الحدث الذي كنت أخاف من وقوعه صار أمرًا واقعًا: لقد رحل قيس الزبيدي. حدث ذلك في الوقت الذي كنت متشوقًا لزيارته والجلوس معه والحديث في شؤون وشجون عامة وخاصة...
حدثني الصديق عصام عن ظروف الوفاة والأيام القليلة التي سبقت الحادثة... ودخلنا سوية في حالة من الصمت...
بدأت أتأمل الحالة... شريط من الذكريات الممتدة على مدى أربعين عامًا بدأ يمتد أمامي كشريط سينمائي... في بداية الثمانينيات بدأنا، كجيل شاب عاشق للسينما، بمشاهدة أفلام قيس الزبيدي التي انحفرت في ذاكرتنا: "اليازرلي"، "وطن الأسلاك الشائكة"، "فلسطين سجل شعب"، وغيرها وغيرها... وفي منتصف الثمانينيات كان الكتاب الذي اختار مقالاته وترجمه تحت عنوان "مسرح التغيير: مقالات في منهج بريشت الفني" أحد أهم مراجعنا عن مسرح بريشت عندما كنا طلبة في المعهد العالي للفنون المسرحية...
يتوقف الشريط عند أواخر التسعينيات عندما كان قيس يزورنا، بندر عبد الحميد وأنا، في مكتب مجلة "الحياة" السينمائية، وكانت السينما، وخصوصًا الكتب السينمائية التي كنا نصدرها عن المؤسسة العامة للسينما ضمن "سلسلة الفن السابع" هي محور أحاديثنا... بعدها نغادر ثلاثتنا مكتب المجلة ونتمشى وصولًا إلى بيت بندر عبد الحميد في أحد تفرعات شارع العابد وسط دمشق لنواصل أحاديثنا ومزاولة طقوسنا في المأكل والمشرب... عندما أصدر كتابه الذي يحمل عنوان "بنية المسلسل الدرامي التلفزيوني: نحو درامية جديدة" (2001) أهداني نسخة منه.
ما إن انتهيت من قراءته حتى خرجت بمقال عنه ونشرته في إحدى الصحف العربية، وعند أول لقاء عبر لي عن سروره بما كتبته عن هذا الكتاب... والشعور نفسه كان لديه بعد قراءته للدراسة التي كتبتها ونشرتها عن فيلمه الذي يحمل عنوان "من أسكت الصافرة" (2010).
عندما أجرت إدارة مهرجان دبي السينمائي استفتاء على أهم مئة فيلم في تاريخ السينما العربية عام 2014 كنت أحد النقاد السينمائيين المشاركين في الاستفتاء. اخترت اثنين من أفلام قيس الزبيدي وهما فيلمه الروائي الطويل "اليازرلي" وفيلمه الوثائقي الطويل: "فلسطين سجل شعب". وبالفعل، تم اختيار الفيلمين ضمن قائمة أفضل مئة فيلم في تاريخ السينما العربية.
أوقفت شريط الذكريات هنا ودخلت الفضاء الأزرق لأكتب ما يلي:
"يفرّ الزمن من بين أصابعنا كقبضة ماء.
قبل عدة أشهر هاتفته وسألته عن كيفية الحصول على أفلامه لكي نعرضها في إحدى المناسبات، واتفقنا على أن أزوره في برلين عندما يتعافى من المرض الذي كان قد ألمّ به... مرت الأيام والأسابيع والشهور ولم تتم الزيارة، وها نحن الآن نسمع خبر رحيله.
قيس الزبيدي المرجع السينمائي لنا ولأجيال قبلنا وبعدنا يترجل بصمت بعيدًا عن وطنه الأصلي العراق...
في عام 2002 كان مسافرًا إلى برلين، أوصيته أن يأتي لي بآخر كتاب صدر عن صناعة الأفلام الوثائقية، فكان أن أتى لي بالكتاب الذي ترجمت لاحقًا طبعته الأخيرة وصدر في أبوظبي عام 2011 بعنوان "صناعة الأفلام الوثائقية...".
في عام 2004 كنت في إجازة من عملي في طهران، التقيته في دمشق في مكتب الصديق سعيد البرغوثي في دار كنعان، وأبديت له مشاعري بعدم رغبتي في العودة إلى طهران، وفي الوقت نفسه عدم رغبتي في البقاء في سورية، فتناول كتابًا لبرتولت بريشت كان قد أعده وترجمه ونشره لدى الدار، وقال لي اسمع ماذا يقول بريشت في هذه القصيدة، وكم هي تنطبق على حالتك هذه. وبدأ بقراءتها. تقول القصيدة:
"أجلسُ على قارعة الطريق
بينما السائق يغيّر العجلة.
لا أحب المكان الذي جئت منه
ولا أحب المكان الذي أذهب إليه.
لماذا إذن أراقب تغيير العجلة
بنفاد صبر؟".
تواصلت لقاءاتنا في دمشق وأبوظبي ودبي وبرلين... وكانت السينما محور أحاديثنا كلها...
وداعًا قيس... الصديق والمعلم
لروحك السلام ولأعمالك الخلود...".
***
لقد عرف جمهور السينما في سورية قيس الزبيدي مع أواخر ستينيات القرن الماضي؛ مخرج سينمائي عراقي أنهى دراسة السينما في ألمانيا الشرقية. مخرج درس فن المونتاج السينمائي، إلا أن شغفه بالسينما دفعه ليعود ويدرس فن التصوير السينمائي، ومن ثم يتحول إلى إخراج الأفلام، ومن ثم إلى الكتابة والترجمة عن السينما. لنكون بذلك أمام سينمائي موسوعي اجتمعت في شخصه جميع المهن السينمائية وفنونها والتي نادرًا ما تجتمع في شخص واحد، على الأقل في عالمنا العربي. فهو كاتب السيناريو والمخرج والمونتير والمصور والباحث السينمائي والمترجم. هذه الصفات والإمكانيات والمواهب لدى السينمائي الموسوعي، والتي تضاف إليها الصفات الشخصية الحميدة للرجل جعلت من قيس الزبيدي أحد الشخصيات النادرة التي يجتمع على محبتها كل من عرفها في الوسط الثقافي السوري.
هذا الوسط الذي غالبًا ما تسوده الكثير من مشاعر الغيرة والحسد والكراهية والنزاعات والصراعات فيما بين أفرده... فطيلة تجربتي داخل هذا الوسط لم أسمع أحدًا، عندما يأتي على ذكر قيس، إلا ويتحدث عنه بعبارات الحب والمودة والاحترام، لم أسمع عن أحد يكن لقيس أي نوع من المشاعر السلبية. لقد فرض احترامه على الجميع، ليس لأنه كان يريد إرضاء الجميع، بل لأنه كان محط إعجاب الجميع.
***
كانت السينما التسجيلية هي النوع السينمائي الذي اختاره قيس الزبيدي لقول ما يريد قوله سينمائيًا، بينما كانت قضية فلسطين هي موضوع قوله في معظم أفلامه، وذلك بدءًا من فيلمه الأول "بعيدًا عن الوطن" الذي قام بنفسه، كعادته مع بقية أفلامه اللاحقة، بكتابة السيناريو له وتصويره ومونتاجه وإخراجه، وقام التلفزيون السوري بإنتاجه بالتعاون مع المؤسسة العامة للسينما عام 1969.
لو أردنا أن نتحدث هنا عن كل فيلم من أفلام قيس على حدة، وعن كل كتاب ألفه قيس على حدة ببضعة أسطر لاحتجنا إلى ساعات طوال تضيق بها هذه المناسبة، لذلك سأكتفي بحديث مختصر عن بضعة من أوائل أفلامه، لأعود لاحقًا لإجراء دراسة مطولة تتناول مجمل تجربة قيس السينمائية.
|
الصورة جمعتنا مع الصديق الراحل بندر عبد الحميد في قصر الإمارات في أبوظبي أثناء مهرجان أبوظبي السينمائي عام 2014. |
يصور قيس في فيلم "بعيدًا عن الوطن" حياة الأطفال اللاجئين الفلسطينيين في مخيم السبينة جنوبي العاصمة السورية دمشق، ليبين لنا ظروف معيشتهم اليومية في الخيام التي لا تقيهم حر الصيف ولا برد الشتاء، وأحلامهم الكبيرة والصغيرة والتي تقتصر لدى معظمهم في الحصول على قلم لكي يساعدهم على تعلم الكتابة...
في العام التالي يخرج قيس فيلمه الروائي التجريبي القصير بعنوان "الزيارة" (1970) الذي يضمّنه قصائد لمحمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد، ولوحات للفنان السوري نذير نبعة. ليتبعه بعد عامين بفيلم بعنوان "شهادة الأطفال الفلسطينيين في زمن الحرب"(1972) وفيه يلج قيس مع كاميرته مخيمًا فلسطينيًا آخر، وهذه المرة في لبنان، ومع أطفال آخرين لتلتقط عدسته رسوماتهم ولوحاتهم التي تعكس أحلامهم بوطن جميل خالٍ من الخيام والاحتلال...
لكن قيس لم يكتف برصد حياة الفلسطينيين في مخيمات اللجوء في الشتات، بل إن شغفه في الوقوف إلى جانب قضية العرب الكبرى يدفعه للتوجه إلى داخل فلسطين المحتلة لكي يكشف لنا عن أحد أخطر التحديات التي تواجه الشعب الفلسطيني في الداخل، وهي قضية الاستيطان الإسرائيلي في فلسطين. وهنا يصطحب قيس مصورًا ألمانيًا ويسافران إلى فلسطين ليصنع فيلمًا بعنوان "وطن الأسلاك الشائكة" (1980) من إنتاج دائرة الإعلام والثقافة في منظمة التحرير الفلسطينية.
يكشف هذا الفيلم النقاب عن الأساليب التي يعتمدها الاحتلال لسرقة الأراضي الفلسطينية من أصحابها ليقيم عليها مستوطناته. وللمفارقة فإن هذه الأساليب ما زالت هي نفسها منذ وصول اليهود إلى فلسطين في بداية ثلاثينيات القرن الماضي وحتى اليوم، والتي تتلخص بالسيطرة على الأراضي الزراعية بعد طرد أصحابها منها بمختلف وسائل الترهيب، وإحاطتها وتسويرها بالأسلاك الشائكة (عنوان الفيلم أتى من هنا) وتجريفها بالجرافات، ومن ثم توسعة المنطقة المسورة يومًا بعد يوم وشيئًا فشيئًا، ومن ثم إقامة الوحدات السكنية فوقها، وجلب المستوطنين ليسكنوا فيها. وكل ذلك يتم على خلفية أيديولوجيا صهيونية توراتية تزعم بأن فلسطين هي أرض الميعاد لليهود الذين يعودون الآن إليها. وأن فلسطين هي أرض بلا شعب لا بد من إعطائها لشعب بلا أرض، والذي هو الشعب اليهودي.
قد يبدو هذا الفيلم بمعايير اليوم أشبه بتقرير تلفزيوني نشاهده بين فترة وأخرى على قنوات التلفزة عن الاستيطان في فلسطين المحتلة ومواصلة الاحتلال الإسرائيلي مصادرة الأراضي الفلسطينية لكي يقيم فوقها مستوطنات جديدة لليهود. لكن بمعايير سنة إنتاجه (1980) لم تكن هذه العملية تحظى باهتمام وسائل الإعلام، بل تتم بصمت مطبق، ولا يعرف بها أحد خارج فلسطين، فكان هذا الفيلم كاشفًا لأحد أكثر ممارسات الاحتلال إجرامًا بحق الشعب الفلسطيني، ومن هنا يكتسب الفيلم أهميته.
صديقي الجميل قيس الزبيدي:
إن الحديث عن شخصك وإبداعك لا ينتهي...
سنفتقدك كثيرًا في سوريتنا الجديدة...
سورية التي أحببتها كما أحببت وطنك العراق، مثلما هي أحبتك كما أحبت أحد أبنائها البررة...
لروحك الشفافة النقية ألف سلام ورحمة...
(*) كلمة ألقيت في حفل تأبين المخرج العراقي قيس الزبيدي في العاصمة الألمانية برلين في ذكرى مرور أربعين يومًا على رحيله.