" لا يد لي في وجود تلك الفتاة/ لقد فرضت نفسها بداخلي"
قد يمثّل هذا المقطع أحد المفاتيح لولوج العالم الشعري للشاعرة المكسيكية غلوريا غيرْفيتز/ Gloria Gervitz (1943 ــ 2022)، فعلى مدار أكثر من أربعة عقود ظلت غيرفيتز تتعقب دبيب ذاتها من خلال آخرَ يظهر ويختفي في أشعارها التي جمعتها في قصيدة واحدة "هجرات/ Migraciones"؛ قصيدة ظلت تنمو وتتمدد وتنتقل من طور إلى آخر، كما لو كان "حَمْلًا"، بتعبير الشاعرة في حوار أجري معها قبل سنوات على وفاتها.
تعود أصول غيرفيتز إلى عائلة يهودية أشكِنازية أوكرانية هاجرت إلى المكسيك مطلع القرن المنصرم. بدأت في كتابة "هجرات" نهاية 1976. وفي 1979 أصدرت نسختها الأولى التي حملت عنوان "شحاريت/ Shajarit"، قبل أن يتوالى إصدارها لاحقًا في نسخ منقحة ومُحيّنة. يتعلق الأمر هنا بشعريةٍ فريدةٍ لم تتوقف صاحبتُها عن إغنائها بتجربتها الشخصية في الحياة، وأيضًا بمرجعيات ثقافية ومعرفية نجحت في اجتذابها إلى قصيدتها من دون تكلف. وفي مقدمتها الموروث الشعري والصوفي العبري (القبالة اليهودية، كتاب الزّوهار...). ويمكن القول إن إصرارها على حصر تجربتها الشعرية في كتاب واحد عكَس تطلعها إلى كتابة نص واحد ومفتوح على غرار كتب الموروث المذكور.
قصيدة مثل "كتاب رمْلٍ"
كان أول مقطع خطّته غيرفيتز في "هجرات": "في هجرات القرنفل الأحمر، حيث تتفتح أغاني الطيور طويلة المناقير، ويتعّفن التفاح قبل الكارثة (...)". بدا لها ذلك المقطع حينها نوعا من الجنون، ولم يدُر في خلدها أنه سيغدو، مع انصرام السنوات، مشروعها الوجوديَّ. تصدّر ذلك المقطعُ النسخة الأولى من "شحاريت"، التي تعني "صلاة الصبح" في الديانة اليهودية. وسرعان ما بدأت المقاطع تتواردُ على مخيلتها، مثل "كِتابِ رملٍ"، بتعبير الناقدة الأرجنتينية مارِيا نيغْروني. كانت المقاطع تتدفق في صور واستعارات وإيحاءات لم تتردد الشاعرة في نقل بعضها من موضع إلى آخر، وكأن الأمر يتعلق بهجرات داخل "هجرات". كما حذفت في الطبعات الأخيرة ما رأت أنه زوائد، مثل الحروف الكبيرة، وعلامات الترقيم (باستثناء علامات الاستفهام)، وغيرها، كأنها تُحرّرها مما يمكن أن يحول دون مواصلة هجراتها.
تُذكِّر "هجرات" بالأعمال الشعرية المفتوحة، مثل "نشيد" للشاعر الإسباني خورخي غِيّين، و"شعر عمودي" للشاعر الأرجنتيني روبِرْتو خْوارُوث، وغيرهما؛ إنه عمل يستدرج أجيالًا من القراء إلى عالمه المتحول، الذي حرصت الشاعرة، في كل مرة، على تغذيته بالجديد في حياتها ورؤيتها إلى الذات والعالم. وعلى الرغم من أنها رأت، قبل وفاتها، أن النسخة الأخيرة من عملها (2021)، التي صدرت تحت عنوان "كُتبُ المقاومة" هي الأكثر قطعيةً ووضوحًا، لأنها الأقرب لما قصدت التعبيرَ عنه في تجربتها الشعرية، إلا أن "هجرات" تبدو وكأنها دائمًا في حاجة للمسة ما، على الأقل بالنسبة لمن قرأ كل نسخها التي صدرت منذ نهاية السبعينيات.
بين الذاكرة والرغبة
"هجرات" بحثٌ في الأعماق عمّا يصل الذاكرة بالرغبة؛ إنها هجرات لا تنقطع للأعمار والأجساد والأرواح والعقائد والأفكار والذاكرة والنسيان والرغبة والأمل والعزلة والخوف والشتات والألم والتضرع والزمن والصمت والشعر. والنساء اللاتي يسكن القصيدة هن من يمنحن الصوت الذي يغني ذلك كلَّهُ، هُنَّ من يُضفين الحميمية على التوتر بين الكلمة والتجربة، بين الوجود والذات، بين الذات والآخر.
تقتفي غيرفيتز أثر النساء اللاتي سبقْنها إلى العائلة والعالم، بشكلٍ يغذي ذاكرتها ورغبتها في كل ما ليس بوسعها أن تَكُونَه؛ فتجتذبُ صورَ الجدة والأم والأخت والمربية والصديقة والجارة وتدفع بها إلى مختبر قصيدتها. كلهنّ يعبرن ذاكرتها، في زمن ما، حاملاتٍ القصيدة باتجاه اللانهائي. تتحرر الجدةُ والأمُّ ونساءُ الأرض قاطبة من شروطهن الثقافية كي تسرحن خلسةً في البيوت وغرف النوم والمدن والقرى والبلدان والقارات واللغات والأديان والمذاهب والطوائف وعلاقات الحب والصداقة والأعمار والعصور؛ كل ذلك يجري خلف الجدران اللامرئية للقصيدة بما تمنحه من حميمية عابرة للزمان والمكان. إنها تجاربُ تخص نساءً أخرياتٍ، لكنها في "هجرات" تجاربُ دائمةٌ تتخطى حدود الزمان والمكان، كما لو أن الأمر له صلةٌ بإعادة كتابة تاريخ الأنوثة وجراحاتها؛ تلتحم صرخات النساء وعذاباتهن لتنفرط داخل القصيدة، ثم تلتحم من جديد. تقول غيرفيتز في مقطع من "هجرات": "لا يد لي في وجود تلك الفتاة/ لقد فرضت نفسها بداخلي"؛ مقطع يكشف نظرتها إلى الآخر في عالمها الشعري. وفي مقطع آخر: "لا أجد نفسي/ ولا أملك حتى شموعًا أحجب بها موتي". إنها الحميمية التي تمنح الكلمة سلطة التعبير عن التجربة المُعاشة. فالكلمة تصير صوتًا، والصوت يصير جسدًا، والجسد يؤول إلى كلمة تغدو مصدر كل شيء؛ الكلمة في "هجرات" هي ما يَخلقُ ويسمي، هي ما يُؤالف بين الجسد واللغة والعالم.
يرى الناقد الأرجنتيني راوول دورا أن شعر غيرفيتز ينبع من الأعماق، أو بالأحرى من الذاكرة. لكن اكتشافه يتم عبر الرغبة؛ في الذاكرة يتوهج ما كان وما هو كائن، بينما يبقى المتخيلُ (ما قد يكون) في زاوية مظلمة، تحفه الرغبة العارمة. في "هجرات" الحواس كلها متوثبة، ما يسمح باجتراح أشكال مختلفة من المعنى، تتساوق مع المحسوس الذي يحقق الإثارة.
الجسد المتعدد وفائضُ الآخر
وظفت غيرفيتز الموروث الديني العبري (الذكوري بطبيعته) لإعادة اكتشاف الجسد الأنثوي الذي استبعده هذا الموروث من دائرة السلطتين الدينية والاجتماعية. وبذلك منحت هذا الجسد تعدديته المصادَرة. لا مكان للفحش في "هجرات"، لكن في الآن ذاته، لا مكان فيه للخجل؛ في كل مواضع القصيدة، يجد القارئ أثرًا لجسدٍ ما، إنه الحاضر والغائب، المنكشف والمُنحجبُ؛ "أستمع إلى أنفاسي/ التي هي أنفاسك أيضًا" (...) " أصابعك مثل رخويات دافئة تَشْرُدُ بداخلي". إن بشرة الجسد، كما يقول ميشيل سيريس، مستودع الذكريات ومخزن التجارب والخبرات. إن الإثارة الجنسية ليست شرطًا للأنوثة، بل موقف منها، والهجرات تحدث حين تتغير أطوار هذه الإثارة في علاقتها بالذات والعالم. لذلك يشكل الماء عنصرًا داخل "هجرات"، بللٌ في كل مكان؛ "مثل يونس في بطن الحوت".
تقول غيرفيتز في حوار معها إن "الحياة في جانب منها حلمٌ، جزء من حياتنا نُشكّله بخيالنا ليصبح في صلب أحلامنا، على الرغم من أن لا علاقة له بالواقع". يبدو ذلك على صلة، وفق غيرفيتز، بما نحن عليه، أو بالأحرى بما يُطلب منا أن نكون عليه؛ لسنا مجرد شخص واحد؛ هناك ما نحن عليه، وما يُطلب منا أن نكون عليه. أحيانًا لا نصل إلى أن نكون الشخص الذي نحبُّ أن نكونه، لكن هذا الشخص يظل في داخلنا طيلة حياتنا.
تنساب المقاطع في "هجرات" بشكلٍ تبدو فيه الذات وكأنها تدور في حلقة مفرغة إلى أن تسقط الحدود بينها وبين الآخر؛ إنها الذات التي تكتفي بوجود الآخر في ثناياها؛ هناك موتى كثيرون يعبرون من زمن لآخر، موتُهم هو ما يسمح لنا، كأحياء، بفتح قلوبنا لهم، وإخبارهِم بأشياء ما كان في وسعنا قولها لهم وهم على قيد الحياة. إنها معضلة انتماء الأحياء للموتى، بتعبير غيرفيتز دائمًا.
شظيةُ نافذة
(...)
في هجرات القرنفل الأحمر
حيث تتفتح أغاني الطيور طويلةِ المناقير
ويتعفن التفاحُ قبل الكارثة،
هناك حيث تتحسّس النساء نهودَهن ويلمسن أعضاءهن
في العرق العالق بحبّات الأرز وموعد الشاي،
تتدفق الكرومُ عبر الشيء ذاته،
مدنٌ تمتلئ بالأفكار،
أربعاءُ الرماد،
أغنيةُ مهد قديمة تحدق فينا من شعاعِ ضوءٍ،
بِرَكُ ظِلالٍ تتنفس،
السماءُ تُمطرُ أرجوانًا،
الحرارة تلتهم كل شيء،
في الأسفل، شارع تحت ضوء القمر،
نحن بهشاشة أوراق الخريف،
في الحديقة المستطيلة
في أيام الصيف الحارة
عندما تكون الألوان الفاتحة هي الأكثر دفئًا،
بعد صلاة الصبح
أدعيةٌ قاسيةٌ ومنسيةٌ،
رياحٌ خفيفةٌ تهب مع الصلاة،
في غابة "البيروليس"
كانت جدتي تعزف السوناتا ذاتَها دائمًا،
عند ناصية شارعٍ مشمسٍ
يتفتت الثلج في يد طفلةٍ،
رجلٌ يتصفح جريدة بينما ينتظر الحافلة.
يتكسر الضوءُ،
الغسيلُ تحت أشعة الشمس،
سوناتا الجدّةِ المنيعةُ،
قد قلت إنه كان صيفًا،
آهٍ منكِ أيتها الموسيقى.
(...)
أنا الآن حيث الطيور المحاكيةُ من حولي،
أدنو أكثر فأكثر،
عندما أمتلك ذلك المدى،
بالكاد سيكون بوسعي أن أستيقظ من الموت بسرعةٍ.
الضوءُ يرجُّ الهواءَ،
نحن حيث تتفتّحُ الألوانُ،
إنها أيام طويلة ومزدحمةٌ مثل صداعٍ نصفيٍّ.
كل شيء يتكرّرُ،
الأشجارُ تسرحُ،
الليل يتبدّدُ.
ماذا بعدُ؟
الحقيقة الوحيدة طيفُ حلمٍ أريدُ كسرَه،
لكني لا أجرؤ حتى على الحلمِ،
انتحالٌ دائمٌ لنفسي.
لا مُلتقى إلا الوقتُ، لا شيء غير الوقتِ،
حيث قليلٌ من نباتات البوغَنْفيليا في كوب ماءٍ
يكفي لنُقيم حديقةً.
لأننا نموت وحدنا،
فالموت بالكاد صحوةٌ من هذا الحلم الأول بالحياة.
(...)