لو عدنا إلى تاريخانية الكتب "النقدية" مثلا، وبخاصة تلك التي تتحدث عن تاريخ الأدب (أيّ أدب في العالم)، لوجدنا أن لا أحد يسأل عمّا إذا كانت الكتب التي تتحدث عن تاريخ الأدب هي كتب أدبية، إذ يُدرجها الجميع في خانة الأدب. ربما نجد الأمر عينه مع الكتب العلمية... وغيرها أيضًا. النوع الوحيد، الذي يشذ عن هذه القاعدة، هي الكتب التي تعود إلى تاريخ الفلسفة، إذ غالبًا ما يتساءل المرء عن هذه الكتب: أهي كتب تاريخية أم كتب فلسفية؟ ولا بدّ من أن نضيف سؤالا آخر: كيف يمكن أن تكون عليه كتب تاريخ الفلسفة، أم كتب الفلسفة؟ كيف يمكننا، في العمق، أن نتجنب مزالق الفلسفة الدائمة ومزالق التاريخانية؟
أسئلة حقيقية وفعلية وأبدية ينبري لها كلود باناتشيو (Claude Panaccio) في كتابه "العظيم" الصادر عن منشورات "فران" (Vrin) بعنوان "السرد وإعادة البناء: أسس المنهج في تاريخ الفلسفة" (Récit et reconstruction. Les fondements de la méthode en histoire de la philosophie) (320 صفحة)، حيث يقدم فيه معالجة أصيلة وأصلية لهذا الموضوع، بناء على عمله كمؤرخ لفلسفة العصور الوسطى، بالإضافة إلى كونه واحدًا من الفلاسفة الكنديين المعاصرين.
***
منذ أرسطو، اعتاد الفلاسفة على إدراج آراء أسلافهم حول هذا الموضوع أو ذاك، والإشارة، ضمنيًا على الأقل، إلى المشكلات التي يطرحها التقليد الذي ينتمون إليه. لكن في كلّ مرة قاموا بذلك، كنّا نجد أن عملهم هذا كان يهدف إلى تطوير أطروحاتهم الخاصة وصياغة أسئلتهم الخاصة على أساس نقد أسئلة الآخرين، ما كان يعطي ويمنح الفلسفة طابعها الخاص: فهي ليست مجرد تمجيد، كما هي الحال مع ديوجين اللايرتي، وعندما يشير توما الأكويني إلى أرسطو، أو عندما يتولى لايبنتز الدفاع عن "السكولائيين"، فإن هذا لا يعني التأمل بهم بكونهم آثارًا ينتمون إلى الماضي البعيد، ولكن لإعادة صياغة أطروحاتهم.
فقط، في نهاية القرن الثامن عشر، وبخاصة في القرن التاسع عشر، ظهر تاريخ الفلسفة كنظام مستقل، والذي على حدّ تعبير كاثرين كونيغ برالونغ، "استعمر" الفكر الفلسفي (المستعمرة الفلسفية، EHESS ،2019). من هنا توالت التساؤلات عمّا إذا كان بالإمكان أن يكون المرء مؤرخا للفلسفة وفيلسوفا في الوقت عينه، وقد واجهت ذلك معضلات معروفة: إما أن نقرأ فلاسفة الماضي اعتمادًا على مناقشات اليوم والمجازفة بالمفارقة التاريخية، أو الحفاظ على المفارقة التاريخية بكل تفاصيلها مع خطر تحويلها إلى قطع متحفية.
لم تتوقف هذه المعضلة عن طرح نفسها بشكل مستمر: في فرنسا، مثلا، وضعت "الفلسفة المسيحية" مقابل تاريخ الفلسفة الجامعي؛ أما في ألمانيا، فقد رأينا ذلك حين أعاد العديد من المعلقين بناء المذهب الكانطي من خلال معارضة أولئك الذين أرادوا التمسك بنص العقيدة؛ أما في التقليد الفلسفي الناطق باللغة الإنكليزية، فقد حدث الأمر حين سمع القراء "التحليليون" لفلاسفة الماضي أنفسهم يتحدثون مع أرسطو كما لو كان زميلهم، "في مواجهة أولئك الذين أرادوا بصبر تجميع قطع اللغز المتناثرة عبر العصور".
ضمن السياق الروحي عينه، وضع ريتشارد رورتي Richard Rorty إعادة البناء العقلاني في مواجهة إعادة البناء التاريخي لأعمال الماضي [1]. إذ يهدف الأمر الأول، وقبل أي شيء آخر، إلى إعادة بناء هذه الأعمال بأمانة، بلغة المؤرخ، ولكن مع احترام لغتها الخاصة والخضوع لمبدأ المؤرخ البريطاني كوينتين سكينر Quentin Skinner: "عدم إسناد شيء إلى مؤلف قصد أو فعل شيئًا لا يمكن التعرف عليه باعتباره وصفًا صحيحًا لما قصده أو فعله". أما الثاني فيعرض أعمال الماضي بأكثر الطرق عقلانية الممكنة حتى يتمكن من تقييم أطروحاتها وحججها، والتي غالبًا ما تتضمن إعادة صياغة المذاهب لجعلها تبدو وكأنها لا تزال تستحق الاهتمام. لقد كان هذا التعارض بين شكليّ إعادة البناء في قلب العديد من المناقشات بين التاريخ "التاريخي" والتاريخ ذي الأسلوب "المنهجي" إذا استخدمنا المفردات الألمانية.
|
وضع ريتشارد رورتي Richard Rorty إعادة البناء العقلاني في مواجهة إعادة البناء التاريخي لأعمال الماضي (L.A. CiceroStanford University) |
لكن عندما ننظر عن كثب، فإن معارضة رورتي لا تصمد: في الواقع، كان هناك العديد من "المؤرخين" المدفوعين بالرغبة في قراءة فلاسفة الماضي وفقًا لشبكتهم التفسيرية، حتى عندما يتبنون قواعد البحث العلمي الحديثة الأكثر صرامة. هكذا، في فرنسا، قرأها مارسيال غيرو Martial Guéroult، الذي اعتُبر لفترة طويلة المؤرخ الأكثر صرامة لأعمال ديكارت، في ضوء مشروعه العظيم "الديانوماتيكية" (فلسفة تاريخ الفلسفة، منشورات أوبييه، 1979). كذلك نجد أن العديد من المؤرخين، مثل بيير أوبينك Pierre Aubenque أو جان لوك ماريون Jean-Luc Marion، كانوا لا يخفون تأثير هايدغر على تفسيراتهم. وعلى العكس من ذلك، فإن العديد من المؤلفين المعروفين بكونهم "تحليليين"، مثل جوناثان بارنز Jonathan Barnes، هم أيضًا مؤرخون ممتازون. وحتى لو تعرض جول فويومان Jules Vuillemin للانتقاد في كثير من الأحيان لرغبته في إعادة بناء مذاهب الماضي في ضوء المنطق، وبالتالي لعنفها، فمن سيدعي أنه لم يكن أيضًا مؤرخًا عظيمًا للفلسفة؟
يميز رورتي أيضًا نوعًا آخر من تاريخ الفلسفة: Geistesgeschichte. من هيغل إلى بلومنبرج Blumenberg، مرورًا بــ ديلتاي Dilthey وأرندت وفوكو، فإن هذا النوع من التاريخ الفكري واسع النطاق، الذي يضع الفلسفة ضمن الثقافة بهدف تقييم "حداثتنا"، هو تاريخ مألوف: فهو ليس تاريخيًا بشكل صحيح بمعنى أنه سيحلل المذاهب، ولا فلسفيًا بشكل صحيح بمعنى أنه سيناقش الأطروحات والحجج، فهو ينوي أن يرى في مثل هذه الحركة تجسيدًا لفكرة أو نموذجا أو "نظرية" وإظهار تطوره في الحالات النموذجية، من دون الخوض في التفاصيل كثيرًا.
يعالج كلود باناتشيو كل هذه المشاكل من جذورها: أي طريق يجب اتباعه من بين كلّ هذه الأنواع من الكتابات حول تاريخ الفلسفة؟ هل هناك طريقة جيدة للمضي قدمًا تحقق التوازن بين أشكال إعادة البناء؟ من هنا نراه يبدأ بالتشكيك في وحدات الخطاب: أهي أفكار أم معتقدات أم أطروحات أم أنظمة أم حجج أم تيّارات أم مدارس أم مذاهب أم تقاليد؟ لذلك يرفض فكرة وجود أطروحات وأفكار أبدية من النوع الأفلاطوني تتجسد فيها الفلسفة بشكل مستقل عن الأفراد الذين أنتجوها في أزمنة وأماكن محددة. إنه يرغب في أن تكون اشتقاقية: هناك فقط أحداث استطرادية مفردة، يمكن ملاحظتها علنًا، والتي تتراكم في الكتب والنصوص، مجزأة أحيانًا إلى عدّة مؤلفين، والتي ليس لها وجود سوى أعمال الكتابة على دعامات مادية أو أحداث شفهية، داخل المؤسسات الانتقالية. كذلك يجد باناتشيو، بحق، تناقضًا في الطريقة التي يتحدث بها فوكو، في علم آثار المعرفة، عن "الأهمية المادية المتكررة" لهذه العبارة. إنه يفضل تناول تمييز سي إس بيرس C. S. Peirce بين الرموز اللغوية من النوع الذي يندرج تحت التصنيف الفلسفي.
ولكن حتى لو كنّا اشتقاقيين، فسيتعين علينا أن نضع هذه الأحداث الخطابية ضمن كيانات عامة، والتي ستكون نصوصًا، تنتقل داخل المؤسسات، والتي ستكون لها نسخ مختلفة، وستُقرأ بطرق مختلفة، وسيكون لها تاريخ واستقبال. وكذلك الترجمات أيضًا، حتى لو لم يعتقد أن المشكلات والأطروحات الفلسفية محفورة في السماء الأفلاطونية، فسيتعين على الاشتقاقي أن يجمع العبارات "تحت فئات التكافؤ". سيكون من الضروري تحديد العمليات المتكررة وطلبها التي يسميها باناتشيو "الروايات التاريخية"، التي تربط الأحداث معًا بطريقة سببية وتقدم التفسيرات. وستكون هناك حاجة أيضًا إلى عمليات إعادة بناء عقلانية. لكن باناتشيو لا ينوي اعتبارها مستقلة عن أي سياق: بل على العكس من ذلك، فإنها ستعتمد على وجهة نظر المترجمين الفوريين، الذين سيعتبرون بعض التسلسلات ذات أهمية.
نسبية السياق هذه – التي يبالغ فيها مؤرخو الفلسفة عندما "يوبخون" زملاءهم "المحللين" لأنهم يتصرفون كما لو أنها غير موجودة – يمكن أن تؤدي إلى النسبية الكاملة والتاريخانية: كل مؤلف، كل مذهب، كل موضوع يجب أن يوضع في إطار بيئته الداخلية ولا يمكن عزله عنها. إنها شمولية، تجعل جميع المفاهيم والأطروحات مرتبطة بشكل جوهري، إما داخل نظام معين أو في كليّات أكبر. إحدى نتائجها الأكثر جرأة، والتي غالبًا ما اتخذت شكل العقيدة، "هي أنه من غير الممكن حرفيًا ترجمة مؤلفين من الماضي إلى لغتنا اليوم، أو حتى من عصر إلى آخر" [2].
يعارض كلود باناتشيو هذا المنظور، ويعيد ترسيخ حقوق الاستمرارية بين العالم الذي يسكنه فلاسفة الماضي وعالمنا الحالي، سواء من الناحية الدلالية (لقد أشاروا، بشكل عام، إلى نفس الأشياء مثلنا، ولم تكن مشاكلهم حتى الآن بعيدة عنا). حول هذه النقطة، يجري المؤلف مناقشة مفيدة مع "المنقطعين الشموليين" مثل آر جي كولينجوود R. G. Collingwood ومؤرخي فلسفة العصور الوسطى مثل آلان دي ليبرا Alain de Libera إذ يؤكد هذا الأخير في عمله حول تاريخ مسألة الكليات أننا لا نتعامل مع "مشكلة" موزعة بين مؤلفين مختلفين ("الجامعيون في X")، ولكن مع "مركبات الأسئلة والأجوبة" المختلفة في كل سياق. ويترتب على ذلك أننا لا نستطيع حقًا مناقشة مواقف أبيلار Abélard أو توما الأكويني أو أوكهام Ockham بشأن مشكلة لا يزال من الممكن أن تنشأ اليوم بعبارات مماثلة.
هذه هي الفكرة التي يعارضها باناتشيو، من خلال التمييز بين الأسئلة التي تقع تاريخيًا، والمشاكل التي تفترض صعوبة في الحلّ، والتي يتم طرحها بمصطلحات موضوعية وعابرة للزمن. وهو يدافع عن فكرة أنه يمكننا تحديد أهمية بعض الأسئلة لتحليل المشاكل وعزل الحجج. ويفترض هذا أننا نستطيع تقييم هذه الحجج، من وجهة نظر العقلانية المشتركة بيننا وبين مؤلفي الماضي، وأنه يمكننا، على سبيل المثال، ترجمة مفاهيم مثل فكرة "الأنواع المعقولة" في العصور الوسطى إلى مصطلحات "تمثيل [المعاصرين] العقلي". إنه يستحضر أساطير ما لا يمكن ترجمته وما لا يمكن قياسه.
يقدم كلود باناتشيو هنا، بوضوح وصدق مثاليين، أفضل دفاع حتى الآن عن أسلوب تاريخ الفلسفة الذي يجمع بين السرد التاريخي وإعادة البناء العقلاني. وهو ما يمارسه بنفسه في كتبه العظيمة "الكلمات والمفاهيم والأشياء" (Les Mots, les Concepts et les Choses، منشورات Vrin 1991) وحول "الخطاب الداخلي" (Le discours intérieur، منشورات Seuil 1999) حيث يعطينا رسالة في منهجه وهي أيضًا "رسالة في الطريقة". يتعارض درس الكتاب بشكل مباشر مع جزء كبير من ثقافتنا الفلسفية المعاصرة، التي ترى أن تاريخ الفلسفة هو الفلسفة بأكملها. لا يمكننا الاستغناء عنها، وإذا كان هناك فلاسفة تحليليون يريدون ذلك، فهم مخطئون جدًا. إذا لم نقرأ مؤلفي الماضي بفكرة أنهم قادرون على تغذية تفكيرنا، فإن كل هذه المكتبات وكل قواعد البيانات هذه، المعاصرة، ستكون مثل كتل من الأدوات القديمة الصدئة المتراكمة في سقيفة. ولكن يمكن استخدام الأدوات مرة أخرى.
هوامش:
[1] راجع كتاب Quatre manières d’écrire l’histoire de la philosophie, in Gianni Vattimo (dir.), Que peut la philosophie et son histoire?, Seuil, 1989.
[2] مثلما تشير باربارة كاسان (Barbara Cassin) إلى ذلك في الكتاب الذي أشرفت عليه تحت عنوان Vocabulaire des philosophies europeens. Dictionnaire des intraduisibles