عندما اكتشف العالم التصوير الفوتوغرافي، تحرر الرسامون من هيمنة الانطباعية. انتهت تلك اللحظات الطويلة التي قضوها وهم يلهثون خلف الشمس وأمام السهول، لكي يرسموا كل شيء كما شاهدوه تمامًا. جاءت الكاميرات لتضع حدًا لكل هذه المواهب، التي في النهاية، قد تتسبب برتابةٍ مفجعة. عادت الكاميرات نفسها، ولا نعرف متى بالضبط، وتسببت بهذه الرتابة. مع فلاتر وبدونها، بالألوان أو بالأبيض والأسود، التكرار يتكرر. أكثر من ذلك، اليوم، وباستثناء القِلة المهتمة بالفنون، يمكن لمئات ملايين الأشخاص المرور قرب لوحة لكلود مونيه، من دون أن يلتفتوا لها. ولن يهتم أحد إن كانت حقيقية أم زائفة. ولن يهتم أي أحد من هؤلاء، أيضًا، لاعتراضات النقاد الفنيين على هذه الحقيقة، التي قد يعتبرونها محاولة للانتقاص من قيمة الفن. يواجه العالم صعوبةً هائلة بالاعتراف أنّ شعارات رددها النسل البشري لوقت طويل، من نوع "قيمة العمل الفنّي" أو "الأعمال الفنية الحقيقية لا تموت"، هي شعارات ماتت بالفعل. نعود هنا إلى طريقة هايدغر في طرح الأسئلة، وليس بالضرورة إلى أسئلته بحدّ ذاتها. هل يمكن أن يكون الفن أصلًا على الإطلاق؟ أين وكيف يوجد الفن؟ ونجيب على طريقته أيضًا: الفن مجرد كلمة لم يعد يوجد أي شيء حقيقي قادر على تمثيلها. صحيح أنّ "الموناليزا" محاطة بهالة شعبية تتجاوز المختصين، وأنّ لوحة "العشاء الأخير" محفوظة بفخرٍ في "سانتا ماريا دِللي غراتزي"، وأنّ ثمة قوة رمزية واضحة يُضمِرها العملان، وثمة ما يدفع السياح للوقوف في صفٍ طويل بانتظار دورهم، لكي يدخلوا ويقفوا خلف اللوحة وينظروا إليها. ولكن ثمة سؤال أساسي هنا. هل سيقفون بالصف نفسه، ويتفرجون على اللوحة ذاتها، إن كانت معلّقة في ساحة قريبة؟ هل سيلتقطون الصور كما يفعلون الآن؟ مثلًا لو وجدت هذه اللوحة في مفترق يؤدي إلى زاروب صغير خلف ساحة دومو القريبة، هل سيفعلون الأمر نفسه، إن لم يجد معظمهم اللوحة في إحدى التطبيقات البليدة على الهاتف، التي تخبرك عن أفضل عشرة أشياء يمكنك أن تفعلها في ميلانو أو في باريس مثلًا. لا يمكننا الإجابة بقطعية، ولكن الجميع يعرف تقريبًا أنّهم لن يمنحوها نصف هذا الاهتمام. معنى ذلك – باستثناء النقاد الفنيين والمهتمين الفعليين بالفنون والتاريخ – أنّ اللوحة بحدّ ذاتها فقدت قيمتها. وما يمنحها القيمة، ليس الحقيقة، بل ما نعتقده عن الحقيقة. لقد تساءلنا، نحن البشر، عبر التاريخ، عن العمل الفني الذي يمكن للحقيقة أن تظهر فيه. وهايدغر تكبّد عناء البحث عن هذا الأصل. أمّا القول إنّ الحقيقة لم تعد مهمة، فلا يعني ذلك أنّ الفن لم يعد مهمًا بذات الدرجة. فهذا ليس هجومًا على الفن، وهو بطبيعة الحال ليس دفاعًا عن تقدّيسه. إنّها مقدّمة للبحث عن العلاقة بين ما يمكن اعتباره حقيقة اليوم، وما يعتقد كثيرون أنّه فن، في أمور أقل تعقيدًا، مع أنّها أكثر هولًا. أمور في غاية الوضوح. نتحدث عن القتل وعن الإبادة. كيف تظهر الإبادة في العمل البصري الذي لا يتحرّك؟
الرهبة والتأمل
هناك فارق كبير بين الأعمال البصرية والدوافع التي تقف خلفها. هناك من يكتفي بالإشارة إلى حدوث واقعة. وهناك فارق في الوسائط وفي طرائق العرض. وهناك ما هو عمومي أكثر من اللزوم. وهناك العمل الفني الذي يتيح فرصة الإدراك الأخلاقي. وهذا ما يجعل الفن فنًا: أن يجمع بين الحقيقة والخيال في فكرة أو في مجموعة أفكار. لكن في الفن، كما في المجتمع. هناك الحقيقة، وهناك الخيانة. وهناك الانتهازيون. بشكلٍ عام، قد تذكّرنا الصور العنيفة الآتية من الحروب أحيانًا بحقبةٍ قديمة، لا يحبّ غالبية الذين عرفوها العودة إليها. شيء يشبه جدار برلين. يبعث النظر إلى بقاياه على شيء من الرهبة والتأمل، إلا أنّ السبب الأساسي الذي يجعل المسألة مريحة نسبيًا هو يقين الناظر بأنّ الجدار سقط. وأنّ هذا فقط جزء من الجدار.
مِن الماضي. مثل معظم المعالم التاريخية تقريبًا تتيح هذه العملية النظر إلى الماضي من الخارج، أي عبر مسافة قريبة، مع العِلم أنّ هذا الماضي لن يتزحزح من مكانه. الأمر أشبه بضمانة أو تأكيد على أنّ الماضي سيبقى ماضيًا. لكن عندما نشاهد هذه الصور من الحاضر، ونعرف أننا شاهدناها من قبل، نشعر بأنّ ما نشاهده بالتحديد، ليس عملًا فنيًا، مهما جرى تقديمه على هذا النحو. في هذه الحالة، نحن نشاهد الحقيقة.
الإبادة تحدث الآن: كل ما يتطلبه الأمر هو الاعتراف، في الحدّ الأدنى. وسواء كان ذلك يأتي من فلسطين أو لبنان، لن تُشعِرنا الصوَر بأنّها صالحة لأن تكون أعمالًا فنية، أكثر من كونها دعوة للاعتراف وللتحرّك. وربما هذه وظيفة العمل الفني بالفعل من دون الإفراط في الأيديولوجيا. فما يميّز القطع الباقية للذكرى من الجدار والأشياء التي من هذا النوع، أنّه لا يمكن وضعها في متحف. ذلك أنّها ستفقد قيمتها. المتاحف عمليًا ليست تحنيطًا ولا زمنًا يتوقف، بل هي الحاضر والماضي في ذات الوقت. إذا كانت تأبيدًا فنسفها أفضل. في ذات الوقت، الصور الفوتوغرافية ومقاطع الفيديو الآتية من غزة، لم تحررنا من الانطباعية تمامًا. فنحن تقريبًا لا نصدّق ما نراه، ولا نصدّق أنّ الآخرين يرون ما نراه، من دون أن نحرّك ساكنًا، ومن دون أن يحرّكوا ساكنًا هم أيضًا. ونشعر أنّنا لسنا في الزمن نفسه، نحن والانطباعات التي تأتي من الصور والمقاطع.
في مسألة الزمن لطالما كان هوسرل مرجعًا مفضلًا. ذلك أنّ الزمن الذي يتحدث عنه في النهاية يكتسب قيمته الفعلية بقدرته على إنتاج الحياة، أي أنّه زمن يقترن بالراهن. مع أنّ تعريف هايدغر يبقى أشد وقعًا، ويضع الزمان في مكانه، أي في زمانه أيضًا. شخص يتذمّر طوال الوقت من وجود شخص آخر يتذمّر طوال الوقت، ويستحال أن يكون الشخصان في الموقع نفسه في اللحظة ذاتها. يبدو هذا معقدًا فعلًا إلا أنّ هذا هو الزمن في النهاية. وهو رتيب مثل عمل فني يتكرر وتتراجع قدرته على الابهار مرّة تلو أخرى. الزمن يبقى زمنًا. والاحتلال هو الموت. ولا أحد يمكنه أن يقبل الاحتلال. الحقيقة تبدأ من هنا. الاحتلال = الموت، صورة الاحتلال = صورة الموت. لكن مجددًا، هل يمكن أن تكون هذه الصورة عملًا فنيًا خارج الإطار الانطباعي؟ بالتأكيد لا. فالمشاعر التي تنجم عن الإبادة، أقوى بكثير من نقلها. بكلمات أخرى، موت طفل، هو حدث يبقى أكثر إيلامًا، من صورة لموت الطفل. ولا يمكننا أن نفترض وجود عمل فني واحد، يمكنه أن يترك أثرًا، أكثر من موت عشرين ألف طفل في عام. يمكننا أن نعطي مثلًا آخر. هناك صورة فوتوغرافية مألوفة لا تفارق رؤوس كثيرين من الجنوب لبنانيين. العشرات واقفين في باحة مسيّجة بشباكٍ حديدية طويلة، عيونهم معصوبة بخرقٍ بيضاء يبدو عليها البهتان وأيديهم خلف رؤوسهم. وهناك جنود قتلة أمامهم، لا نعرف عددهم بالضبط. وكالعادة، العدد ليس هامًا. واحد من الجنود يدخّن، وآخر ينظر ببلاهة في الفراغ. إذا كان النظر إلى الصورة مخيفًا إلى هذه الدرجة، فكيف يكون الأمر إن كان المرء في داخلها؟ وعندما يخرجون، كيف سيرون العالم بعدما يزيلون العصب؟ كان ذلك معتقل أنصار. صورة تتسع: قبل وبعد. ثم رأينا الصورة عشرات المرّات. في فلسطين وفي العراق وفي سورية. في لبنان، ما هو مؤكد أنّهم خرجوا من المعتقل. فقد غادر الاحتلال الجنوب سابقًا. لكن لسببٍ ما، بقي حاضرًا كشبح، إلى جانب أشباح تتناسل. وقد عاد أخيرًا مع آلاته المعدنية الضخمة التي يتباهى بها مع أنّ لا وظيفة لها سوى تحويل الأرواح إلى رماد.
توضيب الحقيقة وتسعيرها
خلال هذه السنوات نمت بيننا لافتات وصور تحاول التأبيد. وهذه الثقافة، بدورها، تعرض ما لديها من منتج، يوضع شعبيًا في خانة المنتج البصري، الذي في النهاية، ينطوي على شيء من انطباعية ماورائية. ثم صارت اللافتات شكلًا من أشكال الثقافة: الوداع والتعويض والتخليد البصري وطبعًا التكرار حتى يصير العرض مألوفًا. لكن الثقافة عمومًا، ومنذ منتصف القرن الفائت تقريبًا، أصبحت منتجًا صناعيًا. ولم تعد الجودة معيارًا دقيقًا لتقييم كلفة إنتاجها، بل تأطرت هذه العملية في مراحل نظمّت استهلاك الثقافة. عملية آلية دقيقة تشبه التوضيب والتسعير والتوزيع، وتبدأ قبل كل شيء بالمواد الأولية المناسبة ثم تمرّ إلى مرحلة التصنيع الأساسية. وليست هذه محاولة لإثبات أنّ أدورنو كان عرّافًا، ولا لسبغ كتابه الشهير عن أزمة التنوير الأخلاقية بطابعٍ خلاصي. فالثقافة التي يتحدث عنها هي ثقافة مختلفة تمامًا.
إنّها استعادة بريئة لبعض الأفكار، بينما تعرض المنتوجات الأيديولوجية في سوبرماركت المنصات الرقمية بكميات هائلة، من دون أن تكون هناك قيمة حقيقية لها. وهذه المنصات بالذات، هي التي تتولى اليوم تقسيم المستهلكين إلى أنواع مختلفة، وتساعد في انتاج أفكار معلّبة ومغلّفة بشكلٍ جيّد قابل للاستهلاك والاستعراض: هناك من ينحاز في العالم إلى الضحايا، وهناك من ينحاز إلى الآلات المعدنية المتوحشة التي تنفّذ الإبادة. وهناك من يعترض لكي يشارك في الصراع من أجل الاعتراف. ومع أنّ المشاركة الأخلاقية الوحيدة الممكنة تمكن في رفض الاحتلال، إلا أنّه حتى بين الرافضين، يوجد مُحتَلِين بأحجام متفاوتة. كل هذا يمكن الاستدلال إليه بصريًا أيضًا.
الصورة الفوتوغرافية اليوم أقرب إلى الطعام الجاهز، الذي هو شكل من أشكال الثقافة بطبيعة الحال، بحيث يجد كل مستهلك نمطًا جاهزًا ينتظره، ومجموعة كبيرة من الصور التي تشبه بعضها البعض، ولا يمكن تحديد من منهما ينتظر الآخر، إلا أنّ الانتظار بحدّ ذاته ليس عملًا تفاعليًا، بل هو النقيض، إذ تستمر آلة القتل بقتل آلاف الأرواح، وتعجز الفنون البصرية الجديدة عن تحقيق أي اختراق في المشهد. تكرار لا يمكن التوقف عنه، لألم يجب أن يتوقف. «قراءة سلبية وربما اسقاط كآبة شخصية على العالم»، قد يقول قائل. لكن في جميع الحالات، وأمام الجميع، يمكن العثور في وجوه الضحايا على ثقافة بصرية قوية، وعلى فن فطري: المساحات والركام والعيون الذائبة مللًا من العدسات.
الوقت يصلح فقط للاعتراض على الإبادة. وبينما تستمر، لا يتبقى وقتُ لأي شيء آخر. وقد لا يعود كل شيء إلى ما كان عليه. يتعلّق الأمر في النهاية باختفاء الحقيقة. وكل ما يمكن أن يكون شخصيًا أيضًا. من هنا، يجب الاعتراض على تحويل حياة الضحايا إلى عمل استهلاكي تحت ذريعة الفن. ورغم وجود كم هائل من الدراسات، يبقى تفسير أدورنو للثقافة الاستهلاكية أو لاستهلاك الثقافة، أو بالتحديد لعلاقة البشر مع الثقافة، هو التفسير الأدق. ذلك أنّ الأعمال التي تندرج تحت مسمى الثقافة لا تستخدم اللغة التي نستخدمها. ومع أنّها تكون واضحة إلا أنّها تكون ملتبسة أيضًا وبحاجة إلى إجابات. لكن المؤكد، وعلى عكس الشائع، أنّ الحقيقة داخل أي منتج بصري مثلًا قوية جدًا، ولا يمكن زعزعتها على غرار الحقائق التي في الخارج. إنّها حرّة تمامًا وتقترن الحرية بوجودها في الأساس. لكن الانطباعية لم تعد فنًا ذا معنى راهني منذ زمنٍ بعيد، سواء عرف أهلها أنّهم انطباعيون أم لم يعرفوا. يمكننا أن نعطي مثلًا حاسمًا على العلاقة بين الانطباعية في زمن نيوليبرالي. لاحظنا في لبنان ظاهرة تبعث على الدهشة: رجال – وسنلاحظ دائمًا أنّهم رجال – كانوا يقفون خلف المباني، ينتظرون تنفيذ إعدام الشرفات والنوافذ، ثم يلتقطون الصور بهواتفهم الحديثة، بعد ذلك يهرعون ليعرضوا ما صوّروه على مواقع التواصل الاجتماعي.
ربما تكون هذه أقوى عودة الانطباعية ولكن بصيغة رقمية. وقد تُعدّ تلك اللقطات المحزنة أعمالًا بصرية أيضًا. لم يعد ممكنًا تفادي إدراجها في سياق إنتاج "ثقافة بصرية" جديدة بوتيرة متسارعة. لقد تجاوز العالم مساوئ التنوير بكثير. وبعد كل شيء، لا يمكن التنّصل من الإقرار بوجود علاقة رهيبة وكئيبة بين معتقلات الاحتلال المغلقة، وبين معتقلات النيوليبرالية المفتوحة. بكل أسف، صورة المعتقلين المشينة هي الأخرى قد تصبح عملًا فنيًا أيضًا، ويمكن عرضها في أكبر المعارض وأهمّها. وغالبًا سيأتي كثيرون ويطيلون النظر في الوجوه. وقد يفوز المصوّر بجائزة. وقد يفعلون الأمر نفسه مع غزة. ينظرون إلى الصور الملتقطة بالعدسات المتطورة، وتبين لهم كل التفاصيل من زوايا متعددة: ركام الركام، الهاربون، التائهون، المتجمعون في شاحنة في منتصف الصور، البورتريهات، أطفال يحملون حقائب مدرسية على ظهورهم في الفترة الأولى، وفي الفترة الثانية يحملون بالكاد وجوههم على مداخل مراكز الإيواء. في الفترة الثالثة لا شيء. اختفاء من المعرض ومن الحقيقة، اختفاء في قعر الذاكرة، وربما خلف سوپر ماركت الشاشات العمياء التي تستعرض الذوات المنتفخة. سيتعاطف المتعاطفون ثم يذهبون لشرب القهوة. وثمة أعمال بصرية قد تتجاوز لافتات التأبيد، وخوارزميات الانستغرام. وقد تقدّم على أنّها أعمال فنية. وقد تنال الجوائز، مِثل صورة لمعتقلين أو هاربين أو ضحايا. مثل صور الركام الذي يرتفع فوق معاناة أهله. في النهاية، الألم يمكن أن يوضع في معرض. هذا جزء من الفن أيضًا. لكن الألم الحقيقي يبقى غير محسوس إلا تحت القصف، أو على حاجز تفتيش، وطبعًا في المعتقل. تحت عصبة سوداء تلف الرأس. في الخيمة، المخيّم، والمخيّمات. هنا وهناك، من غزة إلى لبنان، حيث يضيق العالم، ويحفر لنفسه متسعًا تحت العينين: ظلامٌ كبير وشاسع.