذه المشاركة التي يجب أن تقوم على دافع قوي كي تكون فعالة، فتصبح ردات الفعل ناتجة عن العواطف بعيدًا عن التفكير الذي يعمل المستبد على تعطيله، وقادرة على تعبئة الحركات الاجتماعية المهمة وشلّ النشاط السياسي. ويسعى المستبد إلى اجتراح خطابات معينة تحت عناوين تحمل إشارات إلى تهديد ما، يسعى إلى تعزيزها وجعلها مقبولة على هذا النحو من قبل جمهور اجتماعي كبير، من خلال اللعب على الديناميكيات العاطفية، مما يسمح له بتحويل المشاكل العامة إلى قضايا أمن خارجي، أو داخلي. منها ما هو جامع كالتركيز على عدو ما، يشكل تهديدًا للأمة، مثل العدو الإسرائيلي الذي اتخذته الأنظمة الاستبدادية في سورية عنصرًا جامعًا تنمو عليه الأجيال من دون أن يحقق ما يرفع من قيمة العواطف والقيم الجمعية، كالنصر والكرامة وحماية السيادة الوطنية، على سبيل المثال، أو عناوين مطاطة تجعل المجتمع في حالة تأهب لمواجهة خطر وجودي، كمفهوم الإرهاب على سبيل المثال، وهذا ما استخدمه النظام الساقط لتبرير عنفه ووحشيته ضد الشعب الذي ثار من أجل كرامته، من خلال هذا المفهوم خلق سردية وتاريخًا من انعدام الأمن من أجل إصدار القرارات السياسية التي تلائمه، وتبرير التدابير غير السياسية التي يجريها ويمارس من خلالها سلطته غير المقيدة إلى أقصاها.

الخوف من التغيير هو في الواقع الخوف من المجهول. إذ تسمح آلية الدفاع النفسي الطبيعية هذه بالاحتفاظ بما تم اكتسابه، وهو قضية مشكوك فيها ومضلّلة، وتحمي ممّا لا يمكن التنبؤ به أو الخطر المقبل، كما يتهيّأ للخائفين. من هذا المنطلق يمكن فهم موقف بعض من مكونات الشعب السوري من الحراك الشعبي في البداية، والخوف الذي تطور وازداد، مع التقدّم باتجاه العسكرة وتطييف المجتمع باستخدام التجييش الديني والطائفي. هذا ليس لدى الجماعات التي توصف بانها أقلية على أساس طائفي فحسب، بل لدى شرائح واسعة أيضًا تتميز بميلها نحو شكل مدني للدولة السورية.

في لحظة سقوط النظام في سورية، وفرار رأسه بشار الأسد مع كبار ضباطه وأركان نظامه إلى الخارج، اندفعت الجماهير إلى الساحات في حالة من الهياج الجماعي والمشاعر العارمة تعبّر عن فرحها في لحظة لم تكن قبلها تخطر في البال على أنها حلم قريب المنال. في الواقع، إن الشيء المشترك الأكيد بين هذه الجموع الغفيرة التي ملأت الساحات، وأغرقت صفحات التواصل الاجتماعي، هو فرحها بزوال كابوس جثم على صدورها عقودًا من الزمن، كان فيها محطات دموية، أكبرها كان في أواخر سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن الماضي، حقبة المواجهة مع جماعة الإخوان المسلمين وما ميزها من عنف وبطش ودماء، وثانيها هذه السنوات الثلاث عشرة الأخيرة التي فاق فيها إجرام النظام كل خيال. لقد كان الشعب السوري، ما عدا حلقة صغيرة من المستفيدين من فساد النظام ومتكئين إلى قوته الغاشمة ومرتبطين بعجلتها، يعاني.

تاريخ هيئة تحرير الشام الذي يشير إلى تأسيسها على فكر القاعدة، وانبثاقها من عباءة دولة الخلافة في العراق والشام "داعش" ثم انفصالها عنها، وممارساتها، خاصة في المرحلة التي كانت تسمى فيها جبهة النصرة، وخطابها الشمولي، والإقصائي، ما زال متوهجًا في الذاكرة، كل هذا أعاد تأجيج الخوف وإنتاجه من جديد (Getty)


لكن هذا السلوك الجمعي كان يضمر دوافع أخرى لا يمكن فصلها عمّا اشتغل عليه النظام الديكتاتوري القمعي، وهو الخوف، الارتكاسي أولًا، ثم الخوف المرتبط في الوعي الجمعي لبعض الجماعات، وفي الذاكرة، الذي أطلقنا عليه الخوف الاستباقي، أو الرعب، أو القلق، أو الضيق، والذي يرتبط أكثر بالجزء المعرفي والعمليات الاجتماعية، خاصة لكون الجهة العسكرية التي أنجزت إسقاط النظام هي هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها أو المنضوية تحت قيادتها، وتاريخ الهيئة الذي يشير إلى تأسيسها على فكر القاعدة، وانبثاقها من عباءة دولة الخلافة في العراق والشام "داعش" ثم انفصالها عنها، وممارساتها، خاصة في المرحلة التي كانت تسمى فيها جبهة النصرة، وخطابها الشمولي، والإقصائي، ما زال متوهجًا في الذاكرة، كل هذا أعاد تأجيج الخوف وإنتاجه من جديد، والنظر بعين الريبة إلى الخطاب المختلف الذي تقدمه الإدارة الحالية، على الرغم من تطميناتها ووعودها المستقبلية.

ما الذي تملكه النخب، الثقافية منها تحديدًا، أمام هذه الظاهرة؟ ليس من اليسير تفتيت منظومة معرفية أو ثقافية تأسست على الخوف، وعلى المرتكزات الهوياتية الضيقة، على مدى عقود، إن لم يكن أكثر، ولا يمكن الشروع في تفتيتها مباشرة كحلّ إسعافي، هذا يحتاج إلى مجهودات كبيرة وزمن طويل وشغل مكثف، فالتحديات كبيرة، وأهمها أن هناك "مجتمعات عميقة" و"دولة عميقة"، فوراء كل نظام (ساقط) هناك هيكل من النخب الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تطورت لعدة عقود يمكن أن يكون لها تأثير كبير، ليس من السهل القضاء عليها. وهذا ما يشكل عوامل خطورة في المجتمع السوري المنهك، الذي زادته سنوات الحرب والدمار والفقر والتهجير والتشريد حساسية تجاه بعضه بعضًا، المجتمع يحتاج إلى "تحرير عميق"، هذا التغيير لا يحصل من دون مطمئنات تترجم في الواقع، وهذه الطمأنة، أو زرع الشعور بالأمان، ما يمكن تسميته "أمننة" المجتمع، تقع مسؤوليتها على عاتق الإدارة الجديدة، وهي، إلى اليوم، في خطاب قائد عملياتها العسكرية أحمد الشرع خطابات مطمئنة، لكن الواقع يقدم كل يوم مؤشرات تدعو إلى القلق لدى شرائح عديدة من المجتمع، باعتماده على فريقه الخاص في تحمل المهام والمسؤوليات الحكومية وإدارتها، هذا ما يثير القلق والتوجس، ليس لدى المكونات المختلفة دينيًا أو طائفيًا، إنما لدى شريحة واسعة من السوريين الطامحين بمجتمع مدني ودولة مدنية، وهذا أمر غاية في الحساسية في مجتمع شديد التعدد والتنوع والتعقيد كالمجتمع السوري. لذلك يمكن فهم ما يحصل، على قاعدة أنه غالبًا ما تتفاجأ حركات المعارضة أو الثورة بالنصر عندما يأتي فجأة. فجأة أصبح الزخم موجودًا، والناس في الشوارع، والضغط يزداد - والنظام سقط. لقد حدثت ثورة! ثم تأتي الصعوبات (مرة أخرى). ما نوع المجتمع الذي يريده الناس وكيف سيتم بناؤه؟ كيف تتشكل تحالفات في السلطة وتدير التوترات والمصالح والتطلعات المتضاربة؟ ما مصير عدد كبير من الذين ورطهم النظام في حربه الرخيصة؟ ما ردة فعل الشريحة التي تتكشف أمامها الحقائق التي تفوق الخيال وترى جثث معتقليها، أو لا تعرف شيئًا عنهم؟

نظام انهزم وفرّ تاركًا خلفه كمًّا من الألغام في مجتمع يغفو على حقل من الجمر المشتعل تحت رماده، من سيكون قادرًا على إقناع الناس بأنهم يجب أن ينظروا إلى الغد وهم في حمأة الخوف؟ وما هو نوع المجتمع الذي يريدونه وأن يطوروا مؤسساته؟ من سيكون قادرًا على تنمية نمط من المقاومة اللاعنفية في سبيل الوصول إلى العدالة الانتقالية وتطبيقها؟

تحت ضغط مشاعر الخوف "الاستباقي" والقلق والتوتر، من الصعب تحقيق مجتمع مختلف وأكثر عدلًا حقًا بعد سقوط النظام. هذا المجتمع أكثر ما نحتاج إليه، وهذا لن تتكوّن خطوة مؤسسة له من دون القضاء على الخوف الارتكاسي أولًا، الخوف الذي يهيمن على الوسط الاجتماعي السوري، ليس منذ لحظة سقوط النظام فحسب، بل منذ قيامه على هذه الدعائم التي تلغي الشعب وتصادر وعيه. 

إنها مسألة فهم أنه لا يكفي إسقاط النظام القديم. للنظام قواعده وجذوره وقوته المؤسسية التي لا تختفي بمجرد اغتيال أو سجن أو فرار إلى الخارج. هناك سبب يكمن في الطريقة التي تم بها تشكيل القوى الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والقضائية والسياسية في نظام ما، وألّا يعاد إنتاجها بآلية مشابهة، لكن هذا يحتاج إلى مزيد من الوقت، مثلما هي العدالة الانتقالية التي يمكن عدّها أحد أدوات تفتيت تلك المنظومة المتعددة المبنية على الخوف، وتولّده في الوقت نفسه.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.