}

طاغية الشّام: هل هو نسخة شائهة من "كاليغولا" كامو؟

عمر شبانة 2 يناير 2025

 

"أنا أعيش يعني أنا أقتل، أمتلك عظَمة مدمِّر...

و"عندما لا أمارس القتل أشعر بالوحدة...،

و"عمري تسعة وعشرون عامًا...".

(من مسرحيّة "كاليغولا" لألبير كامو)

لطغيان ليس مجرّد سلوك، بل هو انعكاس لحالة ذاتية داخلية يعيشها الطاغية... فالاستبداد في حقيقة الأمر، يمثل نزعة داخلية لدى الفرد المستبد تدعوه للسيطرة والتفرد والاستحواذ والسطوة والتملك... وهي بالتالي عبارة عن مرض سيكولوجي طفولي، نشأ من خلال الحرمان النفسي والعاطفي، الذي يغذيه الحرمان الاجتماعي" (من مدوّنة الباحث في علم النفس، وما يخص الطاغية، الدكتور خضر عبّاس).

في البدء لا بد من التساؤل عن طبيعة الشخصيتين اللتين أعرض لهما، وهما الطاغيتان كاليغولا في مسرحيّة ألبير كامو، وطاغية الشام كما عرفناه طوال ربع قرن تقريبًا، والتشابه الشديد بينهما، ولو من خلال عبارات قليلة على لسان كاليغولا، حيث سيتبيّن لنا، وبسهولة، جوانب التشابه المتعلّقة بشخصية الطاغية عمومًا، وعلى مرّ العصور. وابتداءً، هناك سؤال يتعلّق بتصنيف شخصية الأسد (الابن)، وطبيعة نظامه، هل هو شخص سويّ من البشر؟ وإن كان ليس سويًّا، والغالب أنه ليس كائنًا مريضًا بمرض خطير يجعل منه "وحشًا" في مواجهة الشعب، ولكن لماذا هذه الوحشية التي رأينا بعض آثارها، بعد "الهروب الذليل"؟ أعتقد أننا في حاجة إلى فريق من جهابذة علماء النفس لتشريح هذه الشخصية!

أما النظام الحاكم، باسم الممانعة والمقاومة، فأعتقد أن تشخيصه يصعب على أيّ مفكر سياسيّ أو محلّل، فمثلًا يُقال إنه بعثيّ، ولكن عن أي بعثيّة نتحدّث بعد انقلاب الأب حافظ على رفاقه البعثيّين، على أثر انقلابه الشهير (1970)، وزجّ رفاقه في السجون لعشرات السنوات، بل إعدام بعضهم، والانقلاب على مبادئ الحزب. وإذا كان حافظ مارس السياسة والعسكريتاريا الأمنية، حتى قيل إنه "معاوية العصر- لدهائه"، ولكن من دون أن يقدّم لسورية سوى الخراب والفساد، فإن خليفته لا يملك من سمات الوالد سوى "الوحشية"، فضلًا عن كونه لم يكن مؤهّلًا أبدًا للحكم، بل هبط في لحظة صدفة ولغياب الوريث البديل... أما القول بأن الحكم هو حكم آل الأسد، فغير صحيح، فقد كانت العائلة مفككة، حيث الأخ (رفعت) يتآمر على أخيه، مثلًا. وليس نظامًا اشتراكيًّا ولا هو رأسمالي، فأيّ نظام هو؟ وكذلك الحكم باسم الطائفة العلوية، فهو ليس دقيقًا أبدًا، فقد استمعنا إلى شهادات من أبناء الطائفة يشكون فيها الظلم والاستبداد مثلهم مثل بقيّة الطوائف.

وبخصوص تصنيف النظام البائد، يقول الكاتب السوري ياسين الحاج صالح، وأراني أميل إلى تصنيفه، إن النظام السوري رجعية شديدة حمت نفسها بنوع من المظهر التحديثي، أو ما أسماه بـ"الفاشي بربطة عنق"، الذي يحوز شرعية بالنظام الدولي النيو ليبرالي وزمن محاربة الإرهاب خصوصًا... وهذا ما عوّل عليه النظام وربح من ورائه، فإذا كانت سورية دُمرت كل هذا التدمير فلأن هناك شرعية من النافذين على المستوى الدولي مُنحت للنظام، خصوصًا بعد صعود الإسلاميين...




مع كاليغولا... انطباعات أساسيّة

كلّ شخص هو سيرورة وكينونة، في ذاته ولِذاته، فهو يسير ويتشكّل ضمن سياق ما، قد يكون السياق صحيًّا أو مرَضيًّا. مسرحية ألبير كامو "كاليغولا" هي تشريح لشخصية الطاغية المريض والهشّ المحاط بمجموعة من المرضى بالنفاق والتخاذل والتذلّل لسيد لا يعرف ما يريد، بل يريد كلّ شيء، وكلّ ما يعرفه أنه سيد وبطل وملهَم، وكلّ من حوله تابعون يأمرهم فيستجيبون، بمن فيهم عشيقته. هنا قراءة في شخصية الطاغية بين الخيال المريض والوهم الجامح من العظَمة الذي يجعله يرى نفسه ليس أقل من إله، ولا أحد يفهم طموحاته وأحلامه الطائشة! وشخص هش وشديد الهشاشة هو من يمارس، بيديه أو بأوامره، هذا القدر من العنف. هو طاغية من نوع خاصّ مختلف بحقّ، ويمتلك روح الرومانسيّ الحال،"الباحث عن المستحيل" و"يريد امتلاك القمر".

ربما لم يسبق لكاتب، بحسب علمي، تجسيد شخصية الدكتاتور الطاغية على هذا النحو الذي نجده في كاليغولا، هذه المسرحية التي تمزج العبثي بالسورياليّ والتراجيديّ الذي يظهر في شخصية "البطل". ولعلّ الانطباع الأوّل الذي يلحظه قارئ هذه الشخصية، هو الخلل المتمثل في عشق كاليغولا لأخته- شقيقته دروزيلا ومعاملتها معاملة العشيقة (بل الزوجة) في الفراش، والصدمة الشديدة التي تسبب له به موتها، فيعود لعشيقته السابقة سيزونيا. هذا هو المظهر الأوّل للشخصية المهووسة بالقتل، قتل النبلاء والفلاسفة والأدباء المحيطين به. إنه يشعر بأن القتل أمر بلا قيمة، وأن الحياة بلا قيمة أيضًا. ليس لأن المحيطين به يخالفونه، على العكس هم مطيعون لدرجة الخنوع. يسلبهم أموالهم وممتلكاتهم وزوجاتهم، ويمنع الأب من توريث المال للأبناء... إلخ.

كاليغولا يشعر أنه ليس أقل من إله، يقول في بعض المشاهد والحوارات، ما معناه أنه فوق الإله "مَن هو هذا الإله كي أرغب في أن أتساوى معه؟ إنّ الذي أسعى إليه الآنَ، مستخدمًا كاملَ قُواي، هو أن أترفّع عن جميع الآلهة، إنّني أتولّى سلطة دولة عُظمى لا مردّ فيها لحكم المستحيل". حاكم وطاغية مثل هذا، له هذه اللوثة من تحدّي الإله، كيف ستكون علاقته مع البشر، بفئاتهم كلّها؟ ليست أقلّ من الازدراء والاحتقار، كما يقول كاليغولا "إنه لا يراهم".

عن أي بعثيّة نتحدّث بعد انقلاب الأب حافظ على رفاقه البعثيّين، على أثر انقلابه الشهير (1970)، وزجّ رفاقه في السجون لعشرات السنوات، بل إعدام بعضهم


العلاقة مع الثقافة والإبداع

في مشهد مسرحي هزليّ- عبثيّ يصنعه كاليغولا، ويعبّر عن هذا الموقف وهذه العلاقة، نقف على المسابقة الشعرية التي دعا إليها عددًا من الشعراء، وجعل موضوعها "الموت والزمن"، ووضع جائزة للفائز، وعقوبة لمن لا يفوز، وتكون النتيجة أن لا أحد من الشعراء فاز بالمسابقة، لأنْ لا أحد من الشعراء قارب الموضوع، فهو كاليغولا الذي يردد "إنّني الفنّان الأوحد على مدى تاريخ روما... وأنا الوحيد الذي تتطابق أفعاله مع أفكاره". ويضيف "لا أحبّ الأدباء ولا أتحمّل إفكهم".

طاغية الشام الذي ابتكر عبارة "الأسد أو نحرق البلد"، لم يكن أقلّ استهتارًا بالشعب وبالثقافة والمثقّفين، فمثلًا كل كاتب من الكتاب السوريّين والعرب يفكر بتقديم طلب للانتساب لاتّحاد الكتّاب السوري، عليه مراجعة الأجهزة الأمنيّة للموافقة على قبوله. ولا يستطيع رئيس الاتحاد ولا يجرؤ على التدخل، بل يعلن للكاتب ضرورة مراجعة الأمن... (حدث هذا معي وقت إقامتي في الشام (1996- 2000)، فقد وافق الاتحاد على قبولي عضوًا، لكن إحدى اللجان طلبت مني مراجعة فرع فلسطين، وحين اعترضتُ وأبلغت رئيس الاتحاد (ع. ع. ع)، أكّد لي أن هذا قانون، وإن لم تراجع لن تُقبل، وهو ما أكده كاتب فلسطيني سوري كان فاعلًا ونافذًأ في الاتحاد!). هذا فضلًا عن أن النظام أشاع "ثقافة" العبودية والتبعيّة والاستزلام وتوزيع "غنائم" بائسة على أتباعه من كتاب وصحافيين وفنّانين يكرّسون جهودهم لتمجيد الأسد وتبجيله في الصحافة والإعلام عمومًا.

هذه صورة من صور التسلّط والاستبداد، فهو كما يتبجّح في القول "سيّد الشعراء"، ومن كلماته "إن طريق الحياة وعرٌ وشاقّ بدون مساعدة الدين والفنّ والحبّ"، ويكرّر "يقع في ضلالة كلّ من كان سببًا في آلام الآخرين". لكنه في فقرة تالية يمنع توريث الأبناء أية أموال، ويأمر بأن يرث الحاكم كل شيء. وفي جملة تالية يعلن "لا أحبّ الأدباء ولا أتحمّل إفكهم"، و"لا يوجد في إمبراطورية روما إنسان حرّ سواي. افرحوا فقد ظهر عندكم في نهاية المطاف إمبراطور سيلقّنكم دروسًا في الحريّة...". و"الناس يثيرون اشمئزازي"، ويرى أنه يستطيع "تغيير نظام العالم"، وأن يجعل "الشمس تغرب في الشرق"، وأن "يتوقّف الناس عن الموت".

ويبقى السؤال المنطقيّ الوجوديّ الأخلاقَ: ما الذي يجني هذا الطاغية أو ذاك، وهم درجات، من طُغيانه؟

ملحوظة أخيرة: أتوقّف الآن بدون الدخول في عمليّة خلع النظام، ومن خلعوه، فهي موضوع ربما يستحقّ وقفة أخرى.
 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.