}

عن لحظة الحقيقة وعن مفهوميّ النصر والهَزيمة

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 25 يناير 2025
آراء عن لحظة الحقيقة وعن مفهوميّ النصر والهَزيمة
طفل الطائرة الورقية انتصر على المدجج
ليس أنا، بل العلوم العسكرية هي التي تقول إن نظرية/ مفهوم/ فكرة/ حالة النصر تقوم على مكوّنيْن رئيسييْن: موضوعيّ (احتلال الأرض، إنزال علم المهزوم ورفع علم المنتصر مكانَه (إلى الأبد)، فرض معاهدات مذلّة تقِرّ، أساسًا، بالهزيمة، إعْلان فصيلٍ مقاتلٍ وَضْعَ السلاح وطَلب العفو العام، رفْع رايات الاستسلام البيضاء بشكلٍ واضحٍ قاطعٍ فاضحٍ لا لُبس فيه ولا ظُنون، ومظاهر أخرى) وغير موضوعي (ظنّيٍّ، يدخل فيه الهوى، والأجندات، والولاءات، نسبيٍّ، غير حاسمٍ ولا محسومٍ ولا ما يحزنون).

كمائن الموت 

في العصر الحديث شهد الكوكب حالات نصر موضوعيٍّ نادرة، ولهذا كانت صاخبةَ السطوع، منها، على سبيل المثال، هزيمة اليابان وألمانيا في الحرب العالمية الثانية (من دون أن ننسى أن هزيمة اليابان اُنْتِزعت بعد استخدام أميركا لِسلاحٍ غير تقليديٍّ ضد مدينتيْن تعجّان بِالمدنيين، أدى إلى دمارٍ شامل وقتْلِ عشرات آلاف الناس في لحظات، واندثار أسباب الحياة وتلوّثها لعشرات السنين بعد استخدام هذا السلاح الوحشيّ الجبان).
الحرب هي، بحسب المؤرخ العسكريّ البروسيّ كارل فون كلاوزفيتز (1780-1831)، امتدادٌ للسياسَة، وعليها، بالتالي، أنْ تحقق، في نهايةِ دوّامة مدافعِها ومقذوفاتِها وأوزارِها وأزيزِها ودخانِها، أهدافًا سياسية.
وهنا لعلّني أطرح سؤالًا: هل حقق العدوان الصهيونيّ على قطاع غزّة أهدافه السياسية؟ ولعلني، إن سمحت إلى نفسي، أجيب عن سؤالي بجوابٍ من عنديّاتي: لا لم يحقق العدو الصهيونيّ ولا هدفٍ من أهدافهِ، إنْ كان له، من الأساس، أهداف من عدوانه الموصوف (إبادة جماعية) غير العدوان الانتقاميّ الفوضويّ الجرائميّ بعدما تعرّض له صبيحةَ السابع من أكتوبر 2023، من جرحٍ غائرٍ أصاب أُسَّ وجودِه في مقتل.

زمنُ اللامطلقيّات

يرى الباحث عماد قدّورة، مدير قسم التحرير في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة، أن جلَّ حروب القرن الحادي والعشرين "لم تسفر عن نتيجة حاسمة مطلقة، بل كان الاختلاف بشأن نتيجتها هو السائد؛ ليس بين عامة الناس فحسب، بل على الصعد السياسية الرسمية والأكاديمية والإعلامية أيضًا". انطلاقًا من رؤية قدّورة في مقاله المنشور على موقع المركز العربي بتاريخ 17 تشرين الثاني/ نوفمبر 2013، تحت عنوان "نسبيةُ النصر والهزيمة في الحروب الحديثة"، فإن النّوازع الذاتية، والأجندات الوظيفية (التي نكون موظّفين لِخدمتها)، والاعْتوارات البصيريّة (أن نكون، على سبيل المثال، عميانًا بعيونٍ أميركية)، والجمود التحليليّ القراءاتيّ غير الجدليّ، وأسبابًا أُخرى، تلعب بِمجملِها دورًا في تحديدِ من المنتصر ومن المهزوم في حربٍ/ عدوانٍ/ معركةٍ/ مواجهةٍ ما. في هذا السياق يعرّف الباحثُ الكنديّ روبرت ماندل مفهوم النصر في كتابه "معنى النصر العسكري"، بأنه "إشارةٌ إلى نقطةِ تحوّلٍ ونِهاية".
إن من يملك موقفًا مسبقًا رافضًا لفكرة المقاومة من جذورها لن يعترف لِتلك المقاومة بنصرٍ حتى ولو أعْطبت ألفيّ دبّابة ثمن كل واحدة منها أربعة ملايين من الورق الأميركيّ، ولو جَنْدَلَت 15 ألف جنديٍّ معتدٍ، وجرحت ثلاثةَ أضعافِهم، ثلثُهم بِبَتْرٍ مقيمٍ! لن يراها منتصرة حتى لو فعلت ما فعلته المقاومة الفلسطينية في بيت حانون قُبيل وقف إطلاق النار بأيام قليلة. أما لماذا أورد بيت حانون على وجه التحديد، فلأنها أكثر مدينة في القطاع هشّة عسكريًا (عند السياج تمامًا من جهة شمال شرق القطاع، لصيقة بمعبر يحمل اسمها (إيرز عندهم)، تقابلها من جهة أرضنا المحتلة في فلسطين كتائب صهيونية لها في الإجرام تاريخ ممتد، مكشوفة أمنيًا تمامًا، إنْ من ناحية قلّة الأراضي المزروعة فيها، أو من ناحية خلوّها من أي تلالٍ، أو كثبانٍ، أو تداخلات عمرانية، وهي كانت أوّل مدينة اجتاحها العدو الصهيوني منذ انطلاق حملته البريّة على غزّة في 27 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وبقي فيها).




ومع كل هذا وذاك تُمطر العدو على مدى أيامٍ متوالياتٍ بعددٍ من المفاجآتِ الصاعقة: كمائنُ نوعيةٌ ومعظمُها مركّبة، إطلاق صواريخ من منصاتٍ فيها، تحقيقُ عددٍ من نقاطِ الصّفر الداميةَ المُميتة، ما أسفر بمجموعهِ عن 79 قتيلًا (بحسب إحصائيات العدو، يشملونَ ضباطًا وجنودًا) خلال أقل من أسبوعيْن، وضعفهم من الجرحى. أرأيتم أن من حقي إفرادُ مساحةٍ لائقةٍ ببيت حانون، وأنها، بأمانة متناهيةٍ، شكّلت أحد الأركان الكبرى لِقبول العدو الذهاب إلى صفقةِ تبادُل (فضغط ترامب هو مجرّد تفصيلةٍ أمام صمودِ المقاومة وثباتِ حاضنتها). وإن اقتنعنا بهكذا قراءة، فإن مآلات العدوان وقد كان يقترب حثيثًا من 500 يوم، هي انْدحاره، أي هزيمته، وبما أن أي مهزومٍ لا بد من أن يقابله (على المقلبِ الآخَر) منْتصر، فإن المقاومة انتصرت، صحيح أنها انتصرت بثمنٍ باهظٍ مؤلمٍ دامٍ غير مسبوقٍ في الحروب جميعها بين المقاومة والعدو الصهيوني، وعلى امتداد الصراع العربيّ الصهيونيّ، ثمنٌ فوق طاقة استيعاب البشر، ولكن المطالب الكبرى ولا مرّة كانت من دون ثمن، ولون الحرية ولا مرّة لم يكن أحمرا "وللحريةِ الحمراءِ بابٌ/ بكلِّ يدٍ مدرّجةٍ يُدَقُّ"، وتحرير الأرض والإنسان ولا مرّة كان من دون كُلَف، وعادةً دروب المجد أصعب من مسالك الذُّل، ونحن لا نتوسّل كرامَتنا بل نفرِضها، ومهرُ الأرض ليس الدعاء والرجاء، مهر الأرض غالي... ماااا أغلاه.
يقول العميد الأردني المتقاعد د. فيصل وريكات ذات مراجعة عميقة: "من المُعيب أن تُهزم بدون معركة، ومن دون أن تنال شرف اللقاء". ما جرى في حالة المتابعة العربية المجندة لجهاتٍ لا تريد المقاومة، أنها ترفض فكرة المقاومة من أساسها، وفكرة خوضِها لأيِّ معركة، ونيلِها شرف أي لقاء، ولا تريد، بالتالي، أن تقلق نفسها بمراجعة مآلات العدوان؛ هل أدى إلى هزيمة العدو؟ هل أسّس أول مداميك إمكانية دحرهِ النهائيّ مستقبلًا؟ ليست هذه وجهاتها ولا مشاريع وجودها، إذ يبدو أنها تتبنى مشاريع مضادة لجوهرِ مَعنانا كأمّة، ولمشروعيةِ تزعّمها مصائرَ أمّتها. هي (يا وجعي) على الجهة الأخرى من التاريخ والجغرافيا والمنظومة الأخلاقية الواجب اسْتعادتها كأساسٍ للتعاملِ بين الأُمم والدولِ والحَضارات، وفي المَتاريسِ المُضادةِ لِخيارات شعوبِها. 

ننتصر أو نموت 


شرق... غرب...

قد يلتقط المتابع تباينًا في مفهومي النصر والهزيمة عند أبناء الشرق عنه عند الغرْبيين. ولعلَّ في عبارة عمر المختار تلخيصًا بلاغيًا وجدانيًا لهذا التباين: "نحن لا ننهزم... ننتصر أو نموت"، والمقصود بالموت هنا، طبعًا، هو الموت الاستشهاديّ، أي أن يقضي الطالع من حرارةِ الشرقِ وأديانهِ ومعتقداتهِ شهيدًا مدافعًا عن دين، أو معتقد، أو عِرض، أو أرض، أو غايةٍ كبرى من غاياتِ الحياة وموجباتِها. من العبارات، على سبيل المثال، التي توضح بعض ميكانيزمات تفكير الشرقيّ التي تتعارض مع ماديّات الغربي ومنطقه: "في سبيل الله قمنا نبتغي رفع اللواء... فليعد للدين مجده... للأقصى عزّه... أو تُراق منّا الدماء". وأسأل هنا: كيف يمكن أن يستوعب الغربيّ (المُكلْبِش) بأهداب الدنيا الفَانية ما قام به ضابط الملاحظة الملازم أول الأردني الشهيد خضر شكري يعقوب (1941-1968) ابن معان الأبيّة، عندما حاصره العدو وآلياته في معركة الكرامة فوق تلّة صغيرة شمال مثلّث الشونة، فأرسل عبر اللاسلكي بيانه الأخير البليغ: "من 24 إلى واحد أجب..."، فردّوا عليه: "من واحد إلى 24 أرسل أجب"، فأكمل: "الهدف بطارية اثنين أربعة ستة واحد"، فيكرر المتلقي وراءه: "اثنين أربعة ستة واحد". خضر: "ثلاث ثلاث تسعة صفر"، المتلقي: "ثلاث ثلاث تسعة صفر"... وبعد أن عايرَت المدفعية الأردنية مؤشّرها، ووجّهت قذائفَها بحسب توجيه ضابط الملاحظة الشهيد خضر، وبعد أن حددت هدفها بحسب الإحداثيات التي أرسلها، إذا بها تكتشف أن ما يريدها خضر أن تقصفه هو موقعه، فيقول له الضابط الذي يتلقى منه متسائلًا ومستفهمًا: "الهدف موقعك؟!"، فيرد عليه خضر: "نعم موقعي أنا محاصر... ارمِ فورًا... أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله... ارمِ... ارمِ... انتهى".
إنها طريقة في التعامل مع الموت والحياة يصعب أن يفهمها الغربي... ورغم أن عشرات ملايين الأوروبيين قتلوا في الحرب العالمية الثانية، إلا أنهم قضوا مرغمين منجرفين نحو المنطق الرأسمالي حول اشتراطات الوظيفة، والموت المدفوع الأجر (المرتزقيّ)، وإن لم أقتلكَ ستقْتلني وإلى آخر قائمة الموت الفاقد لأي محتوى، غير المتدثّر بإزارٍ أخلاقيٍّ قيميٍّ وجيه.

لحظةُ الحقيقة

مما لا شك فيه أن المقاتل صاحب المعطف الطويل انتصر... والمقاوم الذي صدح "ولّعت" انتصر... والشهيد الذي لفظ أنفاسه الأخيرة ساجدًا انتصر... والبطل الذي ظل يقاوم وحده لساعات إلى أن ارتقى انتصر... والمُجالِد الذي طعن خمسة وقتلهم، ثم ارتدى بزّة أحدهم بعد أن تزنّر بحزامٍ ناسفٍ ثم تحرّك نحو مجموعة ثانية من الجنود المهزومين ففجر نفسه بهم انتصر.




مما لا شك فيه أن الشهيد خالد النبهان صاحب أرقى عبارة سمعتها في حياتي "روح الروح" انتصر... والأم التي احتسبت فلذة كبدها انتصرت... انتصر الدم على السيف، والكف على المخرز، والفعل العفيّ فوق الأرض وتحتها على الشعارات الزائفة والتنْظيرات المُرجفة والتّهويلات الخائفة.
لم يحقق العدو الصهيونيّ هدفيّ "الصدمة والترويع" للشعب الأبي الصابر المرابط البطل في القطاع، وبالتالي فشل في "كسر إرادة الخصم"، وباءت بالفشل كل محاولاته للتأثير النفسي على حاضنة المقاومة باستخدام الدمار المهول (الأرض المحروقة)... ومن أُصيب، حقيقة، باليأس واللاجدوى هم جنود العدو الذي وصلوا أبواب التسليم بالهزيمة، فمنهم من انتحر ومنهم من ينتظر وما بدّلوا عن خوفهِم وفزعهِم وتَبْليلِ (أنْدر ويْرهِم) تبديلا، أو تبليلا!
بكاملِ هِندامِهم... بأرقى إطلالاتِهم... بمجسّاتِ تواضعِهِم أمام أهلهم وضيوف غزّتهم... بلفتاتِهِم المعبّرة (كادو cadeau لكل أسيرة)، بسياراتِ (كيدِ العِدا)، وأحسنِ إعداداتِ لحظتهِم، وبعيدًا عن مصطلحات مكرورة (حرب غير متناظرة.. غياب التماثُل... الخ)، أعاد أبطال المقاومة الفلسطينية تعريفَ مفاهيمٍ أكلَ عليها الدهرُ ولمْ يشرَب، حول النصر والهزيمة، والنقاط.

المقاتل الأنيق 


والضربة القاضية، حول حياة ما قبل الموت وما بعدها، ولا أوضَح، هنا، من أبي تمّام يبشّر بِفتوى السيف وآفاقِ عمّوريّة:
"السَّيْفُ أَصْدَقُ إِنْبَاءً مِنَ الْكُتُبِ فِي حَدِّهِ الْحَدُّ بَيْنَ الْجِدِّ وَاللَّعِبِ
بِيضُ الصَّفَائِحِ لاَ سُودُ الصَّحَائِفِ فِي مُتُونِهِنَّ جَلاَءُ الشَّكِّ وَالرِّيَبِ
وَالْعِلْمُ فِي شُهُبِ الْأَرْمَاحِ لاَمِعَةً بَيْنَ الْخَمِيسَيْنِ لاَ فِي السَّبْعَةِ الشُّهُبِ". 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.