}

في رحيل أحمد خلف: مجدّد القصَّة العراقيَّة

علي لفتة سعيد 11 يناير 2025
آراء في رحيل أحمد خلف: مجدّد القصَّة العراقيَّة
أحمد خلف من مواليد ناحية الشنافية جنوبي العراق
منذ أن نشر قصَّته بعنوان "خوذة لرجل نصف ميت"، بقي أحمد خلف في صدارة السَّرديَّة العراقيَّة والعربيَّة على حدٍّ سواء. عُدَّت هذه القصَّة علامةً فارقةً في تجديد الخطاب القصصيّ، ومن ثمَّ السَّرديّ، إذ أصبحت درسًا مهمًّا لأجيالٍ لاحقةٍ تتلمذت عليه. ولهذا السَّبب، أُطلق على يوم وفاته "يوم حزين للسَّرديَّة العراقيَّة".
أحمد خلف، من مواليد ناحية الشنافيَّة جنوب العراق في عام 1943، ينتمي إلى الجيل القصصيّ السِّتينيّ الذي تميَّز بالرِّيادة والتأثُّر بما بعد الحداثة. نُشِرت أولى قصصه "وثيقة الصمت" في ملحق جريدة "الجمهوريَّة" عام 1966. كان يقف إلى جانب روَّاد هذا الجيل أمثال عبد الرحمن مجيد الربيعي، وجليل القيسي، ومحمد خضير، وعبد الستار ناصر، الذين أسَّسوا الحركة التَّجديديَّة في القصَّة العراقيَّة، خصوصًا في ظلِّ التَّحوُّلات الثقافيَّة والاجتماعيَّة التي شهدها العراق والمنطقة.




ظلَّ أحمد خلف، إلى جانب محمد خضير، من آخر روَّاد هذا الفنِّ المتجدِّد، ليبقى أحد العناوين الكبرى التي حافظت على أمانة الكتابة السَّرديَّة والنقديَّة والصحافيَّة الثقافيَّة. لم يتوقَّف عن الكتابة حتَّى آخر لحظاته، حيث ترك إرثًا يزيد عن 30 كتابًا، من أبرزها مجموعات قصصيَّة مثل: "صراخ في علبة"، "القادم البعيد"، "الحد الفاصل"، "منزل العرائس"، "في ظلال المشكينو"، "نزهة في شوارع مهجورة"، "مطر في آخر الليل"، "تيمور الحزين"، "عصا الجنون"، وروايات مثل: "الخراب الجميل"، "خريف البلدة"، "الذئاب على الأبواب"، "حامل الهوى"، "عن الأولين والآخرين"، "الحلم العظيم"، "موت الأب"، "نحو نار أفضل"، بالإضافة إلى العديد من الدِّراسات الأكاديميَّة ورسائل وأطروحات الجامعات.

نعي الاتحاد

نعت الأوساط الثقافيَّة والاجتماعيَّة العراقيَّة رحيل أحمد خلف، وأقام اتحاد الأدباء في العراق مراسم تشييع رسميَّة وسط أمطارٍ غزيرة. وقال أمين عام الاتحاد، الشاعر عمر السراي، "إنَّ رحيل أحمد خلف لا يُعدُّ خسارةً للمشهد الأدبيّ العراقيّ فحسب، بل أيضًا العربيّ، كونه ينتمي إلى الجيل القصصيّ السِّتينيّ الذي عُرف بالرِّيادة والتأثُّر بما بعد الحداثة". وأضاف "أنَّ أحمد خلف كان من أبرز السَّاردين العراقيِّين والعرب، حيث أسَّس منظومةً جماليَّةً وإبداعيَّةً ألقت بظلالها على الأجيال اللاحقة".



وأشار السراي إلى "أنَّ الاتحاد أقام التَّشييع الرسميّ من مقرِّه، تقديرًا لمكانة أحمد خلف وريادته للأدب القصصيّ والسَّرديّ". كما ذكَّر بتأثيره الكبير حين كان تلميذًا للشاعر الرَّاحل مظفَّر النوَّاب، حيث "تعلَّم منه الكثير عن الحياة، والموسيقى، والكتابة". ولفت إلى أنه "برحيل أحمد خلف، فقدت الأوساط الأدبيَّة العراقيَّة والعربيَّة بصمةً إبداعيَّةً متفرِّدةً، وصوتًا ثقافيًّا بارزًا ظلَّ وفيًّا للكتابة حتَّى اللحظة الأخيرة".

استثمار التقنيات وحداثة الواقع

الناقد الدكتور سمير الخليل يقول "إن أحمد خلف هو واحدٌ من أهمِّ مَن عُنِيَ بالسَّرد العائلي عبر صراعاتٍ متشابكةٍ وما تمخَّض عنها من تداعياتٍ وإحباطاتٍ، فهو يُجيد تركيب الفنِّ السَّرديّ في كتاباته، قائمًا على استثمار كثيرٍ من التَّقنيات السَّرديَّة، كونه يولي عنايةً خاصَّةً في تقديم شخصيَّاته ورسم ملامحها وتصويرها".




وأضاف "إنَّ الراحل استطاع أن يُنتج خطابه السَّرديّ من عِدَّة مستوياتٍ جماليَّةٍ وفكريَّةٍ، وصولًا إلى أثرٍ إبداعيٍّ يُجسِّد أقصى حالات الوجع العراقيّ والإنسانيّ، والاستلاب السِّيكولوجيّ، وتوثيق إفرازات الواقع اليوميّ، والتشظِّي التَّاريخيّ، ممثَّلًا بالحرب والحصار والإرهاب والعنف الذي يَسحق فرادة الإنسان، ويحوِّله إلى ذاتٍ منتهكةٍ ومطاردةٍ بقوَّةٍ غاشمةٍ في متواليةٍ من الأزمات والكوابيس المحاصرة البغيضة". وأشار إلى "أنَّ خلف كاتبٌ واقعيٌّ متأثّرٌ بشكلٍ واضحٍ بروايات نجيب محفوظ، غير أنَّ له نمطَه الخاصَّ، ولذلك نراه غير مكثِرٍ، يُعيد قراءة ما كتبه حتَّى تستوي فكرته، ولا يكرِّرها أحدٌ ولا يُنكِرها". ولفت إلى "أنَّه يلتقط الموضوعات الواقعيَّة الجديدة ويربطها بالمنحى التَّاريخيّ، لا سيَّما في روايته 'الذِّئاب على الأبواب'." وزاد "بأنَّه حريصٌ على أن تكون شخصيَّاته تُواجه سلسلةً من الإحباطات، وأنَّ أعماله تصوِّر الكوابيس والحصار السّيكولوجي والخوف من قوى مسيطرةٍ كاحتلال أميركا للعراق، مثلما يسعى إلى إدانة الوجع والقُبح، من مسخٍ للذات، وموتٍ للإعلام، وتلاشي مفهوم الوطن والوطنيَّة". وأكَّد "أنَّ خلف لا يتكرَّر، وبموته فقدنا طاقةً خلَّاقةً في السَّرد العراقيّ والعربيّ، وقد ظلَّ حتَّى آخر أيَّامه مُنتِجًا مُبدِعًا ومُتألِّقًا".
من جهته قال الناقد أحمد الشطري "إنَّ الراحل واحدٌ من كبار السَّاردين، ليس على مستوى السَّرد العراقيّ فحسب، بل على المستوى العربيّ، وكانت بدايته في عقد السِّتينيَّات تمثّل إضافةً مهمَّةً للمنتج السردي في هذا العقد". وأضاف "أنَّ قصَّته 'خوذة لرجل نصف ميت'، التي نُشِرت عام 1969، كان لها وقعٌ كبيرٌ لدى الأوساط الأدبيَّة العراقيَّة والعربيَّة، فيما مثَّلت مجموعته القصصيَّة الأولى 'نُزهة في شوارع مهجورة' عام 1974 خطوةً مميَّزةً في المسار السَّرديّ العراقيّ، بما تضمَّنته من قصصٍ حاولت مقاربة التوجُّه الحداثيّ في البناء السَّرديّ على الصعيد التَّقنيّ، وتمثَّل المعاناة الاجتماعيَّة والنفسيَّة التي خلَّفتها الهزيمة في حرب 1967".
وأشار إلى "أنَّ الراحل استمرَّ بالعطاء الإبداعيّ على مدى أكثر من أربعين عامًا، وقد قدَّم تقنيَّات الحداثة وما بعد الحداثة، وهو ما يعكس تواصُله مع التَّطوُّر التَّقنيّ والفنِّيّ للفنِّ السَّرديّ". ولفَت إلى "أنَّ رواياته الأخيرة تعدُّ نموذجًا متقدّمًا للأدب الرّوائي العربي، سواء في جانبيها البنائي أم الموضوعي، حيث قدَّم فيها صورةً بانوراميَّةً للواقع العراقي بعد التَّغيير، بأسلوبٍ حرفيٍّ يجمع بين الجذب والإدهاش والإتقان". وأكَّد "أنَّ تجربة الراحل تتَّسم بالثَّراء المعرفيّ والرَّصانة في الأداء والجماليَّة في الأسلوب، وهذا ما يضعه في مصافِّ كبار منتجي السَّرديّ العربيّ".
فما تحدث القاصّ والرِّوائي نعيم عبد مهلهل بألم عن رحيل أحمد خلف قائلًا: "رحيله كان حزينًا ومؤلمًا، فقد فقد السَّرد العراقي واحدًا من فرسانه المهمِّين والكبار". كما شارك ذكريات خاصَّة بقوله: "أتذكَّر أثناء رحلة القطار بين كازابلانكا وطنجة، حملت معي رواية 'حامل الهوى' للراحل، وقد اشتريتها من مكتبة قرب مقهى فرنسا في الدَّار البيضاء. وقد فاجأني عز الدين مهاوش بأنَّه يعرف أحمد خلف جيّدًا من خلال القصص القصيرة التي قرأها له في مجلَّة ’الأقلام’. وفي سنوات الحصار على العراق في تسعينيَّات القرن الماضي، اقتنى مهاوش من مكتبة مدبولي في القاهرة كتابًا يحتوي على قصصٍ لمجموعة من القصَّاصين العراقيِّين، عنوانه 'حين يحزن الأطفال... تتساقط الطائرات'. كانت للراحل قصَّة ضمن هذا الكتاب. وتعجَّبت من ذاكرة مهاوش العجيبة، حيث يحتفظ بعنوان قصَّة لقاصّ عراقي تخيَّلت أنَّني أجلبه لليل طنجة الثقافي لأوَّل مرَّة في أماسيها الثَّقافيَّة". وتطرَّق عبد مهلهل أيضًا إلى قصَّة أحمد خلف "أوان غريب" قائلًا: "أتحدَّث عنها وكأنِّي أطوف في شوارع ذاكرتي، إذ لم أزل متأثِّرًا بأجوائها. وقد أحلت تفسير القصَّة إلى ما كان الجميع يعتقده عنها يوم كتابتها، بأنَّها قصَّة مختفية خلف قناع المقاومة، ولا ترضى بما حدث تمامًا". وأضاف: "الآن، في موجز الدمعة هذا، أستذكر أحمد خلف، وكل ما قرأته له كان دروسًا في الكتابة السَّرديَّة".
أما النَّاقد داود السلمان فقد تحدّث عن كتابات أحمد خلف قائلًا: "كان يكتب وكأنَّه ينزف من شريان معاناته ومكابدته للحياة، ليصبَّ ذلك على الورق كتعبير يخفِّف من وطأته، ليتمكَّن الكاتب من التَّنفُّس. لهذا نجد أغلب الكتَّاب، وحتَّى الفلاسفة، لم يعيشوا إلا ما ندر بسبب هذا النَّزف". وأضاف السلمان: "الراحل حفَر اسمه على حجر الإبداع، على مستوى الرِّواية والقصَّة، ليكون اسمًا راسخًا في سماء الثَّقافة العراقيَّة والعربيَّة. وقد عُرف بتميُّزه الإبداعي من خلال ما قدَّمه خلال عقود حياته الكتابيَّة، حيث نستشفّ أنَّه لم يكتب لغرض الكتابة فحسب، بل كان ينزف وهو يمرِّر يراعه على الورق، معبِّرًا عن معاناة شعبه على ألسنة شخوص أعماله الرِّوائيَّة." وأشار السلمان إلى روايتيه "البهلوان" و"موت الأب" قائلًا: "ما لمسته في هاتين الرِّوايتين كان تعبيرًا عميقًا عن غصَّة عاشها الفرد العراقي، خصوصًا في العقدين الماضيين". وأوضح السلمان: "الراحل عمل على تجديد روحيَّة العمل السَّردي بشكل واضح، وبانسيابيَّة واحترافيَّة. بمعنى أنَّه عمل على تجديد خطاب الفن السَّردي العراقي، ما يدلُّ على أنَّ كاتبنا يمتلك أدواته الخاصَّة في رسم الصُّورة، وتعزيز السَّرد الرِّوائي بما يضاهي الثَّقافة التي يمتلكها كثير من الرِّوائيِّين العراقيِّين، وهو على رأسهم من حيث الرَّصانة وجزالة الطَّرح الموضوعي".

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.