يعرف السوريون بأنهم شعب مسيّس، أو بالأحرى يحكي في السياسة كثيرًا، ولكن هذا التعريف يبدو واهيًا، فمقوّمات التسيس أو الحكي في السياسة، وليس العمل بها، بعيدة كل البعد برأيي عن متناول السوري العادي، فمنذ عام 1958، أي منذ الوحدة المصرية- السورية، ألغيت السياسة من حياة السوريين، وصار الإلغاء شرطًا لازمًا للاتفاق على الوحدة، بين اللادولتين بالمعنى التقني للكلمة، وذلك عبر تعهد السوريين بحل كافة الأحزاب، وترافق ذلك مع إعلان أحكام الطوارئ (العرفية)، كي تستطيع السلطة مراقبة أي حراك سياسي، بدون حسيب من أي جهة محلية، أو من آليات "الدولة" نفسها، واستمرت الأحكام العرفية منذ ذلك التاريخ، حتى 2011/10/15، إلا فترة بسيطة بين 1961 و1963، حصل فيها انقلاب البعث، لتعود الأحكام العرفية مرة أخرى، وإن كانت ألغيت بعد 2011 حيث برر الدستور وقتها ما سمي قانون الإرهاب، وهو في الواقع حكم عرفي بشكل عملي، يستثنى فيه استعمال المحاكم المدنية، أو حتى قوات الشرطة المدنية في الاعتقال والتحقيق والسجون.
في عود على بدء، لم يعرف السوريون من السياسة إلا التضحيات والنضالات، ولم تعرف التحزبات السرية سوى الالتزام بالأمل الثوري الذي سوف يوصلهم إلى نصر ما، تعرفه فقط اجتماعاتهم السرية، وجولات الهروب والتخفي، ومن ثم إما إلى اللجوء والاغتراب، أو إلى زنزانات الاختفاء القسري، ويعرف السوري تمامًا، أنه متى تم تسجيل اسمه على ورقة في أي جهاز من أجهزة المخابرات، فإن الأمر لن ينتهي طوال عمره، حتى لو ابتعد عن السياسة لاحقًا.
اليوم يحصد السوريون ثمن ابتعادهم عن السياسة، فلا يوجد الآن سوى الخراب، خراب العمران، وخراب التفكير المؤسس للمجتمع والدولة، وتقوقع عقليتهم في دائرة العداء السياسي، وتراجع فكرة الخصومة (المنافسة) السياسية، فما كان معروضًا عليهم ولسنوات طويلة هو مجرد حديد ونار، وعليهم التعامل على هذا الأساس الجنائي، مع واقع يحتاج إلى دولة مفهومة وقادرة على التفاهم مع الناس، الذين من واجبهم أن يراقبوا أداءها حفاظًا على حقوقهم ومصالحهم، التي هي الركن الأساسي لوجودهم في البلاد.
الدولة، أو أية دولة حقيقية بالمعنى المعاصر للكلمة، هي حكومة ومعارضة، والاثنان مكلفان بصيانة الدولة، لا يحتكر أحد الوطنية راميًا الآخر بالخيانة العظمى دفعة واحدة، والأمم والشعوب تعيش في ظلال دولها على هذا الأساس، بلا حديد ونار رغم شدة التنافس والخصومة بين التيارات السياسية التي تضغط بواسطة جمهورها على حكومتها لتنفيذ ما هو أفضل للمصالح المجتمعية، وهذه ليست بوصفة سحرية، ولا أحجية من أحاجي الزمان، فالدولة هي تكنولوجيات إدارة المجتمعات وصيانتها من التراجع إلى ما قبل المجتمع، والتكنولوجيات باردة ومحايدة وعلى مسافة واحدة من الجميع، لذلك من مصلحتها صيانة إرادة الناس، حتى تبقي المجتمع حيًا وقادرًا على الإنتاج وبالتالي الإستمرار كدولة وليس مجرد سلطة، وهنا بالضبط ما يكمن الآن في الخراب السوري الذي أشرنا إليه، وهنا بالضبط نرى آليات التخلف وهي تعمل على مصادرة إرادة أعضاء المجتمع بحجة تمثيلهم جبرًا، وهنا بالضبط يظهر إنفلات العنف "الثوري" إذ لا طريقة للفهم والتفاهم، مع جهة لا تحاور إلا بالعنف، الذي أصبح تعريفًا وحيدًا "للدولة"، على أساس احتكارها للعنف، فانقلب التعريف حتى صار من يمتلك العنف هو "دولة"، وهذا ما قاله أحد الأساتذة الجامعيين البعثيين في إحدى جرائد الحكومة أثناء ربيع دمشق، قال: لقد وصلنا إلى الحكم بالدم، فمن أراد الحكم عليه أن يريق الدماء.
هكذا انقطع السوري عن السياسة، فلا مظاهرات مطلبية، ولا أحزاب، ولا نشاطات خيرية أو ثقافية، يقوم بها متطوعو التحزب أو العمل المدني، بناء على قناعاتهم الناتجة عن الجدل التنافسي بين الأفكار والبرامج السياسية الذي خلق تصورًا تقدميًا قد يفيد في الارتقاء بالدولة، وفي تنفيذ هذا التصور هناك إلغاء لفكرة الأقليات، تلك الفكرة المتخلفة عن الممارسة المجتمعية، والخارجة عن مفهوم السياسة وممارستها، وبها ينحرف السوري عن التفكير السياسي المعرفي، فمفهوم الأقلية والأكثرية هو مفهوم سياسي حصرًا، وتعميمه على الأديان والطوائف والمذاهب، والإثنيات، والفولكلوريات، هو خطأ شنيع ناتج عن الحرمان من السياسة، وتشوه في مفاهيم الحقوق والواجبات، وكذلك هو ابتعاد حقيقي عن صياغة العقد الاجتماعي الضروري لإقامة دولة، إذ لا يمكن حدوث المجتمع في ظروف انقسامية إلى هذا الحد والحجم، وكلمة "أقليات" هي كلمة مضادة لمفهوم الوطن الذي يتأسس على مواطنين متعاقدين على قدم المساواة، وهذا التعاقد، هو أساس الفعل السياسي بين الناس، وهو فعل إيجابي بالضرورة، وواجب على كل متعاقد، وفي الحالة السورية الجديدة، ظهر هذا الغياب لهذه الثقافة الحقوقية الموحِدة لصفوف المجتمع، وطافت على السطح فقاقيع التسمم السياسي، الذي يتم اختصاره بالإنتقامات والعقوبات التي تراكم الآلام والأحقاد.
لقد شبع السوريون من الترويض بالحسنى أو بالتهديد، أو بالعنف الفيزيائي المباشر، سئموا هذا النوع من التربية، التي لا تفضي إلى وطن، بغض النظر إذا كان زعيمًا، دستوريًا، أو بلا دستور، أو بدستور يمكن التلاعب فيه وبالقوانين الناتجة عنه، لأن السوريين لديهم رأي سياسي، مقاصده معلنة، تطلب تمثيلها في صناعة القرار، وهذا لا يمكن وصفه بالعداء، أو الخيانة، أو الإرتباط بالخارج، هذه التهم الجزافية، تجعل من الشعب نفسه قيمة جزافية، يمتنع عن المشاركة بالحياة، في حين أنه يرفض مجرد العيش للعيش، ويأمل بالحصول على مؤسسات مجربة في العالم أجمع، وليست لغزًا يصعب تفكيكه، فللبرلمان شغل مؤثر يظهر في أداء الدولة والحكومة، وليس مكانًا للبصم على قرارات رئيس الدولة، وفصل السلطات ضروري للحياة البشرية، كي تتم المراقبة والمحاسبة على سياسات لا تحترم الحق بالحياة أو الكرامة البشرية، وهذان البندان ساقطان عند الجماعة السياسية السورية، وهذا ما أدى إلى امتناع التنمية عن الفعل التنموي، نظرًا لأن هذه التنمية ليست من شغله هو كمواطن كامل الأهلية الحقوقية، التي تتضمن التأثير الفعال في التوجهات التنموية، فلم تشمل التنمية القطاع السياسي، مما أدى إلى امتناع التنمية في بقية القطاعات، وهذا الكلام ينطبق على النوعية أيضًًا، أو هو بالأساس عن النوعية، فلا يعني شيئًا في معيار التنمية أن تبنى آلاف المدارس، إذا كانت نوعيتها ونوعية التعليم سقيمة، ولا تتناسب مع القيم العصرية للأداء المجتمعي.
اليوم على السوري العودة إلى السياسة، عبر تأسيس كيانات مدنية من أحزاب وجمعيات، ونقابات واتحادات، وكل ما يمت للعمل المجتمعي بصلة، فتسريع إقامة المجتمع عبر تحفيز الناس على إعلان إرادتها، هو من سيولد دولة ترعى إنتاج مجتمعها، وتوزع ثرواته بمساواة وعدالة، وهذا لن يتم بالحديد والنار، بل بالتنمية المجتمعية الفعلية، ولن يتم رفع الشعارات وتقديسها، بل بفعل المعرفة التي فات السوري أشواط كثيرة منها، ولن يتم بتأبيد السلطة وتقديسها، بل بتداولها واعتبار رجالاتها أناسًا دنيويين يعيشون معهم بين قوسي معايير الخطأ والصواب؛ فالسوريون يستحقون ذلك، وصمتهم لم يعد يجدي، فقد صمتوا لأكثر من نصف قرن، وكانت النتائج على أشكال الخراب المتنوعة. عليهم أن يبادروا لاستبدال الكلاشينكوف بالسياسة، والنقد والانتقاد وحتى السخرية من الخطابات والوعود المبجلة، هذا بدلًا من الانصياع للشعارات وتأكيدات التأبيد للحاكم. ربما من حقهم أن يجربوا بنية سياسية دون اقتتال أو دماء، حيث تبدو الحرية غاية بحد ذاتها، ممارسة للشعور بالحياة والكرامة، فما حصل عليه السوريون في وقت الترويض المديد، يجعلهم يفكرون بالسياسة كغالب ومغلوب، وعليهم تغيير هذه النتيجة، لصالح الانتصار للمصالح المجتمعية التي تحقق مصالح أفراد المجتمع جميعهم. إنها فرصة ذهبية لتغيير مستقبلهم بإرادتهم ولصالحهم. وأخشى ما أخشاه، هو أن تستمر ذهنية من يتزوج أمي أناديه يا عمي؛ عندها يكون امتناع السياسة بين الناس والدولة بمثابة إزهاق حق من حقوقهم مرة أخرى، وساعتها تصح مقولة: "كما تكونوا يُولّى عليكم".