لم أذهب بعد إلى سورية، ما زالت جنسيتي السورية تعيقني عن تحقيق هذا الحلم الذي لطالما حلمت به منذ غادرتها قبل أكثر من ثلاثة عشر عامًا، ولطالما واريته وأنكرته طيلة كل تلك الأعوام. ليس لدي إقامة حيث أنا الآن، ولو غادرت لن أتمكن من العودة إلي بيتي وحياتي التي تسير بإيقاع يتناسب مع وضعي الصحي والنفسي، أو لأقل إنني تمكنت من موازنة إيقاع حياتي مع وضعي الصحي والنفسي. لكنني أحلم باللحظة التي أكون فيها في دمشق، وهذا الحلم يدفعني إلى ترك كل ما لدي الآن والعودة النهائية إلى سورية، غير أن العقل يلجم هذا الاندفاع ويوقفه: أنا في الستين من عمري، ولدي مشاكل صحية في القلب، أتناول كمية كبيرة من الأدوية، مصدر دخلي الوحيد هو الكتابة التي تحتاج إلى هدوء واستقرار، وإلى توافر شروط لوجستية مناسبة، والحقيقة أن حالتي كلها تحتاج إلي توافر شروط لوجستية مناسبة. لا أملك أي شيء في سورية، لا بيت، ولا أرض، ولا مال، ولا عائلة، ولا أصدقاء، ولا شيء، عائلتي وأصدقائي كلهم في الخارج. إن اتبعت قلبي وقررت العودة النهائية فسوف أبدأ من الصفر من جديد. سوف أبحث عن منزل للإيجار، وسوف أقوم بفرشه، وسوف أخوض تجربة البحث عن أصدقاء جدد، سوف أؤسس حياة كاملة وأنا في هذه السن، وفي وضع صحي لا يساعد على خوض مغامرات نفسية جديدة. لحسن الحظ أن عقلي لا يزال يفكر بشكل منطقي، أو ربما هو التقدم في السن ما يجعلنا أكثر حكمة، وأكثر قدرة على التفكير العقلاني، ويحد من اندفاعاتنا العاطفية المسببة للتوتر النفسي الذي ينصحني الأطباء بالابتعاد عنه قدر الإمكان، حماية لقلبي من التلف من جديد. لكن فعلًا أنا أرغب بأن أذهب إلى سورية لأرى إن كنت سوف أتمكن من العيش فيها.
يشكل موضوع عودة السوريين جميعًا إلى سورية، حاليًا، سؤالًا مهمًا مطروحًا بقوة. سورية اليوم تحتاج جميع من غادرها، فمن ظلوا في الداخل خلال سنوات الموت والحرب عانوا بما يكفي لجعل قواهم خائرة وعاجزة عن المساهمة وحدهم في إعادة بناء البلد والمجتمع سريعًا؛ يحتاجون أولًا لالتقاط أنفاسهم وتأمين أبسط متطلبات حياتهم قبل أن يكونوا مطالبين بالمساهمة في إعادة بناء سورية. هذا لا يعني طبعًا أن من خرجوا من سورية وغادروها كانوا يعيشون في نعيم، لكنهم على الأقل عاشوا في شروط معيشية يومية أقل قسوة بكثير، لم يعانوا من البرد، ولا من الظلام الناتج عن انقطاع متواصل للكهرباء، لم يربكهم نقص الأدوية، ولا غياب المنظومة الصحية، لم يجوعوا، لم يعانوا الخوف من إبداء آرائهم بخصوص أي شيء، لم يخشوا الاعتقال، لم يحرم أولادهم من التعليم، لم يصابوا بمتلازمة الحرب كما حصل مع من بقي في الداخل. أزمات من خرجوا مختلفة، تتعلق بالقدرة على الاندماج في المجتمعات الجديدة، وتعلم لغات تلك المجتمعات، والاصطدام بثقافات مغايرة، والدخول في سوق العمل. إضافة طبعًا إلى الحنين. ورغم قسوة هذا، لكنه يبقى في إطار المكابدات، من دون أن يعطل العيش والحياة اليومية، إلا لمن ازداد لديه الاضطراب النفسي، ولم يتمكن من العيش الطبيعي، فلجأ إلى وسائل تحميه من فيض الذاكرة، فكان الإدمان الذي أودى بحياة كثير من الشباب في المجتمعات الجديدة. هو إحدى تلك الطرق للنسيان، مثله مثل دخول مصحات نفسية للعلاج. كانت أربعة عشر عامًا قاسية لأولئك الذين لم يتركوا وسيلة إلا واختبروها في محاولاتهم لإثبات وجودهم، والعراك اليومي مع الحياة للتغلب على عراقيلها. هذا كله سوف يعيق عودة كثيرين إلى سورية للبدء من جديد في بلد مدمر ومنهك وعجوز تنخر مفاصله أمراض الاستبداد والحرب، كالطائفية والطبقية والمناطقية والفساد والانتهازية والوصولية. ولسوء الحظ، فإن هذه الأمراض لم يتمكن كثر ممن غادر سورية من الشفاء منها، لا سيما أمراض كالطائفية والانتهازية التي ازدهرت أكثر مع وسائل التواصل، حيث الشعبوية هي ملكة الموقف وسيدته.
وعودة هؤلاء إلى سورية لن تكون في صالح بناء دولة حديثة، بل ربما سوف تزيد في تفكيكها، وقد تسهم في تكريس خطاب كراهية سيقابل بخطاب كراهية مضاد. ما تحتاجه سورية هو التخلص من هذا الخطاب سريعًا، للبدء في بناء دولة عادلة، ووطن يتسع لجميع أبنائه.
يعيق روتين الورق والإجراءات الإدارية والإقامات، في معظم دول اللجوء، عودة السوريين إلى سورية، معظم من عادوا بعد التحرير هم حملة الجنسيات الجديدة، هؤلاء مرتاحون من حيث إجراءات الخروج والعودة، وأيضًا من حيث وجود إدارات رسمية تكترث لأمرهم فيما لو ساءت الأوضاع الأمنية في سورية. سوف تقوم حكوماتهم الجديدة بحمايتهم. لكن باقي سورييي الخارج لا يملكون هذا الامتياز، عودتهم تعني حرمان معظمهم من إقاماتهم الحالية، ومن جنسياتهم المستقبلية، وتعني أنه إن حدثت مشكلات أمنية في سورية فلن يتمكنوا من مغادرتها. تعني أيضًا أنهم سوف يكونون تحت ضغط نفسي شديد يجعل منهم عاطلين عن الفعل الإيجابي. وفي المقلب الآخر، هنالك سوريون مرتبطون بوظائف في مجتمعاتهم الجديدة، أو لديهم أولاد في المدارس وأسسوا حيوات جديدة حيث هم، لن يكون من السهل عليهم التخلي عن كل ذلك من أجل العودة إلى سورية للمساهمة في بنائها من جديد، وليست عادلة محاولات جعلهم يشعرون بالذنب لأنهم لا يلقون كل شيء خلفهم ويعودون إلى بلد مدمر لا توجد فيه أبسط مقومات الحياة الطبيعية.
ما ذنب من بقي في الداخل؟ ومن هم الذين سوف يعيدون بناء سورية؟ وهل سيتمكن السوريون في الداخل وحدهم من الوقوف في وجه محاولات أدلجة سورية وصبغها بلون واحد لا يشبه غالبية المجتمع السوري؟ وهل سوف يترك السوريون لهيئة تحرير الشام ومؤيديها أن تستفرد بالسيطرة على سورية وتغيير ذاكرتها ووجدانها المعتدل؟ سوريو الداخل يحتاجون، كما أسلفنا، لالتقاط أنفاسهم، وللإحساس بالقليل من الأمان أن أوضاعهم المعيشية سوف تتحسن، لا يمكن لمحتاج، أو ذي فاقة، أن يساهم في أي تغيير، أو تعديل مسار، هذا أمر لا جدال فيه. هذا ما يجعل من الطبقة المتوسطة في أي مجتمع هي الحامل لعملية التغيير السياسي، أو الاقتصادي. في سورية، لا يوجد اليوم طبقة متوسطة، طبقتها المتوسطة تشكلت في بلاد اللجوء والمجتمعات الجديدة، ليس فقط بالمعنى الاقتصادي، بل بالمعنى القيمي. أما في الداخل، فلم تعد هنالك سوى طبقتين: طبقة مسحوقة، وطبقة أثرياء الحرب الجدد، والأثرياء الجدد إما فروا مع رئيسهم، أو ظلوا في سورية يطبلون للحاكم الجديد، ويبصمون له على ما يفعل؛ هؤلاء عبيد مصالحهم، لا تهمهم الأوطان ولا المستقبل، ولا يمكن التعويل عليهم في تعديل المسار المقترح للبلد. ما هو الحل إذًا، وكيف سيتم إنقاذ سورية، خصوصًا أنها مثقلة حاليًا بمرض الطائفية الذي يجعله انعدام الأمن قنبلة موقوتة لا تتوقف عن إصدار إنذارات يومية عن انفجار وشيك قد تتفوق عواقبه على ما حدث خلال العقد الماضي. الخلاص الحقيقي لسورية لن يتحقق بغير وجود أبنائها جميعًا، وهذا ما يبدو مستحيلًا حاليًا. فمن عاد إلى سورية عاد بمنطق الزائر المثقل بحنين يحتاج أن يتخفف منه. هذا الزائر سوف تتغاضى بصيرته عن رؤية الخراب الكامن، ولن ينتبه كثيرًا إلى حقيقة ما يحدث، هو أيضًا عاد بزهو المنتصر، والزهو يحجب الحقائق "عين المنتصر عن كل عيب كليلة". قلة فقط ممن عادوا استطاعوا رؤية عمق المأساة التي تعيشها سورية، وكتبوا عنها وحولها. لا أتحدث هنا عن الأزمات المعيشية والدمار اللوجستي، بل عن الدمار المجتمعي، وعن الانقسام الشاقولي الذي يبدأ وينتهي في بؤرة الطائفية والمذهبية وخطابها عالي النبرة المنذر بانفجارات لا تحمد عقباها.
سأعترف، وأقيس الأمر على نفسي حين أفكر في موضوع عودة السوريين، أنه لن يكون سهلًا لي أن أبدأ بداية جديدة في سورية، ولن يكون سهلًا علي احتمال الظروف القاسية التي يعيش تحت نيرها سوريو الداخل، أعرف أن هذا جانب أناني، وغير منصف لمن في الداخل، لكنني لم أختر هذا، لم أخرج من سورية ترفًا ولا برغبة، خرجت مجبرة، وبطلب رسمي، ومثلي مثل مئات الآلاف من السوريين عانيت بما يكفي كي أتمكن من مقاومة انهيارات نفسية وجسدية، ولم أعد أمتلك وقتًا كافيًا في حياتي للصمود من جديد. وأظن أن معظم سوريي الخارج يفكرون بطريقتي نفسها، حتى لو أنكروا ذلك. وأعترف أنني أعيش صراعًا كبيرًا هذه الأيام، ولا أظنه سوف يحسم لصالح عودة نهائية إلى سورية. لكن هل سأكتفي بهذا، أم ثمة حلول وسطية يمكن لمثلي البحث عنها، والبدء بها، كي نشعر أننا نفعل بعض ما علينا تجاه سورية؟ أظن نعم، هنالك مبادرات كثيرة يمكن البدء بها، ثقافية وسياسية وفكرية وفنية، هنالك الكثير مما يمكن فعله حتى لو لم ننقل حياتنا إلى سورية، لا تعدم الشعوب طرق بناء أوطانها من جديد بعد حروب طاحنة، والسوريون في الداخل والخارج لن يركنوا إلى ظروفهم الحالية ويقفوا عندها، لن يمنع انهيار الظروف المعيشية سوريي الداخل من اجتراح مبادرات وطنية، هم بدأوا بهذا بالفعل منذ اللحظة الأولى، ولن يقف سوريو الخارج مكتوفي الأيدي، بل سوف يبادرون لفعل كل ما يلزم، وهم أيضًا بدأوا بذلك. وليست زيارات بعضهم إلى سورية لمجرد الزيارة والتقاط الصور، بل قد تكون محاولات للبدء بتشكيل مجتمع مدني حقيقي بين الداخل والخارج يتمكن، على الأقل، من منع سحب سورية لتكون نسخة عن دول فاشلة لا وجود فيها لا للتنمية ولا للعدالة الاجتماعية.